في أرقى مناطق وشوارع لندن, كان بيته. من كان يصدق أن ابن "الحلونجي" الذي كان يدور حاملاً على رأسه "صدر الحلويات" التي يصرف ليلة في صناعتها في بيته: "بقلاوة", "كنافة", "معمول بالجوز واللوز والتمر", و"زنود الست", و"عش البلبل", و "كل وأشكر"... يبيعها في حواري وشوارع طرابلس, سيهز بقلمه العالم العربي, وستفتح له أبواب القصور على مصراعيها, ويحتفي به ويغدق عليه حَمَلة الصولجانات.
أي رجل هو سليم اللوزي؟
أي رجل يختفي وراء الكلمات البتَّارة, يجدلها في مقالاته وإجاداته, فهو من أصحاب الممتعات التي لها رنين بعيد, يتناهى وراء القصد إلى أبعد ما تلتقط العين وتحس الأذن, يهبط العمق على المسائل والقضايا بجرأة, غير هيّاب.
دار ذهني على هذه الأسئلة, وراحت الأفكار تصطرع في رأسي. رِزْتُ مرات عدة الكلام الذي أخذت أرتبه تحضيراً للقاء الذي كان بالنسبة إليَّ خشبة خلاص, وفرصة للخروج من الأزمة المالية والنفسانية التي وضعت فيها مع رياض نجيب الريس و"منارة" المنطفئ.
استعجل طلوع الصباح, لألتقي الرجل الذي تكونت عندي ملامح شخصيته مما سمعته عنه, ولم يكن ما سمعته كله فيه ورود ورياحين.
انتصف النهار, رقصت الشمس في قرص السماء الصافية على غير عادتها في أيام خريف لندن. سبقت الوقت المضروب للقاء, فرحت أحوم حول Sloane Avenue حيث البيت, والموعد و... كل الأمل.
والشارع في قلب منطقة "تشلسي" Chelsea أعرق وأجمل ما في مناطق عاصمة الضباب. و"سلون أفينيو" أخذ اسمه من اسم اللورد هانس سلون" الذي كان اشترى المنطقة المحيطة سنة 1712, ولا تزال عقارات كثيرة مملوكة من ذريته, أبرزها "كادوجان" Cadogan .
و"تشلسي" الى ذلك, أرستقراطية بامتياز, وقَبلة السياح, والسياح العرب تحديداً, تجذبهم فيها محال Harrods التي كان اشترها المصري محمد الفايد وباعها فيما بعد من جملة ما باع وَفَقَدَ، وخصوصاً ابنه دودي الذي قضى مع الأميرة ديانا في حادث سيارة مريع في "جسر ألما" Pont de l’Alma في باريس (31 أغسطس 1997), فترك الفايد لندن ومن فيها، وتقف محال Harvey Nichols ضد الزمن, تكبر في عدد السنين ولا تشيخ, فاتنة الناس بطلّتها, وزينتها, وأناقتها, وعطورها.
وتدور, ويدور رأسك على أسماء المتاجر والفنادق, والمطاعم من كل مطابخ العالم.
وتمشي, ويمشي الوقت في يدك على عقارب الساعة, وتقف أمام الباب رقم 19 في الشارع العريق.
تفتح لك فتاة فيليبينية ترتدي لباساً خاصاً, ترمي عليك مع ابتسامتها السؤال، تجيب, تبتسم, كأن سيدة البيت قد حفظّتها اسمي, تمشي أمامي إلى ردهة الاستقبال. تطل عليَّ سيدة متوهجة الوجه, على أناقة ملفتة. مدّت يدها, زارت وجهي بعينين مستفسرتين, قالت بنبرة هادئة:
_ "أمية اللوزي".
أجبت, وأنا أسحب يدي من حضن يدها:
- "مودي حكيم".
ابتسمت ابتسامة وجدتها هى ضرورية, لتشعرني بشيء من الراحة, ثم قالت بلباقة:
- "آه.. أهلاً وسهلاً.. الأستاذ في انتظارك".
ونزل "الأستاذ" على دَرَج من الطابق الثاني للشقة, وخلفه رجل طويل القامة, أسمر الوجه, صَبَغَ المشيب خصلات شعره.
رفرف بذراعيه, تقدم نحوي, رِبعة في القامة, العينان في وجهه تلمعان ببريق غريب, ويشع منهما صفاء ظاهر.
لم يكن وجه سليم اللوزي مما يسهل قراءته. صوّب عينيه في وجهي, تملاني, ثم انهمرت ابتسامة جذلى من فمه, وكل وجهه, فرطحت أنفه, الذي بدا في تلك اللحظة غليظاً:
_ "إزيك.. عامل إيه؟".
قالها بلهجة مصرية أصلية, كأنه اشتاق إليها, فراح يخلط الكلام, ويلونه باللهجتين اللبنانية المحببة إليَّ, والمصرية التي تمكّن منها خلال سنوات عمله في "روز اليوسف".
استدار, عرّفني على الرجل الطويل القامة:
- "إسكندر أيوب".
وباعتداد:
"المدير المالي المسؤول في "الحوادث".
مشى إلى ردهة الطعام, أومأ, تبعته وخلفي إسكندر أيوب, جلس "الأستاذ" إلى رأس الطاولة الكبيرة التي تقسم الردهة إلى قسمين, وإسكندر أيوب قبالتي. وعرفت أن كل لقاءات العمل التي تجري في البيت تدور في هذه الردهة, وإلى هذه الطاولة جلس قبلي العديد من الذين تعاملوا مع "الحوادث"... وغالباً, عرفت أيضاً فيما بعد, أن تلك الطاولة شاهدة على العديد من اجتماعات التحرير, فكان يجلس إليها جهاز التحرير, ويدور الحكي والنقاش, وتطول الجلسة.
اصطدمت عيناه بوجهي, شعرت بأن كلاماً يحتشد في داخله, حاول صوته أن يتحرر من صمته, ترنحت أعطافه: "لم أكن أعرف, إلاّ البارحة تحديداً, أن هناك ما يجمع بيننا".
ترك سليم اللوزي كلامه هكذا عائماً, وقصد به تحريضي على السؤال, فتفاجأ بالجواب: "روز اليوسف".
وسكت, أدركت أنه يريد مجرد "كسر الجليد" Break the Ice (على ما يسميه علماء النفس) بيننا, وهو أسلوب إلغاء الحواجز ورفع الكلفة, وجعل المتحدث إليك يشعر بمزيد من الاسترخاء والراحة, فتتمكن منه وتمتلك انتباهه امتلاكاً كاملاً, فيأنس إليك, وتتغير بعد ذلك الجلسة, ويصبح النقاش أسهل وأصفى, ويدور في جو مريح.
لم تقف أفكار سليم اللوزي عند ذكر أيامه في المحروسة, بل شدّت به إلى ذكر الست روز, وكَرَّت معها صور جمعها بكلماته المشبعة بالود, ورسمها بدقة عن المجلة التي علَّمَتْهُ, والست التي تَعَلَّمَ منها الكثير.
أخذ نفساً عميقاً, تاهت نظراته في فضاء الغرفة, وكمن استرد وعيه, راح يسرد ما أتاه من سابق أيامه في مصر: "لا أزال أذكر كيف وقفت أمام المبنى القديم في "حى المنيرة ", وكيف غمرني الفرح وأنا أقرأ اسم" روز اليوسف" على المدخل.. وأذكر أنني سألت, فدلّوني على مكتب إبراهيم خليل، مدير المجلة, وعلى الرغم من أنني طوال الطريق إلى "حى المنيرة ", كنت أحضّر في ذهني الكلمات التي سأقدم نفسي بها, إلاَّ أنني نسيتها وأنا أصافح الرجل الوقور".
نظر من خلال دخان السيجار الهافاني الفاخر, فرآني متنبهاً, متشوقاً, ومستسلماً لحديثه:
-"تعرف, يا أستاذ, من أين بدأت؟".
ولم ينتظر الجواب, أكمل بطاووسية ظاهرة:
- "من المطبعة".
وأراد أن أتعجب, وأن أكرر كلمة "مطبعة" وخلفها ألف علامة استفهام وألف تعجب, بقيت صامتاً, عاد إلى الكلام يجمعه بتأن واعتداد:
- "نعم من المطبعة, وفيها كنت أراجع "بروفات" مواضيع كبار الكتّاب والمحررين, وأهم سياسيي البلد وقتها, وكنت أقرأ بتمعن وبتمهل, وأتعلم مما أقرأ".
تلامح الحزن على قسمات وجهه, تغيرت نبرات صوته:
- "سقى الله أيام القاهرة.. القاهرة كانت وكانت, وما عادت كما كانت" والقاهرة التي "كانت وكانت", وعاش فيها سليم اللوزي أبهى زمنها, كانت تتنافس فيها ثلاثة "صالونات" أدبية وفكرية, تمثل الوجه الثقافي والحضاري للمحروسة.
وكان سليم اللوزي, على ما حكى لي لويس عوض وزكّاه محمود السعدني, يرتاد "الصالونات" الثلاثة.
وربما كان صالون "شلّة الأهرام" من أهم تلك الصالونات, وكان ينعقد في منزل أنطون الجميل رئيس تحرير جريدة "الأهرام"، فبعد "تشطيب" العدد (كما في لغة المطبخ الصحفي) ومثوله للمطابع, أي الساعة الحادية عشرة ليلاً, ينعقد الصالون, وتنزل على الكلام, حتى ساعات الفجرية, قضايا سياسية وفكرية وثقافية...
وكان أنطون الجميل, في كثير من الأحايين, يقرأ على زواره مقالاً وياخذ رأيهم فيه, فيعدله وفقاً لاقتراحاتهم. في ذلك الصالون, تعرّف سليم اللوزي على مصطفى أمين و كامل الشناوي…
وكان يستعجل الحضور إلى صالون حلمي عيسى باشا, الذي كان ينعقد في فندق "كونتيننتال" الفخم, وكثيراً ما كان يشارك في هذا الصالون الأدبي فارس الخوري رئيس الحكومة السورية, وتوفيق الحكيم, أحمد حسن الزيات, أسعد داغر, إبراهيم المازني، وكامل الكيلاني أشهر قصاصي الأطفال.
وكان سليم اللوزي يشعر بالمتعة عندما يتحدث الى توفيق الحكيم, قبل وخلال صالونه الذي كان يعقده الحكيم عند رصيف عمارة "إيموبيليا" في شارع شريف.
في هذه الصالونات الأدبية التي كان سليم اللوزي يواظب على المشاركة فيها, والتعرف فيها على القامات الفكرية والأدبية والسياسية في البلاد, بدأ يتعلم, ويجرب, ويكتب باستمرار, ولا يسأم مراجعة ما كان يكتب, يلغي ويشطب, ويعيد الكتابة والتشطيب, حتى وجد أسلوبه المميز والمتميز في الصياغة والتناول, فكان جذاباً, دقيق العبارة, جذلاً, على عافية في اللغة, بمجرد أن تتعلق العين بأول مقطع منه, يجد القارىء نفسه مضطراً للقراءة حتى آخر كلمة.
وراح سليم اللوزي يرتقي درجات سلم "روز اليوسف". فمن المطبعة وقراءة "بروفات" المحررين والكتّاب, إلى طاولة جلس إليها في غرفة تضم أربعة محررين.. ثم في نقلة أخرى, التعامل مباشرة مع محمد التابعي, سيد القلم والحرف والكلمة في الصحافة المصرية, ونشر مقالات تُذيّل بتوقيعه.
وراحت مقالات وتحقيقات الشاب الآتي من لبنان تلفت انتباه الست روز, التي تتعرف على الصحفيين في مجلتها من خلال ما تقرأ لهم, وكان كل صحفي جديد ينتظر طويلاً حتى تمنُّ عليه الست روز, أن تراه وتتحدث إليه. وحدثت المفاجأة..
أرويها العدد القادم..



