الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

وراحت مقالات وتحقيقات اللوزي الشاب، الآتي من لبنان، تلفت انتباه الست روز.

ذات صباح، دخل سكرتير الست غرفة المحررين الأربعة، ووقف أمام طاولة سليم اللوزي، وقال له بنبرة فيها نفحة آمرة:

"يا أستاذ... الست عايزاك".

أدرك سليم اللوزي أن عليه أن يترك لديها انطباعًا مؤثرًا في أول لقاء، وإن لم يتمكن من ذلك، خسر فرصة لا تعوض في العمل في أهم مجلة سياسية في العالم العربي.

ودخل مكتب الست روز، كانت منهمكة في الاطلاع على أوراق مكدسة أمامها، تفّرها على مهل، تمرر قلمها على بعضها.

تنحنح، انتظر، على مهل رفعت عينيها. سألته بوّد:

"أنت سليم اللوزي". "أنا هو".. رد بثقة لفتتها "كم تتقاضى في الشهر؟" وظل نظرها يدور على وجه الشاب ابن الرابعة والعشرين من سنيه. "ثلاثة جنيهات".

هزت رأسها، يمينًا ويسارًا مثل رقاص الساعة، وقالت ممتعضة:

"لا.. لا.. أنت تستحق راتبًا شهريًا أكثر من هذا".

ابتهج في أغوار نفسه، أحس بانتعاشة غريبة، وقد أدرك في قرارة نفسه بأنه نال الرضا، ورضا الست روز غالٍ، فرد على الفور، وبذكاء حاد:

"يكفيني أن أكون في مؤسستك، وهذا هو أجري الحقيقي، وما تمنيته دائمًا".

تهلل وجه الست روز ثم استجمعت وقارها:

"اسمع يا سليم..."

وسكتت هنيهات، كأنها أرادت أن تستزيد من قراءة ملامحه:

"صحيح أننا من بلد واحد ومدينة واحدة، لكن هذا لن يؤثر في أي يوم من الأيام عليَّ، أو على أي شيء يخصك هنا في المؤسسة، المهم عندي أن الصحفي الذي يكتب اسمه في مجلتي أن يكون موهوبًا، لمَّحًا، لماعًا، وأن يتحمل الأهوال لكي يصل، يصل إلى فوق... فوق".

و... تحمل سليم اللوزي الأهوال.

نقلته الست روز من غرفة المحررين الأربعة إلى سكرتارية التحرير، يراجع المقالات ويسبح قلمه فيها، متى احتاجت إلى "صوغها" (على لغة أهل الصحافة) أو تقديم أفضل، وفي أحايين كثيرة كان يعيد صياغة الأخبار، ويغيّر ويستبدل العناوين.

ونستل، هاهنا، من مذكرات إحسان عبد القدوس وهو يحكي عن مرحلة عمل سليم اللوزي في مجلة "المدام"، كما كان الابن إحسان ينادي أمه:

"كنا في "روزاليوسف" نعمل كخلية نحل، نتحرك هنا وهناك، مسرعين في صعودنا وهبوطنا على السلم. كان في أعماقنا حماس مشتعل بالأمل والفرحة. كنا كمن يولد من جديد مع صدور كل عدد من "روزاليوسف"، وفيه نحقق نصرًا سياسيًا".

في ليلة صدور العدد، كانت هناك طقوس نمارسها لاستقباله. نجمع صفحات المجلة وقد اكتمل تصحيحها، وكانت تصدر في 36 صفحة في ذلك الوقت. وكان سليم اللوزي يحب هو أن ينقل الصفحات من مبنى "روزاليوسف" إلى "مطبعة البلاغ"، كان يحتضنها، وكنا كلنا نرافقه إلى "البلاغ"، حيث المطابع الضخمة.

كانت عملية الطبع متعة نعيشها كل أسبوع غير مصدقين. وبعد أن تخرج المجلة، كان صوت سليم ينطلق غناء مع الساعات الأخيرة من الليل، ويحمل كل واحد منا نسخته. ونسير معًا في شوارع القاهرة، يرافقنا صوت سليم،

ونقف أمام كل بائع صحف، نراقب الناس وهم يتهافتون مع الفجر على شراء "روزاليوسف". نطمئن إلى أن العدد وصل إلى الأيدي الأمينة، فنختار أحد المطاعم الشعبية، إذ يكون الجوع قد بلغ ذروته، ونبدأ بأكل الفول والطعمية".

ونقرأ بعد عن سليم اللوزي بكلمات إحسان عبد القدوس:

"سليم، وحده كان يذهب ولا ينام، إذ يعرف برنامج "المدام" فقد كانت تذهب إلى بيتها الواقع في شارع يوسف أفندي في "باب اللوق"، تصل، تفتح باب غرفة نومها، تبدل ثيابها، وتأتي بالمجلة إلى سريرها.

لم تكن تغفو إلا لساعات قليلة جدًا، بعد أن تكون قرأت العدد من الغلاف إلى الغلاف. يزورها النوم فيملؤها حيوية واندماجًا.

ومع بداية شروق الشمس، كان سليم يخرج من غرفته في شارع محمد توفيق القريب، ويسير في اتجاه بيت روزاليوسف، كان يحب أن يشرب قهوة الصباح، صباح العدد الجديد، ونهار جديد معها، وهي تشرب النعناع. وفي حين تبدأ هي الاستعداد للخروج والعمل، كان يعود هو إلى غرفته لينام.

كانت تعرف أنه بقدر ما تحب هي شروق الشمس وسطوعها، كان هو يحب غروب الشمس وانكسارها على أطراف الليل. فكانت تقول له:

"إنك تشبهني في أشياء كثيرة، ما عدا استمتاعي بشروق الشمس، واستمتاعك بغروبها"

ومع مرور الأيام والأشهر، صار سليم اللوزي من أقرب الناس إلى الست روز وأخلصهم لها، وهي بادلته الشعور ذاته، وصارت، يومًا بعد يومًا، تأخذ برأيه وتعتمد عليه، وتأتمنه على القليل والكثير... وكان هو، إلى جانب جرأته، حلو الحديث، ظريفًا، تستأنس الست روز بحديثه ونوادره، وكلما أرادت أن تتخلص من متاعبها، وتبعد عن هموم المكتب والمجلة، والساسة والسياسة، وترتاح، تطلب منه أن يرافقها إلى مطعم "بلير" في "شارع الهرم"، حيث كانت هي تتناول الطعام، ويكتفي هو بالقهوة والتدخين.

وتنقضي أيام سليم اللوزي في المحروسة، مليئة بالإنجازات والمواقف السياسية الجريئة، والمقالات التي كان يكتبها بالكلمات المسننة، وقعًا وواقعًا، على حد السيف. وبسبب مقال "نوم العوافي" الذي نشرته "روزاليوسف" في العدد 1142 الذي كان صدر في مايو (أيار) 1950، وفيه هاجم مصطفى النحاس باشا، صدر بحقه قرار "طرد" من الأراضي المصرية.

ولنا عودة إلى ذلك المقال، وإلى ما لم نقله هنا عن أيام سليم اللوزي في القاهرة.  

تم نسخ الرابط