في ظل اتساع كبير لعدد ساعات الدراما التليفزيونية فى رمضان 2022، واتصالها بالإنتاج الكثيف لمراكز الإنتاج العربية، أصبح من الصعب للناقد الفرد أن يحيط علماً بكل هذا العدد من الساعات الدرامية حتى يستطيع ممارسة المقارنة النقدية.
ولذلك فالأمر يحتاج لجهاز للقراءة من مجموعات عمل متخصصة، ولأن ذلك يبدو أيضاً أمرًا غير متاح، فالمحاولة التي تقترب من الموضوعية، هى محاولة أراها تبدأ من متابعة ردود أفعال الجمهور، وهى ردود أفعال وآراء حقيقية لأفراد طبيعيين هم المتلقى المستهدف.
ومع سهولة التعبير عن الرأى، عبر وسائل التواصل الاجتماعى وقدرتها على التأثير اللامحدود، يمكن رصد ردود الأفعال الطبيعية، والتي يمكن تمييزها بسهولة ضمن سياقات لمجموعات عديدة منحازة.
أتحدث بالتحديدعن ضرورة تمييز الآراء الصادرة عن أفراد طبيعيين لا يعبرون إلا عن أنفسهم.
وهذه الآراء ربما تصبح دليلاً للناقد المهتم بموضوعية الرأى فى ظل تلك الكثافة الدرامية التي يصعب على فرد إدراكها بمفرده. مما يدفعنا إلى أمرين:
الأول: أمر تنظيمى يعيد تنظيم كل تلك الساعات الدرامية إلى أعمال أكثر إبداعية وتركيزًا، وفى هذا الصدد يمكن التنسيق مع مراكز الإنتاج العربية.
فقد كانت الساعات الممكنة القابلة للاستيعاب الجماعى هى مصدر صناعة النجوم الجدد، فى المواسم الرمضانية الدرامية، فى مرحلة ما قبل البث الفضائى التليفزيونى الكثيف.
وهو الأمر الذي يمكن إدارته عبر الحوار المثمر بين مراكز الإنتاج، وغرف إنتاج الدراما التجارية، والنقابات المهنية، وغيرها من المؤسسات العاملة فى مجال مخاطبة الجمهور العام، والمؤسسات ذات الصلة.
وهو الأمر الذي يستهدف عودة التنوع الفعال، مثل الدراما الدينية والدراما التاريخية وغيرهما، والتنسيق الباحث عن الجودة فى شراكات ممكنة بين مراكز الإنتاج، والجهات المنوط بها النشر العام، مثل القنوات الفضائية والمنصات الإلكترونية المتعددة.
وفى هذا الإطار التنظيمى، يجب استعادة مسألة المواسم الدرامية، وهى مواسم تاريخية قابلة للاستعادة كانت تحدد توقيتات البث وفقا للحركة المتوقعة للجماهير، وإمكانية تجمعها أمام أجهزة العرض المنزلية، مثل دراما الثامنة الشتوية التي اعتاد عليها المصريون سابقًا. فهناك موسم شتوى وموسم فى بداية الصيف بعد انتهاء الدراسة، ومواسم فى الأعياد والمناسبات الوطنية المتعددة، خاصة أن تجربة العرض خارج الموسم الرمضانى قد أثبتت نجاحها منذ عدة سنوات، وهو ما يمكن تذكره بدراما (لؤلؤ) الناجحة.
وذلك لأن الكثافة الدرامية الرمضانية أثبتت بالفعل عدم قدرة المشاهد على متابعتها، لأنها تعبير عن تعددية عددية كبيرة، وليس تنوعاً فى الألوان الدرامية المختلفة.
إذن يجب الاعتراف نقدياً بقوة الجمهور وتعبيره عن رأيه، فى إطار نقدى يمكن تسميته بجهاز القراءة أو بعملية التلقى.
وهو الأمر الذي يجب تصديقه لمنع التشتت، ولصنع المشاهدة الجماعية الكثيفة التي تصنع الوعى العام المشترك جمالياً وفكرياً.
مما يساهم فى صنع حساسية جماهرية مشتركة، وهو الأمر المستهدف من المطالبة بضرورة تنظيم المواسم الدرامية، وتقليل عدد الساعات الدرامية الرمضانية.
إنه فعل التلقى الجماهيرى، أو فعل القراءة للأعمال الدرامية، والذي يحتاج لجماعية المشاهدة.
ذلك أن العمل الفنى عموماً وفقا لنظرية التلقى يتكون من "طبقات أربع" هى:
(أ) طبقة التجلى المحسوس أو الصياغات الصوتية والبصرية.
(ب) طبقة المعنى.
(ج) طبقة الموضوعات القابلة للوصف وللتسمية.
(د) الرؤية الفنية والفكرية الخاصة التي يصور منها الكاتب والمخرج موضوعه.
أما الأمر الثانى: فهو أمر متعلق بطبيعة وجوهر الدراما التلفزيونية.
وهو أمر تاريخى، لم يتغير، وعلينا إعادة تأمله وإعادة الاهتمام به، ألا وهو كون الدراما التلفزيونية دراما منزلية بالأساس.
ودراما منزلية هو تعبير نقدى، يعبر عن الجمهور الذي تستهدفه الدراما التليفزيزنية، ألا وهو جمهور المنازل والتجمعات العائلية بالأساس.
وقد كان هذا الفهم التأسيسى منذ نشأة الدراما التليفزيونية فى محطة البى بى سى (B. B. C) الإنجليزية حاضراً إلى سنوات قريبة قبل أن يتم خلط المفاهيم.
فالعودة لاستهداف الجمهور العام فى المنازل، وهو جمهور عائلى، ضرورة فى تحديد اختيار الموضوعات وطريقة معالجتها.
كان الاهتمام الاجتماعى هو محور الدراما التلفزيونية، وكانت السينما مختصة بتقديم الموضوعات الشائكة، وكان المسرح هو المصدر الرئيس لمناقشة أسئلة الوجود الإنسانى.
هذه العناصر لم تكن حادة لا تقبل التداخل، لكنها كانت هى دوائر العمل الأساسية المتفق عليها ضمنيا لدى الفنانين العاملين فى الدراما التليفزيونية، وفى السينما والمسرح.
وهو الأمر الذي أصبح الآن غير متعارف عليه، إذ انطلقت الدراما التليفزيونية بتقنيات سينمائية مدعومة بتطور تقنى فى إمكانيات التصوير والإضاءة والمونتاج.
حتى خرجت من خصائصها وجوهرها ووظيفتها الأساسية التاريخية.
وقد حدث ذلك وفقاً لتفاعلات عديدة وتغيرات جوهرية فى فعالية دور العرض المسرحى والسينمائى، وابتعاد الإنتاج المسرحى والسينمائى أيضا عن خصائصه ووظائفه الجوهرية.
وهى المسألة التي حدثت مع اتساع المنصات الإلكترونية وأسباب عديدة أخرى.
وبالتالى يمكن ملاحظة الاهتمام الجماهيرى بدراما "فاتن أمل حربى" لقدرتها على تناول موضوع يهم الجمهور العام، ألا وهو موضوع العلاقة بين الأزواج ومسألة قانون الأحوال الشخصية.
ولا شك أن الكاتب إبراهيم عيسى، والمخرج محمد العدل، يقدمان مع فريق العمل نظرة منحازة لمظلومية المرأة.
ولذلك أحدث العمل هذا الاستقطاب الحاد فى العالم الواقعى، ويمكن رؤية ذلك فى التناقض الحاد فى تعليقات الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعى.
لا شك أن رؤية المخرج محمد العدل وطريقته فى صناعة المشهد لهى مقترب يعبر عن رغبة جمالية فى تصوير الواقع. إلا أن المبالغة فى تصوير فظاظة الزوج فى دراما فاتن أمل حربى، هى مثار الاهتمام، ومصدر التوتر.
ذلك أنه أيضاً- على أرض الواقع - كم تم قهر رجال بقانون الحضانة، وكم حدثت مظالم نسائية قهرية ضد الرجال.
إبراهيم عيسى عليه أن يتأمل حالات أخرى، لأن دراما "فاتن أمل حربى" حالة درامية خاصة لا تنظر بموضوعية للظروف العامة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تهدد مؤسسة الزواج فى مصر، ولذلك تبقى دراما منحازة لمظلومية المرأة.
إنها الدراما الأقرب لتناول مشاكل الأسرة المصرية، لكنها منحازة جداً وصادمة، وأخطر ما فيها محاولة تعميم الحالة الخاصة عبر النقاش المجتمعى الواقعى، الذي يسحب النقاش من العالم الدرامى الافتراضى لأرض الواقع.
ومحاولة إدماج القضية فى سياق القراءة الشرعية لقانون الأحوال الشخصية، بدخول مراجعها الفقهى د. سعد الدين الهلالى، فى الحوار المجتمعى الساخن حولها، يصنع لها امتدادًا واقعيًا صادمًا، خاصة مع تصريحات مؤلفها حول حقوق المرأة المتعددة فى إطار شرعى.
إلا أن دراما "فاتن أمل حربى" تؤكد أن الاقتراب من الواقع والتناول الإبداعى لقضايا حقيقية لهو أمر يثير الاهتمام العام، وفى تقديرى يحتاج الرجل فى مصر لمن يتحدث عن معاناته عندما يكون أبًا وزوجًا، فى ظل متغيرات اجتماعية عديدة.
ولذلك ورغم المبالغة والانحياز فهى دراما تنتمى لجوهر الدراما التليفزيونية، فى خصائصها الجوهرية، ألا وهو مناقشة القضايا الاجتماعية الحيوية.
إلا أن الرغبة النقدية التي تجتاحنى فى الدعوة لإعادة تنظيم الإنتاج الدرامى التليفزيونى الكثيف فى رمضان، هى التي تسيطر على تفكيرى، حتى يمكن لنا الحديث عن مشاركات جماعية فى المشاهدة، تحقق الأثر الفعال الذي يستهدفه الإنتاج الدرامى فى رمضان.



