الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

كان اسمه نور، ولكن الناس لا يعرفونه بهذا الاسم، هم ينادونه "الحِلْوَنْجي"، حتى كاد، هو نفسه، ان ينسى اسمه. نور اللوزي، وهذا اسمه الحقيقي، ما كاد يفك الحرف، حتى أرسله والده لتعلم صنعة الحلويات الشرقية عند عبدالرحمن الحلاب "سيد الحلويات"، وصاحب أعتق مصانعها في طرابلس، خرج منها "صدر بقلاوة"، و"كنافة بالجبن" سنة 1881. ثم انتقل نور، بعدما بات يعرف بعض أسرار الصنعة، إلى مصنع عبد السلام التوم الذي راح منذ سنة 1919 يطوّر ويزيد على الحلويات أصنافًا جديدة، "زنود الست" و"عش البلبل"، "العوامات"،... فطار ذكره، مثل الحلاب، في طول وعرض المنفسح العربي.

بعدما تمكن من الصنعة وعرف أسرارها، وكانت له فيها سنوات من الكدّ، فأتقنها ومَلَكَ عنانها، راحت تصارع نور اللوزي رغبة ملحاحة في أن يكون سيد نفسه، وليس أجيرًا، فأخذ يصنع الحلويات في بيته حسب أصول تعلمها وأتقنها. فيحمل "صدور" الحلويات النحاسية، ويندار يبيعها في الشوارع والحارات وأماكن طرابلس العامة، ليعود إلى بيته مع دغشة الغياب عندما يسرع الليل في مداعبة آخر النهار، مهدود الحيل، ممصوصًا من التعب، والألم الذي يتكمش في قدميه من طول المشي والوقوف، فيريحهما بغسلهما بالماء الساخن، ليعود ينتصب عليهما، يصرف قسمًا كبيرًا من الليل في تحضير بضاعة اليوم التالي، تساعده زوجته فاطمة التي ارتضت به، وبقسمتها معه.

وما إن يمسح الصبح بيده عتمة الليل، حتى يبدأ نور اللوزي في توضيب صدور الحلويات، ويعطي وجهه للنهار، مستفتحًا بدعاء يتمتمه بسره، وهو يفتش بين الناس عن رزقه ورزق عياله.

كان نور اللوزي طويل القامة نحيلها، عريض الصدر، اسمر البشرة، في وجهه تدور عينان تعودتا على التنقل في الوجوه العابرة أمامه، تتفحصها بعينيه قبل صوته الأبح، كان ينادي الناس إلى حلوياته، فيقبلون عليه وعليها، يتلذذون بمذاقها الحلو.

ولا يخرج نور اللوزي من بيته إلا معتمرًا "طربوشا" ذؤابته مؤلفة من خيوط حريرية سوداء مصقولة، ومثبتة خياطةً عند حافته العليا. وكان يضع تحت "الطربوش" منديلًا تتدلى أطرافه فتغطي عنقه وأذنيه، لامتصاص العرق المالح الذي ترشه الشمس في الصيف. وفي الأعياد المأمورة وفي المناسبات كان يخلع البنطلون، ويتمخطر بالقمباز المقلم.

كان نور اللوزي قوي الشكيمة، لم يستشعر يومًا واحدًا ذل الفقر ومهانته، والعوز وضنكه، والحرمان من متع الدنيا، فظل قانعًا بما قُسِم له. خلط شدَّهُ بلينه، قساوته مع قليل من الحنو، وكثير من المحبة لأولاده الصبيان الثلاثة والبنتين.

بين الصبيان الثلاثة، كان سليم، ذهنًا وقادًا، واستحضارًا عميقًا أخاذًا. عصي المراس أحيانًا، قوي الحافظة، أوتي رهافة الحس والقدرة على سرعة الاستيعاب، دائم الحركة، فوارًا، شديد الاعتداد بنفسه، لا يكِل ولا يمِل من طرح الأسئلة والتساؤلات، ومعرفة الأجوبة، إن اقتنع سكت، وإن لم يقتنع ألحَّ ولَجَّ وجادل، وطلب المزيد. وراح سليم يتعلم على نفسه، وأدرك أن القراءة وحدها توسع وتفتح المدارك، فانكب على القراءة بنهم، يطالع كل ما وقع بين يديه من كتب عتيقة كان يدخر لشرائها من أسواق طرابلس العتيقة، أو قصاصات جرائد أو بعض القصص المصورة، يأتي عليها بشغف، يلتهم كل حرف، ويبحث عن معنى كل كلمة، ويطبع في ذهنه كل صورة يراها. وهو بعدُ تلميذ، أوتي جوامعُ الكَلَمِ، فكان خطيب مدرسته، مدرسة "النموذج" في كل مناسبة وعيد.

ومدرسة "النموذج" التي أخذته إليها أمه، كانت مدرسة الحرفيين والباعة والعمال، غير القادرين على سداد أقساط المدارس المتقدمة والمتطورة، مثل "الفرير" أو "مدرسة الأميركان"، أو مدارس الراهبات والرهبان ومدارس الإرساليات الأجنبية.

كان الصبي سليم يذهب إلى المدرسة في الصباح ويعود في المساء كسائر التلامذة، وبينما كانت حقيبة كتب رفاقه من الجلد، كانت حقيبة كتبه ودفاتره وأقلامه من القماش خاطتها له أمه، فكان يمسكها بيده، ويلوح بها في الفضاء، وهو يمشي ينقل نظره ويمرجحه بين المحلات، ويومض في ذهنه ألف سؤال، وتداخله ألف رغبة، تضرب أفكاره هائمة تبحث عمّا عَسَاهُ يكون غدهُ وقَدَرَهُ، في مدينة ناسها مستسلمون لها، يقرأ في عيون بعض المارين به وفي تقاطيع وجوههم كثيرًا من التساؤلات، وبعضًا من ملامح القلق.

بدت له طرابلس قاسية القلب على الفقراء والمعوزين، تلتهمهم. الحياة اليومية فيها طاحونة منهومة، لا تشبع ولا ترتوي.

كان سليم، الذي صار يافعًا، يريد الانعتاق من أسر الفاقة والعوز، و"الحلونجي"، والبيت الفقير، وجيرة الكادحين المطحونين، ومن حقيبة القماش، والانطلاق بعيدًا... بعيدًا إلى دنيا أخرى.

فقرر ترك طرابلس.

ذات صباح، وقف أمام والده، وقال بصوت يشي بضيقه:

"أريد أن أذهب إلى بيروت". برقت عينا نور اللوزي، جمع فيهما كل استغرابه، أدرك سليم أنه أصاب عصبًا حساسًا في والده، فقال برقة بالغة: أريد أن انتسب إلى "مدرسة الصنائع والفنون الجميلة".

بقي والده صامتًا، ركز نظره الحاد في وجه ابنه. قال سليم، كأنه يحدث نفسه:

"سأسكن عند عمتي طوال فترة دراستي".

وسكت. شعر أنه خذل والده الذي كان يريده أن يأخذ عنه الكار والصنعة، وربما تمكن من فتح محلات، يبيع ما يصنه بيديه، أو حتى يتعلم شغل الصاغة، فيصبح جوهرجيًا من قامات الصاغة، ولم لا؟ فكل لبنان وحتى كل العرب يأتون إلى طرابلس لشراء حلوياتها، واقتناء ذهب صاغتها.

طلع صوت نور اللوزي مشروخًا:

"إذا هيك بدك... الله معك". ضحك سليم من فرط نشوته، أدرك أنه بدأ مغامرة البحث عن قدره.

خلبته بيروت. عشقها. كانت العاصمة اللبنانية، وقتذاك، متلألئة، وضاءة، تتلاقح فيها الأفكار والثقافات، تُسمع في الشوارع كل لغات الأرض، مدارس وجامعات الإرساليات الأجنبية توزع وتنشر العلم والمعرفة... 

وكانت بيروت تموج بالفن الذي على القماش، وعلى الصخر والحجر والخشب، وعلى المسارح، ومسرح "تياترو الكبير" الشاهد الحافظ لتاريخ بيروت الفني والثقافي. على خشبته وقف يوسف وهبي، وعزيز عيد، و"فرقة رمسيس"، ومحمد عبد الوهاب، وأم كلثوم، وقامات الفن الفرنسي والإيطالي... أما الفن السابع، فكانت له دور العرض، بُنيت في الشوارع والأحياء توزع الفرح في الأفلام الأجنبية، فرنسية، أمريكية، وإيطالية، ومصرية. وبيروت، قبل غيرها، عُرض فيها أول فيلم ناطق، وكان في صالة "أمبير" في 12 فبراير (شباط) 1930.

وفيها إذاعة "راديو الشرق" Radio d’Orient التي كانت تتولاه سلطات الانتداب الفرنسية، المسموعة في الشرق الأدنى كله.

كانت بيروت تلك، تحقق الأحلام، وقد حاول "ابن الحلونجي" تحقيق حلمه، هو المسكون بالأحلام التي تتجاوز قدراته وإمكانياته.

في بيت عمته التي لم تبخل عليه بالحدب والرعاية عاش سليم اللوزي، ومنه كان يذهب إلى "مدرسة الصنائع والفنون الجميلة" (مقرها أصبح سراي الحكومة الكبير)، التي كان يديرها موريس زوين. فأمضى سنوات ثلاث، بمنحة من الدولة قدرها ستون ليرة، وقتها كانت الليرة لها القدر والقيمة، استخدمها لشراء الكتب، ومواجهة نفقات إقامته عند عمته، والمتبقي لتجواله في عاصمة حلمه.

وتنقضي السنوات الثلاث، ويشعر بأن مدرسة الصنائع وما تعلمه فيها ليست ما كان يصبو إليه. دنياه كانت في مكان آخر، بين دفتي كتاب، في شميم الحبر في الدواة، في قلم يسبح على الورق الأبيض، يرسم الأحرف، والأحرف تتشكل، وتصبح كلمات. وزاد في رفضه المهن والحِرَف، ما تعرض له خلال دراسته. نتركه، هاهنا، يخبرنا بقلمه عن تلك المرحلة فكتب:

"كانت برامج المدرسة تفرض علينا مهن حفر النحاس، ولحام الأوكسجين، والعمل على آلات الخراطة. وكنت دؤوبًا على الدراسة والتطبيق، طامحًا إلى الحصول على أعلى الدرجات في كل فرع أتدرَّبُ فيه. وفي أحد أيام الدراسة، اصطدمت ذراعي بإحدى آلات التدريب، فخلعت كتفي، وأُخضعتُ إلى عملية تجبير مؤلمة، ما زلت أتذكرها إلى اليوم، يومها ثارت حفيظتي، ورفعت يدي المصابة إلى أعلى، وقلت مخاطبًا نفسي: بهذه اليد سأقبض على الدنيا، ولن أسمح للدنيا بأن تقبض عليَّ".

وما عادت الدنيا تقبض عليه.

ويودع بيروت، خبأ حلمه في عقله وقلبه، وعاد إلى طرابلس.

ويصبح سكرتيرًا في مكتب المحامي مصطفى الذوق، الذي كان تعرّف عليه في دكان الخياط منيف الحجار. في ذلك المكتب تعرّف إلى أعيان طرابلس، وعدد من وجوه القوم في السياسة والأدب والفكر، فلقد كان آية في براعة استمالة الناس، في طلاقة اللسان، وحلاوة الحديث، وحضور الذهن، وقوة العقل، وسلامة الفطرة، مع حفظ مقام المُخاطَب، وهو أسلوب رفيع الدرجة في التعاطي مع الناس وتوثيق العلاقات معهم، لا يصل إليه إلاَّ القلة.

وما كان يجنيه شهريًا من مكتب مصطفى الذوق جعله قادرًا على إعالة نفسه، ومساعدة والده على مصاريف البيت.

على الرغم من نجاحه في مكتب المحاماة، وتفتح آفاق طرابلس أمامه، إلاَّ أنه أدرك في قرارة نفسه أنها لن تمنحه الاستقرار، وأنها بشكل من الأشكال، تضع في يديه الأغلال، وتمنعه من تحقيق ما يطمح إليه... فعادت رغبة السفر تلح عليه.

لما كان في بيروت حكوا له عن "يافا" في فلسطين، فما عاد طاق التردد، تذكر قولًا لقائله من العرب القدامى: "ما لم تركب الأهوال لن تنل الرغائب".

فعزم على العودة إلى بيروت، والسفر منها إلى "يافا".

وتصل السيارة إلى "يافا"، أقدم مدن فلسطين، التي أسسها الكنعانيون في الألف الرابع قبل المسيح. وهي تحتل موقعًا متميزًا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، أسهمت العوامل الطبيعية والجيولوجية في جعل هذا الموقع منيعًا، يشرف على طرقات المواصلات والتجارة، فيتم عبرها الاتصال بدول حوض البحر المتوسط وأوروبا وإفريقيا.

و"يافا" الذي وصل إليها سليم اللوزي كانت عاصمة فلسطين الثقافية والفنية بامتياز، فيها كانت تصدر الجرائد اليومية، "فلسطين" واحد منها، ثم "الدفاع"، وعشرات المجلات الأسبوعية، الشهرية، والفصلية، ودور النشر والمسارح، ودور السينما والأندية الثقافية.

هذا البعد الثقافي ربط "يافا" بأهم المراكز الثقافية في حينه، بيروت والقاهرة، فغدت، مثلها مثل العاصمة اللبنانية، منارة من منائر العلم والمعرفة، والثقافة والفن، في الشرق الأدنى.

وراح سليم اللوزي يستكشف "عروس البحر" (كما كان يطلق على يافا)، يجول في شوارعها مشيًا على الأقدام حينًا، وفي المركبات والباصات حينًا آخر. وكان كالعادة منه، يسحب دفترًا صغيرًا من جيب سترته الداخلية، ويبدأ يسجل عليه الاسماء والأماكن والانطباعات.

وأوصله تجواله وطوافه في المدينة إلى مقهى "الشيخ علي" وكما يعرّف عن حاله بلوحة في واجهته. جلس على طاولة في زاوية من المقهى، طلب فنجان قهوة، وأطرق ساهمًا لحظات، ثم دفن أفكاره مع السيجارة في صحن الرماد بحركة بطيئة.

استرعى انتباه الشيخ علي، الذي سمى مقهاه على اسمه، فهو يعرف زبائنه ونتفًا من حياتهم ويومياتهم، ولم يسبق أن رأى ذلك الشاب الغريب السابح مع أفكاره، والذي لا يتوقف عن الدوران بعينيه على المكان والوجوه، وحركات الزبائن. ولَمَحَ الشيخ المجرب طيبة في ملامح الشاب الغريب، شدّته إليه، فاقترب من الطاولة، خرجت من عينيه نظرات حائرة، رشها على وجه سليم اللوزي، وحاول أن يجدل الحديث:

"يبدو أنك تزورنا للمرة الأولى".

هزَّ سليم رأسه، وقبل أن يجيب، عاد الشيخ على إلى الكلام:

"وأظن أنك أيضًا تبحث عن عمل".

غالب سليم مفاجأته بالرجل، فقال من دون تردد:

"نعم... وأكون ممتنًا لو...".

وقطع الشيخ علي عليه الكلام:

"ما رأيك، دام فضلك، في العمل معي في المقهى، فتتسلم الفيش من النادل وتسجلها، وتمسك حسابات المقهى، وكل مساء تعرض عليّ الغلّة؟"

عزّ على سليم أن يرفض، فأدار الكلمات في رأسه مليًا، واختار أنسبها:

"أشكرك كثيرًا... لكنني هنا للقاء أهل القلم والأدب والفن".

فَغَرَ الشيخ علي فمه، فارت الدهشة في رأسه:

"فليكن... هنا ستحقق ما تريد. مجموعة من الأدباء والكتاب والإذاعيين ترتاد هذا المقهى، وأنت وشطارتك، في التعرف عليهم".

شعر بأن سليم لم يقتنع، زاد:

"فندق "النزهة" على بعد خطوات من هنا، وهو ملتقى الأدباء والفنانين، فما رأيك أن تعمل في النهار في المقهى، وليلك ومبيتك في الفندق، حيث يمكنك أن تخالط من جئت "يافا" للقائهم. مبيتك في الفندق لن يكلفك سوى ثلث جنيه فلسطيني".

مسح الشيخ على وجه سليم بعينين مستفسرتين، وانتظر الجواب. 

رجع سليم بذاكرته إلى "قهوة التل العليا" في طرابلس، وكيف كان يرى صاحب القهوة يحصي الفيش، ويعّد الغلّة، ويحسبها على أصابعه، ويفرك الليرات، ويطقطق بالقروش: ربع ليرة، ونصف ليرة، وعشرة قروش…

وحَلَت له الفكرة، وافق على عرض الشيخ علي، بدأ العمل في المقهى، يعد الفيش، ويجمع، ويطرح وما دخل في الصندوق، وجداء الحساب كان يسجله في دفتر كبير، ويطلع الشيخ علي على الغلة... ثم يمضي ليله في الفندق، ينتظر فرصته.

دخل المقهى رجل طويل القامة، بدينًا، أنيقًا ومتأنقًا في مشيته، وفي جلوسه إلى الطاولة، رفع قبعته الكلاسيكية عن رأسه، فبان شعره الكث تطل منه شعيرات بيضاء. بلباقة نادي النادل، طلب فنجان قهوة وكوب ماء بارد.

لفته الشاب الجالس وراء طاولة الفيش، وراح يراقبه، العينان في وجهه ترسلان الأسئلة القصيرة الحادة عن ذلك الشاب الغريب، المليء بالحيوية والتنبه.

وقام إليه، ودعاه للجلوس الى طاولته، فلبى سليم، تاركًا طاولة الفيش للنادل. وكان التعارف:

"عبد الرحمن العمري".

قال الرجل الأنيق بنبرة فيها تشاوف واعتداد في آن معًا.

رفرف قلب سليم:

"وهل تمت إلى عائلة العمري الطرابلسية بصلة؟"

ضحك الرجل، وهزَّ رأسه بالإيجاب، أردف سليم:

"أنا سليم اللوزي... طرابلسي أبًا عن جد".

وراح سليم يقلّب الكلمات في عقله ويختارها، وبكل ما أوتي من ظرف، يروي للتاجر الطرابلسي المرموق والمعروف ما كان من أمره، وأسباب تركه طرابلس ومجيئه إلى "يافا"، وما يصبو ويطمح، ويرغب فيه.

وأدرك سليم أنه تمّكن من الرجل الذي كان يصغي إليه باهتمام كُلي، وأن هذا الرجل قد يكون مدخله إلى المستقبل الذي يريد. وصدق حدسه. فسأله عبد الرحمن العمري:

"لا أرى، بعد الذي سمعته، أن مكانك وراء طاولة الفيش".

جمد سليم اللوزي في مكانه، استملح جموده، فهزَّ منكبيه في يأس.

التقط العمري الكلام من جديد:

"أنا سأعرفك على رشاد البيبي، مدير قسم الأحاديث في إذاعة الشرق الأدنى"... على فكرة، هو من رواد هذا المقهى الدائمين".

وانتظر سليم أن يفي "بلدياته" عبد الرحمن العمري بالوعد.

بعد يومين، دخل التاجر الطرابلسي ومعه رشاد البيبي، جلسا إلى طاولة قصية بعض الشيء، ودار الهمس بينهما، وسليم اللوزي وراء طاولة الفيش، يراقب، وينضح من ملامحه الارتباك.

وفجأة، ناداه، العمري، ترك سليم طاولة الفيش، اقترب من الطاولة، مدّ يده، دفنها في كف العمري، ثم نقلها إلى البيبي.

ودار حديث بدأه العمري وأكمله سليم، التمع وجه رشاد البيبي، إعجابًا بالشاب اللبناني، وبأسلوبه في الكلام، وثقته بنفسه.

سحب سليم من جيب سترته ثلاث أوراق، مد يده نحو البيبي:

"هذه قصة قصيرة كتبتها، آمل أن تلقى استحسانك".

وللحكاية بقية..  

تم نسخ الرابط