سفينة الناس الطيبين .. "إن العاقبة للمتقين"
نشرت مجلة “روزاليوسف”، منذ أكثر من 50 عامًا ضمن سلسلتها "حكايات رمضان" للكاتبة الصحفية فوزية مهران، حكاية سفينة سيدنا نوح تحت "سفينة الناس الطيبين".
وبدأت حكايتها بنص أدبي مشوق قائلة: في رمضان تحلو الحكايات، شيء ما في الجو، والنفس، يصفو ويرق، نحس بقلوبنا أكثر دفئًا وإشراقًا، رغبة حارة تجتاحنا في أن نعانق العالم، يتمدد السلام النفسي داخلنا، ونعزف موسيقى الحب، نخرج من القوقعة، ونبحر من جزرنا المنعزلة، تنبثق منا طاقات من الخير والحب والجمال.
أيام حلوة، الإيقاع اليومي فيها تحدده حركتان، نحتضن الشمس مع الشروق وندور في انتظار موعد الغروب، والكون تظلله الحمرة الزاهية، والنفس مشبعة بالأمل ترقب يومًا جديد.
أماه، أتذكرين ذلك القصص الجميل، الحزين؟، وعيوننا شاخصة تهيم في الكون حائرة.، قلقة، تبرق فيها الدموع من شدة الخوف والجزع على مصير المكافحين العظماء؟، نحبس أنفاسنا خوفًا أن يتغلب عليهم الأعداء الكفار؟ وتدق قلوبنا بعنف، فالأطفال يا أماه يولدون أصلاً وهم يعشقون الحرية، والحق والجمال، ويطيل أبى في وصف ما تعرض له الأبطال الشرفاء من صنوف العذاب والشقاء، وتتنهدين، ويبلل صوتك الدموع، فالنساء يا أماه يملن بغريزتهن إلى البناء، إلى التعمير والخير والبناء.
وعندما يصل بنا الأمر إلى هذه الحال، يدوي صوت أبى الجليل بحكمة إلهية: "إن العاقبة للمتقين".
وتهدأ النفوس، وتعلو البسمات على الشفاه، مع حتمية الصراع دائما يفوز الحق، ويسود الخير، وينتصر الإيمان. إنها قصص مليئة، حافلة فيها موعظة وعبرة، وننهل زادا يعيننا على الكفاح والصمود، والعمل من أجل أن يسود العدل والخير.
نوح أزعجه ما يجتاح العالم من أعاصير الشر
نوح، كان رجل سلام، من ذلك النوع المهموم، والمهتم بأحوال الدنيا والناس، أزعجه ما يجتاح العالم من أعاصير الشر لم يحتمل أن يبقى صامتًا وبدأ في العمل الإيجابي نشر دعوة الحق ومكافحة الظلم والشر.
“ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرًا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أرازلنا".
هكذا دائمًا، الكبار من قومه قالوا ومن أنت حتى تعظنا؟، أو تناقشنا فيما هو خطأ أو صواب؟! لا نرى فيك ميزة، أو فضلاً، وحتى من صدقك وآمن بدعوتك هم الفقراء البائسون.
وهكذا دائمًا الكفار، يتحصنون داخل ثرائهم وجاههم، ويركبهم كبرياء زائف، وعناد مريع وكيف يؤمنون بدعوة ينجذب إليها الفقراء والطيبون؟ وكيف يكون طعم الحياة إذا تساوى الجميع وألم يجد الانتهازيون ما يميزهم ويعليهم فوق الآخرين؟
ويحزن نوح، ويحتدم الصراع، وتبدأ مراحل البطش به، التشكيك فيه، اتهامه بالجنون، ثم تحديه على الملأ، هيا أنزل بنا العذاب الذي تقول عليه وتنذرنا به، افعلها لنقتنع، الكفار، والذين قست قلوبهم هكذا دائمًا، يظهرون في صلف وغرور يتحدون.
المسألة أصبحت لا تحتمل، لابد من حدوث شيء، لم يعد من الممكن أن يبقى صامتًا. «وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبي في الذين ظلموا إنهم مغرقون”.
ويكف نوح عن مجادلتهم، ويحول كل جهده وطاقته إلى العمل العظيم، إلى صناعة الفلك، ولكن هل تركوه؟ لقد سبب لهم المتاعب والقلق، منذ أن فكر، ونادى بدعوته، والأرض ليست ثابتة تماما تحت أقدامهم، حتى إذا بدا أنه كف عنهم الآن فهم لن يكفوا، حتى الصمت يجب محاسبته عليه.
كلما مروا به يضحكون، ويسخرون ويستهزئون! كان بالأمس نبيا أصبح اليوم نجارًا، المسكين فشل في دعوته ولم يستطع أن يثبت إمكان تحقيق أفكاره، فتحول عن التفكير والرسالة، واقتنع بمهنة النجارة. وبرغم كل السخرية والشماتة، والإهانة لم يستطيعوا أن يستدرجوا الرجل الكبير مرة أخرى إلى مجادلتهم، أو الخوض معهم في معارك صغيرة.
“إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه”. العبرة إذن من يضحك أخيرًا.
وأخيرًا انتهى العمل الجماعي الكبير، وقفت شامخة سفينة هائلة، بنيت بأيدي وجهد الناس الطيبين وبقيادة نوح، وكأنها رمز رائع على قدرة الإنسان البسيط، عندما يعمل، ويجسد إيمانه وقواه من أجل تحقيق أفكاره. سار إليها “من كل زوجين اثنين” بسطاء القوم المؤمنون، وأهل نوح، وفار التنور، وفتحت فوهات الأرض والسماء، ولكن كان هناك فصل أخير في الدراما الإنسانية المحتدمة، ابن نوح، لم يكن في السفينة وظل بين القوم الكافرين.
“ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين، قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء". تأثر نوح واستبدت به عاطفة الأبوة، لما رأى الموج يحول بينه وبين ابنه، وصرخ من أعماقه، إنه أبني، قطعة منى، وهو من أهلي، وقد وعدني ربى أن ينقذ أهلي وينجيهم من الغرق ووعد الله حق، وهو أعدل الحاكمين.
“قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين”.
وهنا نصل إلى ذروة من السلوك الإنساني التقدمي، إلى أسلوب سياسي متفوق ومتسامٍ، إن أعظم الصلات الإنسانية تنمحي وتزول عندما لا يلتزم الإنسان بالمبدأ الحق.
الصلة العظمى، والرابطة الخالدة هي الإيمان بنفس المبدأ والعقيدة، والالتزام بالحق والخير، ابنك ليس من أهلك، إذا وقف مع القوم الكافرين، إذا اتخذ لنفسه موقفا خاطئًا يحيد به عن الحق والعدل، ويضعه في مصاف الأعداء، ولا معنى للصداقة أو الأبوة، أو صلة الدم، إذا فرق بيننا الإيمان.
المؤمنون هم الأقرباء وهم الأصدقاء والإخوة، والكفار هم الأعداء، أعداء الخير والسلام والعدل والحرية، ذلك هو الموقف الإنساني السليم.
لا يجب أن تضر بنا عاطفة، أو تهبط بنا الشفقة، الاختيار واضح وجلىّ.
الإيمان والمبدأ هما الميزان الحساس الذي تبنى على أساسه الصلات والعلاقات وروح الجماعة. "وقيل يا أرض ابلعى ماءك، ويا سماء أقلعى وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين".
أغرق الطوفان الكفار وصفت الدنيا، ونزل البسطاء الطيبون يعمرون أرضًا جديدة ويغرسون بذور الحب والخير، ولايزالون حتى تجتاحهم رياح الشر، ويحتدم الصراع ولكن العاقبة دائمًا للمتقين.
وتتكرر الحادثة بصورة أو بأخرى، وتبقى الآية دائمًا عبرة وموعظة، وإيحاء بأن نطهر النفس من كل ضعف. ونشمخ بها صلبة لا تيأس ولا تلين حتى تحقق أسمى ما في إنسانيتنا ويعبر وجودنا عن الخير والعدل والسلام.



