الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

في حنين خاص لدور وجوهر المسرح المصري، وفنون الدراما المصرية الناطقة باللغة العربية الفصحى، التي غابت عن الإنتاج الفني لعدة مواسم رمضانية درامية متتالية ومنها دراما رمضان 2022، وجدتني أعود لأرتوي من عالمها الثري، مع رئيس تحرير روزا اليوسف الأسبق الكاتب الكبير عبد الرحمن الشرقاوي (1920 – 1987).

يتردد وصف الكاتب الإسلامي في ذكر أثره الفني والمسرحي والروائي في عدد من الكتب، والدراسات النقدية عنه.

إلا أنه يجب فهمه حقاً من تلك الزاوية، فمن وجهة نظر كونه يكتب من خلفية ثقافية ومرجعية إسلامية، إلا أنها زاوية نظر رحبة فتحت له مسارات هامة في الثقافة المصرية والعربية.

وجدتني مندهشاً من حقيقة أن كل تلك السنوات التي كتبت عن المسرح فيها في مؤسسة روزا اليوسف لم أكتب عنه.

وهو العلاقة الحقيقية الثانية بين دور المسرح ودور روزا اليوسف والصحافة، بعد مؤسسة الدار المسرحية الصحفية السيدة روزا اليوسف.

أما عن عالم الفصحى في المسرح والدراما، والمسرح الشعري على وجه أدق، فيجب تأمل مسألة تركنا بشكل تدريجي هذا العالم الدرامي الناطق بالعربية الفصحى المشحون بطاقات التأمل وعالم الشعر الموحى البديع. 

ولذلك ومع صفاء رمضان الكريم وعالمه الروحي عدت لمطالعة مسرحية الشرقاوي الأثيرة عندي الفتى مهران.

فوجدتني أستعيد سكينة ووهجاً مسرحياً أفتقده كثيراً.

وأتممت متعتي بمعاودة قراءة مسرحيته عرابي زعيم الفلاحين، ومسرحيته النسر الأحمر.

وتذكرت المشهد المسرحي المصري وضرورة إعادة تقديم إبداع الكبار من أجيال قريبة، كي يستمتع به الجمهور المصري والعربي، وكيف حافظ هؤلاء على جوهر المسرح وقيمته ورسالته، الشرقاوي والشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، والشاعر المؤسس أمير الشعراء أحمد شوقي وغيرهم.

بالتأكيد إن المسرحيات الضاحكة والمسرحيات التجريبية التي تعتمد على لغة الصورة، وعلى لغة الجسد، وعلى المسرح الراقص الحديث وغيرها، قد سادت المسرح المصري لسنوات في إطار المسرح الجاد بمعناه الفكري والجمالي، إلا أنها بقيت مجرد تجارب يتبادل فيها المهنيون المشاهدة دون القدرة على منافسة المسرح التجاري الضاحك السائد.

فكان أن ساهم هذا المسار، في تغيير الصورة الذهنية للمسرح المصري في عيون ووجدان أجيال جديدة، جعلت من صورته الذهنية أمراً مختلفاً عن حقيقة دوره وجوهره الإنساني النبيل.

إنه مسرح الكلمة، وهو في كل أنحاء الدنيا قائم مستقر، بجوار التيارات التجديدية والحداثية وهو أمر يستحق الاستعادة في المسرح المصري، فهو علامة على استقرار المسرح التقليدي وبجواره أنواع مسرحية جديدة. 

وهو القادر على استعادة جوهر ودور ومعنى ووجه المسرح المصري المشرق المقدر من الجميع، وهو القادر على استعادة الصورة الذهنية الحقيقية للمسرح والدراما المصرية أمام طوفان الضحك الجارف في المسرح المصري التجاري، وأمام رؤية زائفة تراه مادة للسخرية وللتسلية.

وفي الكلمة يقول الشرقاوي في مسرحيته ثأر الله : 

أتعرف ما معنى الكلمة 

مفتاح الجنة في كلمة 

دخول النار على كلمة 

وقضاء الله هو كلمة

الكلمة لو تعرف حرمة زاد مزخور 

الكلمة نور 

وبعض الكلمات قبور 

وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري

الكلمة فرقان بين نبي وبغي 

بالكلمة تنكشف الغمة 

الكلمة نور

ودليل تتبعه الأمة

عيسى ما كان سوى كلمة 

أضاء الدنيا بالكلمات 

وعلمها للصيادين 

فساروا يهدون العالم 

الكلمة زلزلة الظالم 

الكلمة حصن الحرية 

إن الكلمة مسؤولية 

إن الرجل هو كلمة 

شرف الله هو الكلمة

أعمال الشرقاوي المسرحية هي جوهر مشروعه الإبداعي، وإن بقيت رواية الأرض هي الأكثر شهرة لأنها امتزجت في فيلم يوسف شاهين الشهير الأرض بالمبدعين الممثلين الرائعين، ويبقى الأرض كفيلم هو العلامة الأكثر شهرة لإبداع الشرقاوي.

ولكن حفظت لنا ذاكرة ماسبيرو أعمالاً مسرحية له، منها ما قد أصبح متاحاً على الشبكة الدولية للمعلومات، فيمكن الاستمتاع بمشاهدة مسرحية النسر الأحمر إخراج المبدع المسرحي الكبير كرم مطاوع، وتأمل المعالجة الإبداعية الجمالية، وتأمل الإيقاع العام المتدفق في معالجة قضية القدس الشريف، مثار اهتمام مصر والعالم العربي والإسلامي الآن، وتأمل كيف يقدر المسرح على إمتاعنا جمالياً، وكيف يناقش قضايا الأمة، ويتأمل في مشاعر الإنسان الوجودية.

بل وكيف أخرجها المخرج التليفزيوني الراحل منير التوني، وكيف تمكن من صياغة المشهد عبر الكاميرا على بساطة الإمكانيات التقنية آنذاك.

الشرقاوي الحائز على احترام الدولة المصرية والحاصل على جائزة الدولة التقديرية.

والذي ظل مثاراً للجدل في تقييم الدوائر الثقافية المتعددة.

فهل هو كاتب إسلامي مهتم بالتراث والتاريخ؟

هل هو كاتب صحفي منحاز لليسار الثقافي المصري آنذاك؟

هل هو متأمل في الفقه الإسلامي؟

الشرقاوي في تقديري هو تعبير عن الثقافة الوطنية، واليسار الثقافي المصري التاريخي الذي مثلته روزا اليوسف، وهو مصري وطني ملتزم بالثقافة الوطنية وهو يصيغ ذلك الانتماء والالتزام الفلسفي والوطني صياغة مثقف مصري من خلفية إسلامية وبمرجعية إسلامية متجددة تتفاعل مع الإبداع وقيم الحرية والالتزام معاً.

هو الإعادة التجديدية لعلاقة الإبداع بالصحافة بعد السيدة روزا اليوسف الاستثنائية التي جمعت بين المسرح والصحافة.

يبقى للشرقاوي حضور يدفئ القلب، ويذكرنا بالدور النموذج للمسرح وللصحافة والكتابة.

في إبداعه المسرحي يأتي البطل في معظم أعماله حالماً بالعدل، محتفلاً بالإنسان وبعالم أكثر عدلاً وإنسانية.

البطل عنده مثل عرابي ومثل الفتى مهران يأتي فارساً، يأخذه الأعداء من طيبته وحسن خلقه وابتعاده عن الانتقام.

البطل عنده يأتي مولعاً بالجمع بين التقرب إلى الله والبعد عن المعاصي، وبين حب الحياة وإنشاد الشعر والثقة في نور الثقافة والإبداع، البطل عنده يحترم المرأة ويحتفل بالحب والزواج والأطفال والمستقبل.

البطل عنده يحمل المشترك الأساسي الجوهري للثقافة الوطنية ولقضايا الأمة.

البطل عنده ليس فرداً، بل هو علامة لإلتقاء المساحات المشتركة للمجموع.

البطل عنده فصيح فارس شهم ينتصر للتسامح والعفو والقيم النبيلة.

أي جمال يمنحنا الشعور بالثقة والطمأنينة والسعادة والقيمة، ويستعيد لنا الدور والمكانة عندما نستعيد أعمال عبد الرحمن الشرقاوي وغيره من رموز الإبداع المسرحي المصري الثري.

تذكرته واسترحت وتمتعت وحدث لي الأنس الرائع بعودتي لهؤلاء الرجال أصحاب الكلمة والإبداع.

هذا الإئتناس بدور لم يغب بعيداً، عن وحشة الاغتراب وسط كل هذا الضحك الخشن الصادر عن المسرح، وثرثرة الدراما إلا قليلها الوثائقي، والمحتفلة بهؤلاء اللصوص في الحارات المزيفة التي لا تشبه حاراتنا المصرية.

آملاً في مطلع الأيام القادمة عودة أبطال مثل أبطال الشرقاوي إلى صدارة المشهد الدرامي.

وتأمل إبداعه شديد الإمتاع الذي يحمل كل تلك القيم الجمالية والفكرية.

في استعادة هؤلاء استعادة لوجهنا الثقافي المسرحي الدرامي المشرق، والذي ننتظره بكل ثقة وأمل وكل عام وأنتم بخير وسلام وسعادة.

تم نسخ الرابط