لا يعرف سليم اللوزي هدنة بينه وبين الأفكار المتزاحمة، المتلاطمة في رأسه.. أراح أرنبة أنفه من نظارته الطبية. عيناه هامتا في سماء الحجرة، وحامتا حول الثريا المدلاة من السقف، كأنه يتأمل دقة شغلها.
أسبل جفنيه، ولاحت في عينيه علامات النشوة، أراح ظهره على الكنبة، أعاد سيجار "كوهيبا" Cohiba الكوبي الأصيل إلى فمه، عبَّ نفسًا منه، احْمَرَّ رأس السيجار، نفث الدخان الذي انعقد في سقف الحجرة، فاحت رائحة احتراق التبغ المؤصل.
هاجت في رأسه أيامه الأولى، صوته خلا من البحّة التي ورثها عن أبيه، وحفل بنشوة طارئة حلوة.
كانت تلك لحظات يتيمة، فما عدت عرفت مثلها منه، طوال عملي إلى جانبه في إنتاج مجلته. ذلك أن للرجل المعروف بفوران الطبع سويعات صفاء، تكون فيها ذاكرته نشوى من وَلَهِ أَمْسِهِ البعيد، وأمْسُهُ كلُّهُ كان السعي، والكدّ على الحق، مع القلم والورق، والحبر و... الناس.
كلما كنت أجلس إليه، أسمع حديثًا يملأ رأسي بنِتف من ماضيه، كأنما هي فسيفساء، كنت أجمعها وأرتبها بشغف فتتشكل أمامي صورة الرجل الذي كانت له سطوة الكلمة في مقامات الرأي، وإجادات الكتابة، وشغل لبنان والعالم العربي على مدى أربع وعشرين سنة، من سنة إطلاق "الحوادث" 1956 حتى خطفه وتعذيبه، وقتله بطريقة وحشية بربرية سنة 1980.
وتجتاحه رغبة الحكي، ويترونق الكلام في خاطره:
"اسمع.. يا استاذ"
يهزك، يسترد انتباهك، ويعيدك إليه من شرودك عنه. وتسمع، تقرأ في عينيه، وهو يترتب الكلام ويبروزه قبل إطلاقه من حبس شفتيه، نشوة مغمورة بالاعتزاز والتشاوف.. ومع الكلام، لا يرتاح من رسم إشارات يديه وهو يحدثك عن "الحوادث".
وتعجب منه "أنسنتها"، هي التي من ورق وحبر، على لسانه أصبحت من لحم ودم، وقلب ومشاعر: تحزن، تفرح، تبكي، وتُبْكي، تضحكُ، وتُضْحِكُ، تغضب وتستكين.
بنت هي تبناها، فكبرت على يديه، وأصبحت حسناء بهية الطلة، فاتنة، خَلَبَتْ قلوب الناس بجمالها ورأسها المرفوع، وبكلامه الذي يشبه كلامهم.
و"الحوادث"، حوادثه هو وحده، نَفَخَ فيها من روحه، فعكست نفسه وبها حقق حلمه. كان يومها في الرابعة والثلاثين من سنيّهِ.
لما جاء بها من طرابلس، أسكن سليم اللوزي "الحوادث" في مكتب صغير في الطابق الأول من بناية "صابونجيان"، قبالة قصر هنري فرعون، وكان يريد لها أن تصدر عن "مؤسسة صحفية"، لها الحول والطول، والمكان والمكانة، ولها بيت مال، وخزنة فيها ما يكفل ويضمن استمرارها، ويقيها من غدرات الزمان. فطفق يدوّر على من عرف من رجال مال، وأعمال، ومصارف.
ولأنه "ما خاب من استشار" كما قال العرب، أشار سليم اللوزي واستشار، حكى، شرح، ناقش، جادل.. فُتحت في وجهه أبواب، ورُدت أبواب، ووجد من كانوا من حوله وحواليه متحمسين له ولأفكاره، ولكن لما كانوا من المغلوبين على أمرهم، انفضوا عنه وابتعدوا، ورفضوا متلمسه، البعض غير هائب أو مكترث، والبعض الآخر لم يكن أساسًا في وارد الاستماع والتجاوب والمشاركة.
هكذا طبع الناس، والأغلب على الظن أن سليمًا أدرك تلك الحقيقة الممضة، وهي أن المغلوبين على أمرهم هم الذين يحظون بحدب الناس من صحبة ورفقة درب.. ويا ويل من يقرر أن يفرد جناحيه ويحاول أن يطير إلى النجاح، من الانتقاد والازدراء، والمقت الشديد والتنكر، وعدم المبالاة. وهذا ما كان حقيقة يختلج في دواخله.
تعاقبت عليه الأيام وتعاظم شعور سليم اللوزي بالتحدي، فمثله تهتز دنياه ولا يقع، فلم يسمح لخيبة الأمل ممِنْ فاتحهم بمشروعه الصحفي أن تستحوذ عليه، أن تشّل حركته وقدرته على التفكير والتصرف، أو أن تضعف إرادته في أن يصبح القلم بين أصابعه سيد نفسه.
ملكت عليه "الحوادث" يقظته ونومه، شعر بأن الأقدار ستؤازره، وستمهد له تحقيق حلم عمره، فقرر أن يمشي درب الصحافة وحيدًا، يطحن بقدميه شوك الدرب إلى... القمة.
وعندما وصل، وانتقلت "الحوادث" من المكتب الصغير في بناية "صابونجيان"، لتشغل مبنى من أربعة طوابق في "كورنيش المزرعة"، ذكّرهم برفضهم له، ولفكرة مشروعه، وتخليهم عنه.
أدار لهم ظهره و... مشى إلى القمة وحيدًا ولم يندم.
ضرب موعدًا لصدور أول عدد من "الحوادث": التاسع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1956.
كتب هذا التأريخ على كل حيطان بيروت، واسم "الحوادث" حفظته كل الشوارع. في "ساحة البرج"، قلب بيروت الذي ينبض حيوية، انفلش إعلان كبير وتمطى على عرض واجهة ملهى "باريزيانا" لسيدة جميلة المحيا تقرأ "الحوادث"، وترخي بقدمها على رزمة من الجرائد والمجلات، مغفولة الاسم..
وراح الناس يرددون الاسم، والأصوات تعانق الآذان و... الكل ينتظر.
وفي الموعد المضروب، طلّت "الحوادث" على الناس، نزلت إلى شوارعهم، احتلت أكشاك باعة الجرائد والمجلات، وصُفَّت على أرفف المكتبات في جيرة المجلات اللبنانية والعربية الأخرى، وتصايح باسمها الباعة الذين يدورون في الشوارع، يوزعون على الناس أخبار الناس.
ولأول مرة، كتب سليم اللوزي اسمه بعد كلمة "رئيس التحرير".. وياما انتظر تلك اللحظة في "روزاليوسف"، و"الصياد"، و"الجمهور الجديد"، وكان يُحرم منها.
كان عدد "الحوادث" الأول كما أراده "غير شكل"، أو "شكل تاني"، كما كان يردد بلهجة مصرية، لم تكن فارقت لسانه بعد.
من بين الذين تركوا أسماءهم في آخر المقالات والتحقيقات نجيب حنكش، الذي كان زامل سليم اللوزي في مجلة "الصياد"، واستوثقت بينهما الألفة، وطابت لهما المؤانسة.
و"ظريف لبنان"، كما سماه مرة سعيد فريحة، حَمِل "الكشة" في "ساو باولو" (البرازيل)، ودار يبيع ما عليها من سلع للتجار والحوانيت، وبعد كدّ وتعب، كُتِبَ له التوفيق وأصبح تاجر جملة، فراح يجني المال ويتشدد في الحفاظ عليه، وكَنَزَ ما يربح.. و"الريال البرازيلي" Reais فوق الآخر، وكان وقتها يناطح الدولار الأمريكي، وتكبر ثروته، ويتأبى على الصرف والإنفاق لبخل كان فيه، راح فيما بعد يتندر به ويعقد حوله النكات.
ولأنه كان آية في براعة الفكاهة، ومن ألطف خلق الله خروجًا إلى حديث نوادر ولطائف، فقد أصبح نجم حفلات المغتربين في "ساو باولو"، يلقي النكات وينشد الأغنيات، بعضها له وبعضها الآخر لغيره من مطربي ذياك الزمن. وسئم الغربة والابتعاد عن "زحلة" حيث ولد وترعرع، وعن لبنان معشوقه الوحيد، فعاد في أواخر أربعينيات القرن الماضي، إلى وطنه مضرجًا بالحنين.
كان ظُرف نجيب حنكش مفتاح أبواب المجتمع اللبناني المخملي، كما لقي عند الساسة الود والأنس، فكان شديد الملازمة لرياض الصلح وكميل شمعون.
وحدث أن زار نجيب حنكش مكاتب جريدة "زحلة الفتاة"، التي كان ينشرها ويترأس تحريرها صديقه شكري البخاش، فطلب منه أن يكتب في الجريدة مقالًا أسبوعيًا، يروي فيه ما يحلو له من مشاهدات ونقد، وذكريات زمن الغربة في البرازيل.
طلع صوت نجيب حنكش مشروخًا: "أنا وسيبويه وباقي جماعة الصرف والنحو مش صُحاب" هوَّنَ شكري البخاش الأمر عليه، طلب منه أن يكتب كما يروي، وعفو الخاطر وعلى البديهة، والباقي فهو يتولى التنقيح والتصحيح.
وأمسك نجيب حنكش القلم، ضغط عليه بين أصابعه، وأول مقال كتبه في حياته الصحفية كان "رسالة إلى الحمير"، امتدح فيه عدم إطلاق الرصاص في الأعراس والمآتم، وإزعاج الناس بالضجيج وبأبواق السيارات، وأنهى مقاله بنكتة، فكتب أن رجلًا أرسل ابنه إلى سوق الحمير، لكي يشتري له حمارًا "متل الناس" (وتعني جيد)، فعاد الولد بخفي حنين، وعندما سأله والده عن السبب أجاب:
"ما لقيت حمارًا متل الناس، إنما لقيت أناسًا كثيرين متل الحمير" وما عاد سقط القلم من أصابع نجيب حنكش، فراح يوزع مقالاته الساخرة، الناعرة، اللاذعة، التي فيها وخز وغمز على "الصياد"، و"كل شيء" و"الجريدة"، والصفاء"، وتبعه القراء إلى "الحوادث" فأقبلوا عليها. وكان سليم اللوزي، بنظرته الثاقبة، على يقين بأن صديقه نجيب حنكش سيأتيه بالقراء الذين سيدمنون على مجلته.
منذ البداية، قرر سليم اللوزي أن يفتح صفحات مجلته لكتّاب لم تتعرف عليهم الصحافة بعد. وكان من بينهم شفيق الحوت الذي تولى القسم الثقافي، وكتب في الأدب وفي القضية الفلسطينية ما لم يكتب مثله أحد، ليصبح الحوت سنة 1958 وحتى سنة 1964 مديرًا لتحرير "الحوادث".
وكان لسليم اللوزي و"حوادثه" الفضل في إطلالة الشاعر الفلسطيني معين بسيسو على القراء العرب. أولى قصائده التي نشرتها له "الحوادث" كانت تحمل عنوان "نداء السيول"، وبعدها ذاع شعره وصيته.
غادة السّمان، هي الأخرى، سبح قلمها على صفحات "الحوادث" منذ عددها الأول، وهي التي كانت لها الصدارة والحظوة في "الأسبوع العربي"، وحبة قلب رئيس تحريرها ياسر هواري، عرفت أن "حوادث اللوزي" نكهة أخرى، وإطلالتها منها تجعلها تلمس بقلمها شريحة من القراء جديدة.
وعلى الرغم من أن "الأسبوع العربي" كانت في ذياك الزمن في المنازل العليا، لا تجاريها في الانتشار مجلة عربية أخرى، إلاَّ أن "الحوادث" بدت، منذ عددها الأول، أنها ستكون المنافسة لها وستزيحها عن عرش المجلات العربية، وقد أثبتت الأيام ذلك.
بدأت "الحوادث" خطواتها الأولى في زمن كان العالم العربي يشهد فيه متغيرات، فرضت معادلات سياسية لم تكن اتضحت معالمها بعد، ولا عُرِفَ إلى أين ستفضي.
كان من أبرز تلك المتغيرات لمعالم العالم العربي واتجاهاته إزاحة محمد نجيب (الذي عرفه سليم اللوزي وأجرى معه أول حديث صحفي نشرته "الصياد"، كما مر معنا)، وتسلم جمال عبد الناصر الحكم، وشرع في بسط نفوذه على العالم العربي، محاولًا بذلك تحقيق "الوحدة العربية".
لم يكن سليم اللوزي بعيدًا عن تفكير جمال عبد الناصر، فإن كان متمسكًا بلبنانيته وفرادتها، إلاّ أنه كان عروبي الهوى، يلتقي مع الناصرية، على الأقل في فكرة "الوحدة العربية".
أيقظت سياسة عبد الناصر حماسة "دعاة الوحدة العربية" في لبنان، وبدأت المناكفات مع الرئيس كميل شمعون، الغربي الميول، التي تتعارض سياسته مع الفكر الناصري العروبي.
وما زاد النار اشتعالًا في البيت اللبناني، إعلان عبد الناصر قرار تأميم "شركة قناة السويس" (يوليو/ تموز 1956)، متحديًا الغرب، وخصوصًا بريطانيا وفرنسا صاحبتي المصلحة المشتركة في الشركة المؤممة. في خريف تلك السنة اشتركت الدولتان مع الدولة العبرية في اعتداء ثلاثي على مصر، سرعان ما تحول إلى أزمة دولية.
واهتزَّ لبنان، طلب رئيس الحكومة عبد الله اليافي، مدعومًا من صائب سلام، وكان وزير دولة، من الرئيس كميل شمعون قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا وفرنسا، استنكارًا لاشتراكهما في العدوان على مصر. وكانت تربط لبنان وهاتين الدولتين صداقة تقليدية، ومصالح حيوية لم تسمح باتخاذ مثل هذه الخطوة. فرفض الرئيس شمعون طلب الزعيمين، مما أدى إلى استقالتهما.
واستشرى الخلاف، وتخوف الرئيس كميل شمعون من عواقب السياسة المصرية، ورأى في الأعمال التي كان يقوم بها مؤيدو تلك السياسة في لبنان خطرًا على استقلال البلاد، فعمد على الحصول على ضمان الدول الغربية لهذا الاستقلال.
وعندما أقر الكونغرس الأمريكي في مارس (آذار) 1956 ما سمي وقتها "مبدأ أيزنهاور"، لم تتردد الحكومة اللبنانية من قبوله، فاعتبر جمال عبد الناصر تصرفات الحكومة اللبنانية تحديًا صريحًا له، وما زاد توتر العلاقات بين مصر ولبنان، جنوح الرئيس كميل شمعون نحو تأييد "حلف بغداد".
وانقسم اللبنانيون، وانشق الرأي حول ما يدور: طرف يريد أن يكون لبنان تابعًا ومؤيدًا بالكامل للسياسة المصرية وللناصرية تحديدًا، وطرف يريد أن يستقوي لبنان بقراره المستقل، وألا يسمح لأحد أن يخطفه، ليعود كما أراده المجتمعون حول الوثيقة الوطنية سنة 1943، حر الرأي لا مع الغرب ولا مع الشرق، عربي الهوية والانتماء من دون التمحور في محاور، لها تبعاتها السيئة على الداخل التعددي.
وطرف ثالث يرغب ويدعو إلى التمسك بالقرار السيادي، ولكن يرفض سياسة الأحلاف والتبعية للغرب على حساب الانتماء العربي.
من هذا الطرف كان سليم اللوزي الذي ما لبث أن وجد نفسه في صفوف المعارضة، فحول "حوادثه" إلى صوت لها، عالي النبرة، يُزَمِّرُ في عرس الناصرية في لبنان.
سرح قلمه البتّار في الكتابة ضد سياسة الأحلاف، وضد سياسة الرئيس شمعون الخارجية، بأسلوب فوار ومقالات ملمومة الأطراف، اللفظة تنزل في مكانها الصحيح، تلدغ وتضرب رأس المشكلة.
ونال الرئيس شمعون من النقد نصيبًا، على الرغم من الود الذي كان يكنه له اللوزي، فالعلاقة بينهما بدأت عندما كتب اللوزي تحقيقًا صحفيًا حول فيضان "نهر أبو علي" الذي أغرق طرابلس سنة 1956، ونشره في مجلة "المصور" المصرية. يومها استدعاه الرئيس كميل شمعون إلى القصر الجمهوري في "القنطاري"، لشكره وتهنئته. فكان هذا اللقاء، بداية صداقة ترسخت، ولم تَفْتُر حتى في عز هجوم "الحوادث" على الرئيس، وعهده، وسياسته.
وبعد انتهاء ولاية شمعون سنة 1959، ظل اللوزي يتردد على "قصر السعديات"، وقضاء ساعات طويلة في زيارة الرئيس شمعون. وحدث مرارًا أن رد الرئيس الرجل لصديقه، فزار مكاتب "الحوادث" في عين الرمانة.
كانت معارضة "الحوادث" شديدة، قاسية، مقحامة، غير هيابة أو مكترثة لذيول أو نتائج أو تبعات. جمعت من حولها قراءً جددًا، وابتَعَدَ عنها قراء يعارضون سياستها، وسياسة رئيس تحريرها.
ولم تنحصر معارضة "الحوادث" في الشؤون السياسية وحدها، فلم تترك قضية أو مشكلة إلاَّ وواجهتها بجرأة وصراحة وثبات، فحوّل سليم اللوزي "الحوادث" إلى مجلة تستقصي، تبحث، تتعمق، تغوص على الغوامض، في براعة البحث والاستدلال.
وأدار سليم اللوزي قلمه في العديد من المشكلات والقضايا التي كان لبنان يعاني منها، ولعل أبرزها التحقيقات الصحفية التي تتناول فيها "فضيحة عفاف" النسخة اللبنانية لمدام كلود الفرنسية Fernande Grudet، فأثار الرأي العام على الدولة، والمقامات فيها بعض وجوه القوم.
ونكمل حكاية الحوادث وحدوتة مدام عفاف..



