الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

إنه الأستاذ المخرج الكبير عبد الرحمن الشافعي (1939– 2022). يرحل مع الكبار، جيل يغادرنا تباعا، يبقى الفنان الكبير علامة دالة على ثراء الحركة المسرحية المصرية، وهو بصمته البليغ وخروجه الإرادي منذ ثلاثة أعوام مضت من الحياة العامة، كان يهمس متأملاً في عزلته الخاصة في بيته العامر بمدينة السادس من أكتوبر همس المتأملين الذين يعرفون متى يقررون أن المشروع الإبداعي قد اكتمل ليخبرنا بأنه لا مجال للإضافة في ظروف إنتاجية متغيرة كي يضيف سطراً جديداً في إبداعه المسرحي الجميل.  كان عبد الرحمن الشافعي عاشقاً للتراث الشعبي، وكانت استراحة المحارب هي تدريبات فرقة النيل للموسيقى الشعبية. 

وهي الفرقة الأولى والمصدر الأول المنظم بعد سعي زكريا الحجاوي الرائد الكبير في مجال الفنون الشعبية. 

كنت قد أسست أثناء إخراجي لمهرجان الربابة الدولي 1990 في مسقط رأسي أسيوط فرقة أسيوط للموسيقى الشعبية، وكان دليلي لهذا العالم هو الأستاذ عبد الرحمن الشافعي، كان ينقل لي خبرة حياتية إبداعية، وقد رشح لي الموسيقي المحترف الكبير عبد الحميد عبد الغفار ليتعهد بمهمة الموسيقى. 

استمعت له بكل جوارحي ونفذت ما أشار لي به من خبرات نادرة تجلت متجددة أمام عيني، بكل هؤلاء الفنانين الشعبيين الذين كانوا بجلابيهم المصرية الجميلة الأنيقة هم الأكثر حضوراً في ليلة العزاء بالحامدية الشاذلية. 

قال لي يجب أن يشعر الفنان الشعبي أنك مثله، وأنك تحترمه، يجب أن تشاركه الغذاء وشرب الشاي ويجب أن تصادقه، ويجب أن تحترم إبداعه، ويجب أن تفهم جيداً موضوعه، وإذا شعر بمحبتك وصداقتك وفهمك كشف لك عن كنوزه. 

كانت فرقة النيل هي عائلته المقربة، كان يعرف عن الفنانين الشعبيين أدق أسرارهم الشخصية، بل كان يعرف أمزجتهم الخاصة، وكانوا يحبونه ويقدرونه، سافر بهم لأرجاء الدنيا الأربعة، وكانوا خير سفراء للفن المصري بكل الانضباط والاحترام النابع من هيبته الصادرة عن محبة لهم ومنهم.

كانت الساعة الرابعة في مسرح السامر وفي قاعة منف هي موعده مع تدريبات فرقة النيل وهي جلسته التي يحبها، هي الوجدان والصدق والوجه الحقيقي. 

الشافعي لم يكن موسيقياً ولم يجمع السير الشعبية، ولكنه كان بحسه الإبداعي يصنع برنامجاً فنياً رائعاً يجمع فيه بين الموال والسير الشعبية والحكي والغناء وفنون الرقص بالعصا. 

وهو صاحب فكرة مهرجان التحطيب المبهج الذي أقامه بالأقصر ابتهاجا برقص العصا ولعبة الرجال المعبرة عن الفتوة والتسامح معاً. 

وقد ظهر هذا الاهتمام بالفن الشعبي في معظم أعماله المسرحية، وأبرزها في هذا المجال مسرحية عاشق المداحين، وغيرها مثل ياسين وبهية واه يا ليل يا قمر وأدهم الشرقاوي، وعلي الزيبق وشفيقة ومتولي والسيرة الهلالية وغيرها. 

وقدم أيضاً من القالب الغربي الدرامي التقليدي مسرحيات ذات صياغة جمالية خاصة به، تقوم على حركة المجموعات ومعظمها يملك الحس الغنائي الموسيقي، ومنها معالجته لبؤساء فيكتور هوجو في أحلام ياسمين على مسرح البالون بطولة النجمة آثار الحكيم، ومسرحية مهاجر برسبان، وست الحسن وغيرها، وفي إطار استلهام التراث المسرحي الشعبي المصري تحمس الشافعي لاستلهام الظواهر الشعبية التمثيلية المصرية الخالصة، وقد قدم نموذجاً لها من تأليف الكاتب سيد محمد علي كتبها خصيصاً له وشاركه جمع موسيقى وأغان شعبية من الريف المصري، ليقدمها في مسرح الهناجر كتجربة حية شديدة الحيوية والثراء، وهي مسرحية الخلابيص.  

إنه المبدع متعدد الاهتمامات الذي كانت إدارته للمواقع الثقافية التي تولاها إدارة إبداعية بطابع خاص، فهو مدير ثقافة الجيزة الأشهر الذي تألقت نوادي الأدب في عهده بالتعاون مع الشاعر الكبير الراحل يسري العزب. 

وهو صاحب الإدارة الفاعلة في مسرح الثقافة الجماهيرية، وهو صاحب البصمات الواضحة كواحد من كبار البنائين في الحقل الثقافي. 

فهذا الصرح الثقافي الأكثر فخامة وتنوعاً، وهو  قصر الثقافة والمركز الثقافي في الجيزة يعود لصاحب المشروع عبد الرحمن الشافعي، فهو الذي وضع حجر الأساس له وخطط وسعى كي يتم إنجازه، فكان النموذج الأكثر حداثة لتطوير معظم قصور الثقافة في جميع أنحاء مصر. 

كان يعرف العاملين في الثقافة الجماهيرية ومسرح السامر بالاسم. 

كان يتدخل لحل المشكلات ويدعم الأصدقاء ويدافع عن المهمشين، بل وكان وبحق رجلاً كبيراً يملك إرادة الإنجاز. 

كنت قد كتبت له قبل رحيله رسالة محبة، قلت له ليتك تعرف كم نحبك كي نلتقي، لكنه كان قد اختار العزلة الإرادية، والتي لم تخترقها إلا الفنانة الشعبية شريكة الرحلة فاطمة سرحان، وكان قد ابتهج لزيارتها متذكراً كل التفاصيل المشتركة في رحلة عشقه للفن الشعبي. 

فقد كان الفن الشعبي هو حبه الحقيقي، وقد رأيت ذلك في تدريبات فرقة النيل في حالة وهج لم أره في مثلها في المرات القليلة التي تمكنت فيها من حضور تدريبات الرابعة عصراً. 

أما عن المنتج الفني المفكر عبد الرحمن الشافعي، فتجربتي معه وهو رئيس البيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية تجربة لا تغادر ذاكرتي، عندما قدمت من إنتاجه الفني وإخراجي مسرحية نخلتين في العلالي وهي عمل استعراضي غنائي، تم بنظام ودقة وسرعة في الإنتاج، هي تعبير عن ثقة المبدع الكبير في اختياراته كم تشعر بمتعة الإبداع عندما تعمل مع الرجال. 

وداعا الأستاذ والمعلم والمنشط الثقافي وخبير الفن الشعبي والمنتج الفني المحترف والمخرج الكبير عبد الرحمن الشافعي، ستبقى في وجداننا وستعيش في ذاكرة المسرح المصري والثقافة المصرية. 

فقد كان عبد الرحمن الشافعي الإنسان الطيب رغم كل ما كان يبدو عليه من جدية وغضب في الحق في كثير من المواقف المهنية.. إنه عنيف في الفن من فرط الرقة. 

رحم الله الفنان الكبير عبد الرحمن الشافعي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

تم نسخ الرابط