الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

ويضع كامل الشناوي عينه على محمود السعدني، فهو تابع باهتمام ما كان ذلك الشاب يعقد في مجلات "دار الهلال" من مقالات وتحقيقات وتغطيات صحفية، وما كان ينشر له في غيرها.. ولفته أن في إنشائه صنعة، لا يمّجها الذوق، وإن كانت بحاجة إلى صقل. فرغب في ضمه إلى جهاز تحرير "الجمهورية"، وأقنع أنور السادات به، وبعد أنٍ وافق، أصبح محمود السعدني محررًا في أول جريدة رسمية للثورة.

وقرّبه كامل الشناوي منه. والشناوي، يعرف الذين عايشوه وعاشروه، يملك صفات المعلم الحق، فلازمه السعدني ملازمة التلميذ لأستاذه، وأدار عقله ولهفه إلى أصول المهنة، فأخذ من أستاذه أصولها، فتخرج به، وراح يشق في الجريدة مشي القلم، وطالت المقالات والتحقيقات. وكما تأثر السعدني بمعلمه، تأثر ببيرم التونسي، زميله في الجريدة، فأخذ منه الكثير من الظُرف، والأسلوب الساخر الهادف.

أدرك كامل الشناوي أن شيئًا ما يُحضّر بين القاهرة ودمشق، وأن سوريا ستشهد حادثًا يمكنه أن يبّدِل وجه المنطقة ومسارها السياسي. فأراد أن يمنح "تلميذه" فرصته، فانتدبه مراسلًا لجريدة "الجمهورية" في عاصمة الأمويين. والسنة في عمر الزمن كانت 1957.

اختصر محمود السعدني أيامه في دمشق، بأنها كان "رحلة الضنى والعذاب".

في جلسة صفاء في إحدى ليالي لندن الباردة، وعلى "كباية شاي" كما كان يسميها، سرد لي تفاصيل واقعتين من زمن أيامه في الشام، (لم يأت على ذكرهما في سيرته الذاتية، ولا تلميحًا، في أي كتاب آخر من كتبه أو مقالاته).

الواقعة الأولى، تتعلق بما سمي في سنة 1956 "المؤامرة العرقية"، واستمرت تتفاعل حتى وصول محمود السعدني إلى دمشق سنة 1957.

ليس هنا منفسح للاستفاضة فيها، أتركها للزمان كما طلب مني، برد الله ثراه، وألحَّ، وها هنا أكتفي بالتلميح، وأعرض عن التفاصيل التي قد تنكأ جراح من بعدهم أحياء عند ربهم يرزقون، وتهتز لها رفات من اختارهم الموت.

والواقعة الثانية، عند قيام "الوحدة" بين مصر وسوريا في 22 فبراير(شباط) 1958.

كان محمود السعدني هناك، وفي أوائل مارس (آذار) 1958، عندما حطت طائرة الرئيس جمال عبد الناصر في مطار "المزة"، كان السعدني مع الذين استقبلوه في أول زيارة له إلى سوريا، وكتب ما كتب، ونشرت "الجمهورية" كل ما كتب.

وحكى لي السعدني أن بحرًا من الناس هاج وماج في ساحة "قصر الضيافة"، والشوارع العريضة التي تحوطه، وهدرت أصوات الذين تجمعوا، عندما أطل الرئيس عبد الناصر من الشرفة، حياهم، وألقى خطابًا ارتجت له المنطقة.

"شعرت بالريبة (والكلام لمحمود السعدني، أنقله كما سجلته على مفكرتي ليلتها)، فقد كنت على دراية بما يفكر به السوريون، فهم يحبون الوحدة ولكن على شروطهم، وددت أن أسرّ للرئيس بألا يثق بالهتافات".

ويتابع السعدني سرده للواقعة: "في جلسة ضمت عددًا من الصحفيين، كنت بينهم، سأل الريس كل واحد عن انطباعاته، وكلنا راوغنا، وأخفينا حقيقة ما نفكر به، وأنا أول هؤلاء، إلا واحد بيننا، هو الكاتب الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي الذي كان كبير مراسلي "أخبار اليوم" (تولى النشاشيبي سنة 1959 رئاسة تحرير "الجمهورية"). فقال للرئيس أنه قرأ في كتاب "أعمدة الحكمة السبعة" للجاسوس الإنجليزي الكولونيل طوماس إدوارد لورانس، ولقبه "لورانس العرب"، أن دمشق خرجت عن بكرة أبيها، وناسها هتفوا بحياة فيصل بن الحسين الذي أصبح ملكًا على العراق سنة 1918، واستقبلوه استقبال الفاتحين الميامين، ولكنه عندما انكسر في معركة "ميسلون" أمام القوات الفرنسية، وأُجبر على الرحيل من دمشق، لم يجد في وداعه في محطة "درعا" للسكة الحديد سوى مطران طائفة الروم الأرثوذكس!

فاستشاط الرئيس جمال عبد الناصر غضبًا، وصرخ في وجه ناصر الدين النشاشيبي:

"يا أخي.. ملعون أبو لورانس".

وخرج من الصالون".

وتلوّن صوت محمود السعدني بشيء من الحزن، أخذ نفسًا عميقًا:

"كنت أود لو أنني استطعت قول ما قاله النشاشيبي، فما حدث بعد أقل من ثلاث سنوات، كان مصداقًا لقوله، وساحات دمشق التي استقبلته بالهتاف، بدّلت صوتها، والهتاف بحياة عبد الناصر والوحدة والثورة، تحول في التظاهرات إلى كيل التهم للرئيس، والوحدة، والثورة. فالمواطن السوري الذي هتف للوحدة، هو نفسه الذي نادي بسقوطها.

ويتقلب محمود السعدني على الشقاء والتعب، كُتب عليه التيه والترحال، "بلد تشيل وبلد تحط".

من رئاسة تحرير "صباح الخير" مشاركة مع لويس جريس، في توليفة وضعها شعراوي جمعة، إلى السجن، ليلة "مراكز القوى" الذي كان فيها تضحية شعراوي جمعة أيضًا، ومن السجن إلى الغربة والتشرد.

في الخليج، كانت محطته "الإمارات"، لكنه ذلك "الولد الشقي" تجرأ ووضع تحت اسم "جريدة الفجر" التي كانت تصدر في أبو ظبي، شعارًا هو: "جريدة العرب في الخليج العربي"، فثارت ثائرة طهران.

ويمم صوب بغداد، ارتضى بالمر والمر لم يرضَ به، ومن بغداد إلى الكويت، وإلى جريدة "السياسة" التي كان يصدرها ويترأس تحريرها أحمد الجار الله، فلم يطِب له جو الكويت.

حمل حقائب السفر، وحطّ به الترحال في بيروت، وفتح له صديقه طلال سلمان صفحات "السفير"، السعيدة الذكر، فكتب وكتب، حتى انتشى.

وعرف محمود السعدني النبع الذي يسقي "السفير"، ويروي ظمأ صديقه طلال سلمان، فقصده، وكان لقاء مع العقيد معمر القذافي، الوصي على العروبة!

وحل في طرابلس الغرب ردحًا من الزمن، فما طاب له لا المقام ولا الكلام الذي كان يسمعه، وما أعجبه ما جاء في "الكتاب الأخضر" ولا من كتبوه للعقيد، ونظروا له.

وكان أن عرض عليه القذافي أن يعود إلى بيروت، ويصدر فيها مجلة سياسية أسبوعية من بيت مال الجماهيرية، له كل ما يريد ومن دون حساب.. فرفض السعدني عرض العقيد، من خوف أن "يُصفَى" كما صُفي غيره من الذين حملوا المعاول وحاولوا الدك والهدم.

ثم طرح السعدني على العقيد فكرة مجلة "23 يوليو"، وبدل إصدارها من بيروت، تصدر في لندن التي أخذت مكان العاصمة اللبنانية، عاصمة للصحافة العربية، فلم يرد العقيد ولم يناقش الفكرة.

وفي لقاء على العشاء في خيمة العقيد، طلب منه أن يفكر بالسكنى في طرابلس، والكتابة اليومية في جريدة "الفجر الجديد"، فاغتنمها فرصة للرد على تغاضي العقيد حتى عن مجرد مناقشة فكرة مجلة "23 يوليو"، فرد عليه:

"الله... سيادتك، هي اسمها "الفجر الجديد" أم "الفقر الجديد"؟"

وفهم القذافي ما يخفي السعدني وراء تلك "النكتة".. رسم على شفتيه ابتسامة خبيثة، و... سكت.

في اليوم التالي، أدرك محمود السعدني، أنه حان الوقت للرحيل مجددًا.

فترك طرابلس، والعقيد، والخيمة، وجاء إلى لندن.

بعد وصوله إلى لندن، عادت فكرة" مجلة 23 يوليو" تلح عليه، واستطاع تنفيذها بتمويل إماراتي غير مُعلن، بالاشتراك مع ناصريين معارضين للرئيس أنور السادات، ولسياساته في الداخل والخارج، وخصوصًا "اتفاقية كامب دافيد".. ومن هؤلاء محمود نور الدين، مؤسس تنظيم "ثورة مصر"، وتعاون معه في إصدارها فهمي حسين، مدير تحرير مجلة "روزاليوسف" الأسبق، ورئيس تحرير "وكالة الأنباء الفلسطينية". وغمس رسام الكاريكاتور صلاح الليثي ريشته في صفحاتها، فرسم وأبدع والكاتب عاصم حنفي، الرسام سعيد الفرماوي، وفاروق بندق، الذي عمل فيما بعد مديرًا لتوزيع "الأهرام" بلندن، جمال إسماعيل، ومنى غباشي، وعدد آخر من الصحفيين والكتّاب الذين ينسجون على المنوال الناصري، وتولى التصميم والإخراج الصحفي محمد محفوظ.

وتوليت، في "مورلي هاوس"، التنضيد وتصوير الصفحات، والمونتاج الكامل للوائح الطباعة، والإشراف على عمل المطبعة، ومراقبة الطبعات الأولى. وعلى الرغم مما كانت تأخذه مجلة "الحوادث" من وقت، ما تأخرت أسبوعًا عن إتمام العمل في مجلة السعدني، بحيث تحافظ على مواعيد المطبعة والتوزيع.

كانت "23 يوليو" أول مجلة مصرية تصدر من لندن، وجمعت من حولها من يعيش من المصريين في الغربة، وكانت في الحقيقة لبعضهم بمثابة "فشة خلق"، والمتنفس لكتمات صدورهم، وكما حققت نجاحًا في المغتربات، حققت نجاحًا كبيرًا في العالم العربي، وأصبحت حديث العرب.

مكاتبها في منطقة "ايرلز كورت" في لندن تحولت إلى منتدى سياسي وثقافي، لكل المعارضين والكتّاب والفنانين. وكان يتم تهريب العديد من النسخ إلى مصر سرًا، فغدت على قائمة المهربات التي يدسها كل مصري في قاع حقائبه.

وزاد توزيعها في العالم العربي، وعلى حد قول الكاتب محمد عودة: "كانت المجلة تصيب المسؤولين في ذلك الوقت بنوبات أسبوعية من الصرع، واستبسلوا في حصارها وتقويضها".

كان العمل مع السعدني متعبًا جدًا، فهو عاش في لندن كأنه في القاهرة، يستيقظ في منتصف النهار، ويعمل كما يعمل الإنجليز حتى الخامسة والنصف مساءً، لينام بعدها حتى الساعة التاسعة مساء، فيستعيد نشاطه، ويسهر حتى الفجر.

قال عنه الكاتب كامل الشناوي، ذات يوم:

"يخطئ من يظن أن السعدني سليط اللسان فقط، أنه سليط العقل والذكاء أيضا".

نادرة زمانه، كان محمود السعدني، يلجأ له الناس لحل مشاكلهم، ففي سخريته عمق فلسفي، يؤنسك منه ابتسامته وبهجته وضحكته.

ما كانت زحمة العمل تسمح أن نلتقي كما كنا نفعل، وننبسط في الحديث. فاقتصر اللقاء طوال فترة إصداره "23 يوليو" مرة في الأسبوع، عندما يأتي إلى مكتبي لسداد فواتير الإنتاج الفني والطباعة.

التزمت المجلة بالأفكار الناصرية، وكان السعدني يتوقع أن تلقى دعمًا من الأنظمة العربية ولكن ذلك لم يحدث، بل تمت مُحاصرتها ماليًا من أنظمة العراق، وليبيا، وسوريا.. كرما للسادات، حتى إن السعدني سخر من ذلك قائلًا:

"كان يجب عليّ أن أسمي المجلة أي اسم آخر، غير 23 يوليو، لأحظى بالدعم".

وسرعان ما توقفت المجلة، ضاعت وضاع معها الولد الشقي في ضباب عاصمة الضباب.

واعتكف محمود السعدني في شقته الصغيرة في "ستيوارت تاور" في منطقة "ميدا فيل "Maida Vale (غرب لندن)، في عمارة شهدت إقامة عدد كبير من مشاهير المصريين: ألفريد فرج، وبليغ حمدي، وسعاد حسني التي انتهت حياتها في حادث مؤلم.

بعد اغتيال أنور السادات في حادث المنصة الشهير، عاد إلى مصر واستقبله الرئيس حسني مبارك في القصر الجمهوري، ليطوي بذلك صفحة طويلة من الخلاف مع النظام المصري، وظل بالقاهرة حتى رحل عن عالمنا في مايو (أيار) 2010 عن عمر ناهز الثانية والثمانين عامًا على أثر أزمة قلبية حادة.

و... أخذت المكاتب في "مورلي ستريت" تضيق بنا، وقد لزم، بعدما ازداد الإقبال علينا، وعلى الخدمات التي كنا نقدمها، إن في الترجمة أم للصحف والمجلات التي أخذت تصدر في لندن، أن نفكر بالانتقال إلى مكان أرحب وأوسع، لتجديد وزيادة عدد آلات النتضيد وآلة التصوير وتحميض الأفلام، إضافة إلى الحاجة الماسة لتطعيم الجهاز بخبرات جديدة.

وبدأت أفتش عن "بيت جديد" لشركتي التي كبرت على حين غرة.

   

تم نسخ الرابط