هاجر للندن وباريس كتّاب وصحفيون وشعراء، ليس فقط من الشام والعراق بل من السودان أيضًا. فقد عرف صحافيو السودان الهجرة بصورة كبيرة بعد انقلاب 25 مايو "أيار" 1969 إلى دول الجوار العربي ودول أوروبا، حاول بعضهم إصدار صحيفته، مثل حسين عثمان منصور، صاحب صحيفة "الصباح الجديد" الذي أصدر منها أعداد قليلة بلندن، ثم توقفت لأسباب كثيرة، بينها ضعف التمويل ومشاكل الشحن والتوزيع، وتَوّزَع الصحافيون السودانيون للعمل في بعض المطبوعات العربية المهاجرة.
في لندن كانت لي لقاءات مع العديد من الكتاب والمفكرين والصحفيين والشعراء الشوام والسودانيين، مثل الكاتب الفلسطيني ناصر الدين النشاشيبي، الذي عاش سنوات في مصر، أتي إليها مهاجرًا من القدس.
احتضنته الناصرية والصحافة المصرية ورأس تحرير جريدة الجمهورية المصرية المعبرة عن ثورة يوليو، وكان صديقا لكل نجوم الصحافة المصرية، خاصة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، لكنه انقلب عليهم وأصبح يُشًهر بهم في الصحافة العربية، خاصة هيكل، بعد أن ترك الأهرام ففتح النار عليه، وكال الاتهامات له.
هاجر إلى لندن وسكن في منطقة نايتسبريدج قريبًا من المتجر الشهير هارودز، والتقيت به أكثر من مرة في شقته الأنيقة المطلة على فندقPark tower عندما كتب كتبه: "هل تعرفون حبيبتي" و"لماذا وصلنا إلى لندن" و"المرأة تحب الكلام"، للاتفاق على طباعتها وإضفاء لمساتي الفنية والطباعية.
عندما انتهت طباعة الكتب وتسّلمها، زارني بمكتبي لإبداء شكره وامتنانه حاملًا قنينة من النبيذ مؤرخ عليها 1948 القدس، وفي الحقيقة كانت لا تُشرب ربما لسوء التخزين أو لأمر آخر.
كثيرًا ما كنت أذهب إلى مكتبي في لندن كل صباح مترجلًا من محطة قطار فيكتوريا الشهيرة حيث أصل إليها بالقطار من كرويدون Croydon بمقاطعة Surrey حيث أقيم، مفضلًا المشي مستنشقًا نسمات الصباح المعطرة برذاذ السحب خلال حدائق سان جيمس، وحديقة جرين بارك.
وما أكثر الأيام التي كنت أشاهد فيها الشاعر نزار قباني يمشي متأملًا بين الزهور والأشجار، فكل "الأفكار العظيمة تولد أثناء المشي"، كما يقول الفيلسوف فريدريك نيتشه.
لقد كان الشاعر الكبير محبًا للحدائق البريطانية ودائم الزيارة لها، ويقول إنها من إعجاز الله، ويقول "انظروا إلى الديمقراطية وكيف أعطوا للناس الحيز الكبير من المساحات من حدائق عامة حتى تستمتع".
كانت أزمة نزار قباني الحرية، كثيرًا ما صودرت قصائده في بلاد العرب، وبعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان ومقتل زوجته بلقيس، كتب قصيدة من المفترض أن تكون مرثية زوجته وحبيبته التي قتلت غدرًا في تفجير سفارة العراق ببيروت، جاءت عبارة عن مزيج فريد بين الغضب واللوعة والحزن والرثاء والثورة على الإرهاب والأوضاع المرتبكة والمضطربة، ومنعت القصيدة، منها:
بلقيسُ يا عطْرًا بذاكرتي، ويا قبرًا يسافرُ في الغمامْ
قتلوكِ في بيروتَ مثلَ أيِّ غزالةٍ من بعد ما قَتَلُوا الكلامْ.
بلقيسُ ليستْ هذهِ مرثيَّةً.. لكنْ على العَرَبِ السلام.
انتقل نزار قباني للعيش في مصر عام 1983، وتعرض لهجوم عنيف على خلفية قصيدة ضد الرئيس أنور السادات، انتقده فيها وانتقد اتفاقية كامب ديفيد، ورغم وجود أصدقاء وقفوا إلى جانبه مثل يوسف إدريس ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحمد عبد الوهاب، واعتباره أن مصر أم الدنيا لم تتوقف الحملة ضده طوال عام كامل، لا سيما من قبل أنصار التطبيع مع إسرائيل آنذاك، وقرر نزار الانتقال إلى سويسرا عام 1984، وبقي فيها 5 سنوات، ثم ذهب إلى لندن عام 1989 وقضى فيها 9 سنوات حتى رحيله.
كان نزار عاشقًا للحرية، وتحكي ابنته هدباء نزار قباني حدوتة عن قصيدة كتبها أبيها "حزب المطر" قائلة على لسانه "إنها تمطر في لندن ولكنه مطر يحمل معه حرية تتيح لي الكتابة في كل وقت، فمن يلحق بي لنؤسس حزب المطر؟" وفعلًا وصلته اتصالات كثيرة للانضمام إلى حزب المطر.
الديمقراطية وحرية الرأي كانت همَّ كل من هاجر من بلاده لظروف ما، متطلعًا لمناخ أكثر حرية، وصحافة لا تحاصرها رؤوس أموال متواطئة مع أصحاب المصالح الذين يزوّدون الصحف بالإعلانات، وهي العصب الأساسي لأرباح بعض الصحف في الدول العربية التي لا تملكها الدولة.
ومن القصص المعروفة التي نتندر بها في الوسط الصحفي، ونؤكد معها ظاهرة شراء وتمويل الصحف من جهات مختلفة، أن مليارديرًا عرض على سليم اللوزي، رئيس تحرير مجلة الحوادث وقت صدورها من لندن، شيكًا بمبلغ خمسة ملايين دولار، وعقدًا لمدة عشر سنوات بمقابل شهري قدره عشرة ملايين دولار، لكي تكون مجلة «الحوادث» صحيفة موالية لنظام عربي، لكن اللوزي رفض وقال «إنني أريد تحويل هذه المجلة إلى مؤسسة لا بيعها لمن يدفع أكثر!».
جرأة اللوزي كانت مزعجة، ووجد اللوزي الحل في أن يكون للمجلة طبعتان: طبعة لبلاد الحرية، وطبعة تذهب إلى ما يطلق عليه في لغة النشر بلاد Split Run، منعًا للمصادرة.
وعن هذه المرحلة يحكي الصحفي اللبناني نبيل خوري، تلميذ الأستاذ في مقال له نشره شهر يونيو "حزيران" 1978 في افتتاحية مجلة المستقبل التي تصدر من باريس، وتولي رئاسة تحريرها:
"في منتصف السبعينيات عندما هربنا من لبنان وجئنا إلى أوروبا لنكون روادا لما سمي فيما بعد "الصحافة المهاجرة"، كان مفهومنا للحرية بسيطًا: أن نكتب بلا خوف. في البدء كتبنا فعلًا بلا خوف، ليس في أوروبا- بالنسبة إلى الصحفي- زوار فجر، وإمكان الخطف معقد، وقرار الرصاصة القاتلة أصعب في المهجر، عدونا الوحيد البعيد كان الرقيب في الوطن، فهو ينتظرنا، نتخيله لأننا لا نعرفه، جالسًا في غرفة مظلمة يحمل قلمًا أحمر، يلغي من يشاء بقرار، بكلمة واحدة: تمنع! ونشأت بيننا وبين هذا الرقيب علاقة غريبة، نخافه من بعيد، ونحاول ألا نغضبه، فما نفع الصحافة المهاجرة إذا كان لا يقرأها أحد؟
واكتشفنا، بعدما توغلنا في الغربة، أننا أبدلنا خوفنا بخوف، وأن قسوة الرقيب المجهول تكون أحيانًا أكثر من قسوة أمير الميليشيا في بيروت، وسنة بعد سنة، اكتشفنا أن إدخال المخدرات قد يكون أسهل من إدخال الكلمة، إن على هذه الصحافة إما أن "تستزلم" وإما أن "تستسلم".
وتنتهي هنا شهادة الصحفي اللبناني نبيل خورى.
و للحديث بقية..



