لقد كان الصوت العربي الموحد في قمة جدة للأمن والتنمية صوتاً جديداً على النظام الأمريكي، يعلن الشراكة الاستراتيجية مع أمريكا في صيغة تحفظ استقلال القرار الوطني وتحرص على المصالح العربية في عالم متعدد الأقطاب، يحاول من جديد صياغة مراكز القوة والنفوذ.
ثم كانت قمة طهران سريعة التحضير، التي يبرز فيها الدور الروسي واضحاً. ليصبح السؤال:
ماذا يفعل الرئيس الروسي بوتين مؤخراً في محاولاته الدائمة المستمرة لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد وللبحث عن دور أكبر لروسيا الاتحادية في العالم المعاصر؟
إنه بلا شك أدرك أهمية البحث عن غطاء فكري ثقافي لتلك التحركات الخشنة والقوية التي تستند إلى القوة العسكرية في أوكرانيا، والحضور العسكري في منطقتنا العربية في سوريا ومحاولات التأثير والبحث عن موطئ قدم في إفريقيا، وتحالفات شرقية واضحة في آسيا عبر الشريك الصيني القوي القادم، مؤثر جداً في النظام العالمي الجديد.
وعندما يتحدث بوتين عن المليار الذهبي المهيمن على العالم في منتدى "أفكار قوية للعصر الجديد" معلناً أنه مليار مهيمن يقسم الشعوب بنظرة استعمارية، ويتحدث عن الليبرالية– دولة المؤسسات المستقلة، الحرة في الاقتصاد والديمقراطية في نظام الحكم– وهي عقيدة العولمة المعاصرة، موضحاً أنها أخذت تكتسب بشكل متزايد سمات الشمولية– التوتاليتارية– وهي الدول التي تميل لتوحيد الرأي وتوحيد عمل المؤسسات الحاكمة في الدولة، والاستناد لرأي واحد يلتف حوله الشعب والدولة– بما يوحي بحديث مختلف نادر عن الحرية وعن السؤال المجدد عن أنظمة الحكم في المركز الغربي الأوروبي– الأمريكي.
إلا أن الخطاب الجديد لبوتين هو خطاب مختلف لروسيا، لأنه خطاب يتحدث عن الدول الشمولية بشكل يرفضها ويراها مهيمنة واستعمارية، هو خطاب فكري يخاصم الشيوعية إذن.
وعلى أقل التقديرات هو خطاب فكري يعي جيداً، أن العالم المعاصر اليوم وإن شكا هموم النظام الواحد ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا أن حياتنا الثقافية المعاصرة يسودها خطاب رافض وعنيف للنموذج الشيوعي ولذلك فهو كوريث لهذا النظام المنهار في الاتحاد السوفيتي يبدو أنه يهرب من الانتماء إليه.
فما بعد الحداثة التي هي الإطار الثقافي للعولمة المعاصرة، تنظر برفض عنيف للنموذج الشيوعي، الذي كان أملاً كبيراً للفقراء وللمناضلين السياسيين طوال القرن العشرين. إن بوتين يعرف أن هذا النظام قد انهار انهياراً تاماً.
وقد كان هذا النظام المنهار هو السبب الأول لتلك النشوة التي أحسها المنتصرون المنتمون إلى الليبرالية التي صارت مبادئ عالمية في تكوين الدول والسياسات، وطريقة تفكير ثقافي في العالم المعاصر. وهي التي حددت مستوى التعليم وجودته.
- ويمكن ملاحظة دور المدارس والجامعات الدولية في الدول الوطنية في أنحاء العالم ومنها مصر والوطن العربي - والنشاط المهني للأشخاص الفاعلين، المصلحة والسوق والعقل والحياة الثقافية في ظل سياسات النظام العالمي الجديد بين من يسعون لتحديد الفاعلين الجدد والأهداف الجديدة.
إن الرئيس بوتين يوجه نقداً لتلك القواعد المؤسسية والقوانين والمبادئ المعلنة والأساليب الاقتصادية التي لا تقوم بالحماية الحقة على النحو المطلوب من طغيان السلطة.
إلا أن هناك ملذات أخرى للنظام العالمي الجديد، أي للعولمة، التي تأتي الليبرالية التي تتعرض لنقد قاس من بوتين في القلب منها.
جدير بالذكر أن هذه الملذات انتقلت إلى حياة الشعب الروسي أيضاً.
لقد أصبح عمق ما قدمته ثقافة ما بعد الحداثة هو التغيير في سلوك العديد من الفاعلين المهمين، إنه تغيير عنيف وجد القناعة والقبول بسبب قدرته على إتاحة السفر والتنقل الكبير، والمتعة في الأسواق، ونشر المشاعر العنيفة والتعبير الحر الفردي عن الذات في وسائل الإعلام، وفي الديسكو ورحلات السفاري.
بينما يحاول بوتين ومعه عدد من المفكرين البحث عن حلول لخلل حقيقي في المستقبل البعيد.
لكن وبنظرة محايدة نجد أن بوتين يرث دون أن يعلن ذلك، تراث الماركسية في الحديث عن الاستعمار والمليار الذهبي المهيمن، ولكن هل سيعالجها كمسيحي مؤمن يملك قدرات كبيرة في دولة كبيرة وفي إطار اقتصاد السوق والحريات العامة؟
إن الخطاب الماركسي في نقد الليبرالية يطل من وراء خطاب بوتين الذي حرص على العودة لتراث الأمة الروسية القوية فيما قبل الاتحاد السوفيتي المنهار.
فمن يمكنه مواجهة تلك المشاهد المعقدة والراسخة والمبينة على مصالح كبرى في نظام العولمة المعاصر وإطارها الثقافي المسمى ما بعد الحداثة دون إحداث اختلالات كبرى في كل أنحاء العالم.
إن عالم الشركات المتحدة واقتصاد السعي خارج القومي والنوعي والمقدرة على مد الأذرع الطويلة في شبكة عالمية قد كان البناء الأساسي لما بعد الحداثة، وهو أحد أهم أهداف روسيا والصين واللاعبين الجدد في النظام العالمي الجديد.
إن كل تلك الصراعات تستهدف البنية الاقتصادية للنظام العالمي الجديد ويشكل الغطاء الثقافي لحريات السوق والحريات العامة، الفضاء الممتع المحقق لرغبات الإنسان الأساسية.
وبالتالي فلا يزال الخطاب السياسي الروسي يحتاج لبناء فكري ثقافي قوي، ولا يزال اللاعبون الجدد بحاجة ماسة إلى التفكير الجاد ومعهم المركز الغربي الأمريكي في إيجاد حلول للأزمات المتراكمة في ظل النظام العالمي الجديد.
لا شك أن الليبرالية المعاصرة لم تقدم حلولاً كما كانت تعد بعالم أفضل، ولا شك أن الإطار الثقافي للنظام العالمي الجديد يكشف عن ثغرات إنسانية كبرى، وعن مشكلات عميقة في الممارسة السياسية والاقتصادية بل وفي حفظ الكرة الأرضية من تهديدات مناخية مرعبة.
تحتاج الأيام القادمة لحنكة وقوة والتفاف حول قرار وطني عربي موحد، كما تحتاج كل تلك الاختلالات الثقافية الإنسانية في نظامنا العالمي المعاصر ومحاولات إعادة صياغة العالم من القطب الواحد لأقطاب متعددة، إلى رؤية مستقبلية تحفظ لمصر والوطن العربي الاستقلال والحضور وعدم الانسياق وراء مغامرات صراعات كبرى، لا بد أن العالم سيدفع أثماناً باهظة لها، وهو يتغير مع النظام العالمي الجديد المتغير الآن.
تبقى الثقافة الحضارية النسبية والثوابت الوطنية هي الإطار القوي الذي علينا الاستناد عليه في ظل كل تلك التشابكات السياسية المبعثرة والمتناقضة.
وهو الموقف المصري الواضح والدور القوي المحوري المؤثر للرئيس عبد الفتاح السيسي الذي ظهر جلياً في التمسك بالثوابت الوطنية والتراث الثقافي الحضاري المصري والعربي في خطابه بقمة جدة للأمن والتنمية، وهو الخطاب السياسي المصري المستند لثوابت ثقافية، أدت إلى هدوء ملحوظ في المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، وتجلى تأثيره في تحقيق البورصة المصرية لمؤشرات اقتصادية مبشرة بعد تعرضها لتعثرات مختلفة.
إنها الثوابت الوطنية الثقافية والتي تمثل جوهر الدور المصري المحوري التاريخي لمصر في محيطها العربي والإقليمي، وهو الدور الحافظ لمصر ولقدرتها على التأثير والتأثر الفعال في عالم شديد الصعوبة والتناقض والتعقيد.



