عجبت لك يا زمن، جاء الوقت وأصبحت أحاسيسنا ومشاعرنا يحركها "التريند"، كما لو كنا بحاجة إلى عوامل خارجية تحرك ما بداخلنا من إنسانيات لتؤثر فينا ونتأثر بها، على الرغم أن من المفترض أن تكون هذه هي الطبيعة البشرية التي فطرنا الله عليها ودعتنا إليها كافة الأديان السماوية.
خلال الأيام السابقة شهدت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فيديو لعامل بأحد محلات الكشري الشهيرة يرفض تواجد شاب يرتدي ملابس عمال النظافة داخل المحل، ثم بعد ذلك ظهر فيديو آخر يظهر فيه نفس عامل النظافة حاملا وجبة الكشري التي اشتراها عن طريق "التيك أواي"، جالسا على إحدى الموائد داخل صالة المطعم لتناول الطعام، وقيام عامل المطعم بالتوضيح للعامل أن الصالة مخصصة فقط للشراء، إلا ان الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل انتشر العديد من الأخبار والأقاويل المرتبطة بالواقعة بأشكال وزوايا مختلفة.
الأمر الذي جعل القصة سواء أكانت "حقيقية أو مزيفة" مادة خصبة للتداول بين رواد ومستخدمي الإنترنت، فكل مستخدم يجتهد لكي ينسج تفاصيل وأحداث القصة من وجهة نظره، حتى يستطيع الخبر أو الفيديو الذي صنعه أن يحصد كم هائل من المشاهدات واللايكات بهدف الوصول للتريند وهذا ما قد حدث بالفعل.
ربما نختلف أو نتفق حول صحة القصة المتداولة لعامل النظافة، وما أسفرت عنه من مبادرات ومساندات إنسانية، بادر أصحابها بنشرها على صفحاتهم الخاصة، الأمر الذي أدى إلى انتشارها بسرعة فائقة بين مستخدمي الإنترنت ورواد مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية.
الحكاية ليست في صدق ادعاء عامل النظافة أو في كونها قصة مفبركة نفذها أشخاص هدفهم جنون الشهرة "ركوب التريند". لأني لا أستطيع أن أنفي عن عامل محل الكشري تهمة الإساءة وسوء المعاملة مع المواطن الإنسان عامل النظافة، أو ألتمس له العذر وابرر تصرفه بأنه ينفذ تعليمات إدارة المحل.
مما لا شك فيه أن ما حدث يدفعنا إلى توجيه الاتهام لكل مواطن لا يشعر بالآخر، حيث حثتنا الأديان السماوية على احترام الإنسان عامة، و دعتنا إلى تقبل الآخر والتسامح والإخاء والمساواة وتحقيق الكرامة الإنسانية.
مازال النقاش والجدال الصاخب الذي جعل الرأي العام يتعاطف مع قصة عامل النظافة بصورة مبالغ فيها مستمرا، و رغم ذلك هناك أمثلة كثيرة ومتنوعة من أمثال صاحب القصة المثارة، فهناك من يمتهنون وظائف صعبة وخطرة ويعملون تحت ظروف قاسية، ويتحملون المشقة من أجل لقمة العيش، دون شكوى أو ملل أو متاجرة بعملهم البسيط.
في اعتقادي أن من يريد عمل الخير لا ينتظر شهر رمضان أو "التريند"، ولا بد أن يعيش الخير بيننا دائما، ولا يكن مجرد لحظة تنتهي بعد فترة، أعلم جيدا أن الدنيا ما زالت بخير طالما هناك أهل الخير، لهذا اذا أردت فعل الخير فما أكثر القنوات الشرعية لتنفيذ ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، إعطاء زجاجة مياه لعسكري المرور أو لعامل النظافة في حر الصيف القاسي، أو تدشين مبادرة تدفئة الشتاء للأسر الأكثر فقرا والأشد احتياجا، البحث في المدارس عن الأيتام أو غير القادرين ودفع مصاريف المدارس لهم وشراء الزي المدرسي، زيارة دار للمسنين لرسم البسمة على وجوههم وادخال الفرحة قلوبهم، وغيرها من أشكال الخير، فهناك الكثيرون الذين ينتظرون الدعم والمساندة لوجه الله وليس بهدف الشو الإعلامي والشهرة.
في النهاية هناك سؤال بريء يبحث عن إجابة: ماذا لو تمت مساندة عامل النظافة وإدخال السرور والبهجة على قلبه في الخفاء دون الإشهار على صفحات التواصل الاجتماعي؟ وما الفرق بين إهانة عامل محل الكشري لعامل النظافة، وبين ما تم نشره من استضافته في مطعم أو شراء ملابس جديدة له أو التبرع له بمبالغ مالية أو غيرها من صور الدعم العلنية أمام الجميع؟ برغم جنون السوشيال ميديا والهوس الإخباري، إلا أنني أؤكد على الجميع ضرورة جبر الخواطر، وانتقائنا للكلمات حتى لا نتسبب في إحداث ألم لأحد، بالإضافة إلى الحرص على مراعاة مشاعر الآخرين، والتمتع بنقاء وصفاء القلب، لأن الإنسانية ليست بحاجة إلى "تريند" يحركها.



