هل الأعمال الفنية مسؤولة عن كل الجرائم التي شاهَدناها عبر الزمن، أمْ أنّ هناك قدرًا لا يُنكَر من الاستسهال والتعسف فى الإمساك بالقاتل؟
نكتشف ببعض التأمل أنه (قاتل ما قتلش حد)، بالمناسبة لا أنكر قطعًا أن هناك مَن يتأثر بالشاشة ويُحاكيها فى سلوكه اليومى، إلا أن هؤلاء يمثلون الأقلية، والدليل أن فى كل دول العالم تنتشر أفلامُ الرعب، وآخر صيحة هى (الزومبى) مصاص الدماء، فهل أصبحنا جميعًا نفطر على كيلو دماء طازجة من أحد الأصدقاء المقربين، ونتعشّى بكيلو ونصف من الجيران، مثلما رأينا الأبطال على الشاشة.
كثيرًا ما نقرأ عن حادث انتحار من (برج الجزيرة)، المُطل على وسط القاهرة، شاب يصعد للطابق الـ16، ثم يعانق الهواء من أعلى المَبنَى الذي يصل ارتفاعه إلى 187 مترًا، أو نقرأ عمّن ألقى بنفسه فى نهر النيل؛ لأنه أخفق فى تحقيق مجموع فى الثانوية العامة يُؤهله لدخول الجامعة، هل من الممكن دَرًْءًا للجريمة أن نوجّه الاتهام للبرج أو للنهر؟!
شىءٌ من هذا ألاحظه يتكرر فى الإعلام، بعد أى حادث مروع، تتوجه على الفور سهامُ الغضب إلى الفن؛ خصوصًا الأعمال الدرامية العنيفة، وأيضًا أغانى المهرجانات والرّاب، حمو بيكا وشاكوش وكسبرة وحنجرة وويجز وغيرهم، وتكثر المطالبات بمصادرتهم، نوع من الاستسهال فى تحليل دوافع الجريمة، وأحيانًا لتصفية خلافات أو للتنفيس عن الكراهية، مع ممثل أو مُغنٍ حقق قدرًا من الشهرة، إلا أنه دائمًا ما يثير الجَدَل مثل محمد رمضان، وتعلو الأصوات التي تتهم فيلمه (عبده موتة) وعلى مدى عشر سنوات بالترويج للعنف، الذي يؤدى لارتفاع معدلات الجريمة. استمعتُ قبل أشهُر إلى مَن يقول إن مسلسل (بطلوع الروح) الذي شارك أحمد السعدنى فى بطولته، كان يؤدى دور (داعشى) رفضته فى الأحداث الدرامية منة شلبى، فقرّر أن ينتقم منها. وجاء التحليل المباشر أن قاتل (نيرة) عندما رفضتْ الارتباط به فعل مثل أحمد السعدنى فى المسلسل.
مثل هذه التحليلات المتعجلة تلقى صدًى كبيرًا لدى القطاع الأكبر من الجمهور؛ لأنها فى النهاية تُبعد عن المجتمع أى مسؤولية، وتعتبر أن الشاشة مسؤولة عن كل ما يجرى أمامنا من فساد أو انحراف أو دماء.
هذا الأمْرُ ليس وليد هذه الأيام؛ كانوا فى الخمسينيات من خلال أحاديث بعض أساتذة علم النفس والاجتماع، يُحذرون أولياءَ الأمور من السماح لأبنائهم بمشاهدة أفلام إسماعيل يس حتى لا يُصابوا ببلادة عقلية. الزمن شهد لصالح تلك الأفلام التي لا تزال تُضحك الأطفال. فى فيلم (شباب امرأة) منتصف الخمسينيات، اضطر المخرج صلاح أبوسيف إلى كتابة كلمة إرشادية على الشاشة، تسبق عرض الفيلم، يطلب فيها من الآباء والأمهات متابعة أبنائهم خوفًا من الغواية، مثلما حدث مع شكرى سرحان (إمام) الذي استغلته تحية كاريوكا (شفاعات).
لا تزال (مَدرسة المشاغبين) ينالها القسط الأكبر من الاتهامات؛ باعتبارها سر فساد نظام التعليم. تَعَاقب أكثر من مسؤول عن التعليم، ولم يستطع أىٌ منهم وضعَ الحل الصحيح للمنظومة؛ بل ازدادت ترديًا، فتحمَّل نجوم (المشاغبين) عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبى وأحمد زكى المسؤولية، وعلى مدى نصف قرن لا تزال (المشاغبين) هى المُذنب الأول.
الجريمة وُلدت مع الإنسان، قابيل قتل أخاه هابيل، من البديهى، وعَبْرَ كل السنين فى الداخل والخارج، نجد أعمالاً يلعب بطولتها الخارجون عن القانون، فهل نضعها كلها فى قفص الاتهام؟ أمْ أن علينا البحث بالضبط عن الدوافع الاقتصادية والاجتماعية والدينية والثقافية التي دفعت للجريمة؟
الأصوات التي تدين الفنَّ صارت مسيطرة على المَشهد، وتعلو دائمًا مع تداوُل أى جريمة تهز أركانَ الرأى العام، وكأننا نريد فى الوقت نفسه إعلان براءتنا، ونُعَلق حبل المَشنقة للفيلم والمسلسل والأغنية!.



