تمر الأيام وتعقبها السنين وتلاحقنا التجارب وتعقبها الخبرة، فلا تيأس مهما كانت النتيجة، فنهاية الفشل حتما النجاح إذا وجد الإصرار والعزيمة. وتمر أقدار الحياة ثقيلة، فنظن أننا سوف نهلك بعدها، فإذا بلطف الله يهطل فجأة، ليذيقنا سعة الحياة ورغدها، فنفوسنا عند الإله وديعة، حاشاه يخذل صبرها ويردها، سيغيثنا يوما ويجبر كسرها.
عاش الفيلسوف الألماني نيتشه فترة من حياته في إنجلترا. وكان دائم التردد على مقهى صغير في وسط لندن، وكان كلما جلس على الكرسي يخرج جنيهًا معدنيًا ويضعه أمامه على الطاولة. وحين ينتهي من تناول قهوته ويقرر الذهاب يعود لأخذ هذه القطعة النقدية ويضعها في جيبه.. وذات مرة تنبه النادل لهذه الحركة فسأله: سيدي لماذا تضع القطعة المعدنية أمامك كلما حضرت وتعيدها لجيبك كلما ذهبت؟ فأشار نيتشه إلى مجموعة من السادة الإنجليز وقال: قررت أن أعطيها لك في اليوم الذي يتحدثون فيه في غير المراهنات وسباق الخيل! هذا الطبع العجيب يكتشفه كل من عاشر الإنجليز وعاش بينهم، فتعلقهم بالخيل والمراهنات يصل إلى حد مرضي. لذلك كان من الطبيعي أن يفكر أحدهم في إصدار جريدة لسباق الخيول؟!
في ربيع عام ١٩٨٧ زارني صحفي بريطاني صديق، كنت قد تعرفت عليه في نقابة الصحفيين البريطانية NUJ التي كنت عضوًا فيها، جراهام روك كان مراسلا لسباق الخيول في جريدة The Observer وكان أيضًا خبيرًا في الرهان ومعلقًا على الحلبة في تلفزيون بي بي سي BBC، ووكيلًا للفارس مايكل روبرتس الجنوب إفريقي، وقد قاده إلى الحصول على أعلى لقب للفرسان البريطانيين في عام ١٩٩٢- أيضًا منافسًا في رالي لندن- بكين للسيارات، ولاحقًا مالكًا للخيل ومراسلًا لسباق المراقب.
خبرني عن حلمه في إصدار جريدة تهتم بالخيل وسباقاته ويبحث عن ممول، وقصدني طالبًا المعونة في مساعدته لإيجاد مساهم من أصحاب دور النشر العربية التي أتعامل معها، ووعدته أنني سأدفع برغبته للصديق بسام فريحة الناشر الصحفي والرئيس التنفيذي لدار الصياد، فهو أكثر تقربًا والتصاقًا بالأمراء العرب الراغبين في الاستثمار الإعلامي. لكن فريحة وسط مشغولياته وسفرياته الكثيرة قد نسي الأمر.
لم ألتق بعدها جراهام روك لأشهر طويلة، إلى أن فاجأني يومًا باتصال تليفوني يطلب المقابلة، فهو متواجد بمنطقة سكني بضاحية كرويدون جنوب لندن، وقد حضرها للمشاركة في احتفالية بمدرسته WHITGIFT ويتجيفت القريبة من منزلي، وقد قضى فيها عشر سنوات من تعليمه، بعدها حصل على درجة علمية في علم النفس وعلم الاجتماع من جامعة برادفورد.
بدأ روك مسيرته الصحفية في أوائل السبعينيات مع طاقم العمل في Timeform، حيث مكث لمدة ثلاث سنوات قبل أن ينتقل إلى Sporting Chronicle. كان مستقبل Sporting Life في ذلك الوقت غير مؤكد في سيطرة روبرت ماكسويل. ما زوده بالخلفية القوية اللازمة لتحليل الشكل بدقة. وما ألهمه أيضًا أن يشتغل في ملكية الخيول، فأصبح عضوًا في واحدة من العديد من النقابات التي يديرها السير مارك بريسكوت وتمتع بأبرز نجاحاته مع باسترناك، الذي فاز بكأس جون سميث ماجنت في يورك وكامبريدجشير التاريخي في نيوماركت، حيث حقق مقامرة ضخمة في المرتين.
دعوت روك لمنزلي ليزف لي خبر الحلم الذي سيتحقق، فقد التقى فارس العرب الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الإمارات وحاكم دبي، عاشق الخيل والفروسية، وهو أبرز شخصية مؤثرة في سباقات الخيل البريطانية، وأفضل مالك ومربِّ للخيول في بريطانيا وإيرلندا. وقد كرمته الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا.
تعرف به في أحد السباقات في مضمار مدينة "برايتون" الساحلية بإنجلترا عندما فازت "حتا" مهرة الأمير بانتصارات في عالم سباقات الخيل العالمية. نجح روك في إقناع الشيخ محمد الذي ترعرع على حب الخيل والفروسية بإصدار جريدة للخيل وفروسيته وسباقاته، على أن يتولى رئاسة تحريرها، بدعم من الشيخ محمد بقوة، والإسهام بأفكاره. واختير لها اسم "ريسنج بوست" لتكون Racing Post صحيفة يومية بحجم التابلويد بهدف منافسة صحيفة Sporting Life بعد توقف صدور مجلة Sporting Chronicle في عام ١٩٨٣، التي كانت الصحيفة الرياضية الرئيسية في المملكة المتحدة منذ عام ١٨٥٩. كانت Sporting Life مملوكة لشركة Mirror Group Newspapers.
زيارة رئيس تحرير الجريدة الجديدة لمنزلي كانت بغرض الاتفاق على طباعتها. تحدثنا واتفقنا على موعد في اليوم التالي لزيارة المطابع والتحدث في كل التفاصيل لوضع خطة العمل والبنود الإنتاجية، ما دعا فريق العمل بشركتي وهيئة تحرير الجريدة الجديدة للاجتماع يوميا، لتوظيف كل الإمكانيات لإصدار الجريدة في أفضل صورة، ما دعا لتفعيل المفصل الإداري ليأخذ دورا فعالا في تنظيم العمل وتدوير عجلة الإنتاج للإصدار الجديد.
بدأت اجتماعات مكثفة مع فريق عملي لوضع الهيكل التنظيمي والوظائف الإدارية وتوفير الموارد البشرية، لكي تواصل مؤسستي العمل بكفاءة عالية والارتقاء بالأداء لمواجهة إنتاج المشروع الجديد، والاستعداد للمسؤولية الجديدة، إلى جانب تعاقداتي الجارية مع الناشرين.
ووسط هذا الزخم الإنتاجي تفاجئك الأيام الحبلى بالأحداث بلا مقدمات بوليدها، وقد تعلمت التأقلم والتفاعل مع كل الأحداث بكل ألوانها، لكن هذا الحدث حمل نفحة من الخيال وغزل خبرًا لا يصدق وغير متوقع، فأصغيت لثرثرة الذات وعشت انفعالاتها وتقلباتها. فاجأني الحدث، فعشت لحظات الانتظار لترسم توقعات واحتمالات أخوض بين تلابيبها محمّلًا بشغفٍ ومزيد من حكايا النبض وأهازيج الخيال، وزاد إنتاج هرمون النورادرينالين في جسدي ليؤدي دوره المهم في الشعور بالانفعال والاستجابة للأحداث غير المتوقعة. فقد فاجأني مدير المبيعات في المؤسسة بيتر جاكسون وهو ممن لهم باع في صناعة النشر والطباعة وكان في مركز قيادي في مجموعة ميرور جروب قبل أن يلتحق بمودي برس، واجهني باتصال تليفوني جاءه من المجموعة التي كان يعمل بها ومن مديرة مكتب روبرت ماكسويل معلنًا رغبته في تحديد موعد للقائه.
أصابني الذهول والتَّعَجٌّبُ واستعظم أَمر ظاهر المزِيّة خافي السبب، وطأة البغتة كانت شديدة وساورتني مشاعر متناقضة، مزيج من الفرحة والخوف، ابتهاج وقلق. ففي الغربة رجل إعلامي بريطاني شهير صاحب إمبراطورية كبيرة للنشر يطلب مقابلتك ليس بالقليل.
... وتحدد موعد اللقاء.. وله حكاية!



