الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

معاهدة البقط

د. إبراهيم محمد مرجونة
د. إبراهيم محمد مرجونة

رغم انطلاق جيوش الفتح في كل الاتجاهات في عصر الخلفاء، من بعد عمر- رضي الله عنهم أجمعين- وفي عهد الدولة الأموية، إلا أن سرية "علقمة" كانت بمثابة أول وآخر سرية ترسل لأراضي الحبشة، لأسباب عديدة، أهمها صعوبة أرض الأحباش جغرافيًا. 

لكن بالمقابل وصلت جموع التجار المسلمين إلى مناطق الساحل، فاستوطنوها وسيطروا على جزيرة دهلك، ثم مصوع (من سواحل إريتريا حاليًا) وزيلع (ثغر في الصومال على ساحل خليج عدن)، واستمروا في التغلغل في البلاد والهيمنة على مقاليد التجارة والاقتصاد فيها.

 

 

وكان في طليعة هؤلاء المهاجرين أهل عمان وحضرموت، وتوالت الهجرات تباعًا من ساحل الجزيرة العربية، لا سيما الأحساء والبحرين واليمن إلى شرق إفريقيا بغرض العيش والاستقرار الدائم.

 

 

ويرجع إقبال المسلمين على سواحل شرق إفريقيا آنذاك لأسباب عديدة، منها الخوف من الفتن أو لأجل التجارة والارتزاق، أو هربًا من الاضطهاد السياسي الذي تنامى منذ استلام الدولة الأموية دفة الخلافة، وأيضًا بسبب الجفاف والبحث عن الأراضي الخصبة.

 

 

لكن تأثير هذه الهجرات لم يكن مجرد إقامة مجاميع سكانية على الساحل الشرقي للقرن الإفريقي، بل تطور إلى إقامة ممالك إسلامية وحضارة تمتد أنوارها لعمق القارة الإفريقية، ولا تزال آثارها شاهدة على سعي من سبق في تشييد البلاد، وازدهارها تحت راية الإسلام، وكان من بينها سلطنة أوفات الإسلامية.

 

 

سطع نجم سلطنة أوفات الإسلامية في أواخر القرن الثالث عشر ميلادي (669هـ/ 1270م-817هـ/ 1414م) وكان قد أسسها عرب قرشيون مهاجرون يرجع نسبهم إلى عقيل بن أبي طالب، ممن نزل من التجار القادمين من اليمن والحجاز، وسكنوا في ناحية تسمى جبرت من أراضي زيلع، وسموا بعد ذلك الجبرتية.

 

 

وجمعت هذه الجماعة صفات الحزم والحكمة وعلوم الهمة، فضلًا على أنها من أهل الشرف والسيادة مما مكنها من تأسيس دولة إسلامية جعلوا قاعدتها مدينة “أوفات”، وتعرف بـ”جبرت” وتقع غربي زيلع، ونظموا إدارتها وأحكموا أمرها، فدان لهم أهلها بالطاعة، وأخذ سلطانهم يقوى، ونفوذهم يمتد، وملكهم يتسع.

 

 

وسمح موقع هذه المملكة في جنوب الهضبة الحبشية من السيطرة على طرق القوافل، بين ميناء زيلع على الساحل وبين المناطق الداخلية، كما ساهم نشاط الحركة التجارية في تقوية علاقات السلطنة مع مصر واليمن، وغيرها من الدول المطلة على البحر الأحمر بشكل خاص.

 

 

وهذه السلطنة كانت أوسع ممالك الزيلع، حيث كانت تشمل ما يعرف الآن بجيبوتي، والجزء الجنوبي من إقليم إريتريا، وسهول الدناكل، وتمتد جنوبًا لتضم الجزء الشرقي من حوض نهر عواش، والهضبة الصومالية بما فيها منطقة هرر والأوجادين، وتمتد شرقًا لتشمل جزءًا كبيرًا مما يعرف الآن بالصومال الشمالي، بما فيه من موانئ زيلع وبربرة.

 

 

سيطرت مملكة أوفات بفضل موقعها الاستراتيجي على مدخل البحر الأحمر من الجنوب الغربي، وقابلت بلاد اليمن، وأصبحت حلقة وصل بين الممالك الإسلامية على طول الساحل في شرق إفريقيا ودول العالم الإسلامي، وازدهرت في زمانها الزراعة والتجارة وتربية المواشي، واشتهرت برخص الأسعار، ولا شك أن هذا الصعود رافقه اهتمام بقوتها العسكرية ومكونات جيشها، واقتصاد قوي.

 

 

ومما يجدر ذكره أن سلطان مملكة أوفات كان يجلس بنفسه لحل قضايا الرعية، رغم وجود القاضي، في محاكاة لما فعله الخلفاء الراشدون عند القضاء بين الناس بشكل مباشر، لا سيما في القضايا التي لا تدخل ضمن صلاحيات القاضي.

 

 

حين فتحَ الجيش الإسلامي بلاد الشام (633م- 640م)، وصولًا إلى فتح بيت المقدس وتحريره من يد الروم؛ اقترحَ الصحابي الجليل عمرو بن العاص على الخليفة عمر بن الخطاب فتح مصر، بعدما باتَت ملاذًا للروم الفارّين من الشام، ومن جانب آخر لتأمين تلك الفتوحات وحماية ظهر المسلمين من أي هجمات غادرة من جيوش الروم، التي تلقّت هزيمة نكراء على أيدي المسلمين.

 

  وكانت إفريقيا تتميز في ذلك الوقت بالصحارى الشاسعة الممتدّة التي يصعب السيطرة عليها، ومن ثم فإن دخول أي جيش إليها ربما يعرّضه للتيه وكتابة شهادة وفاته رسميًّا تحت رمال القارّة القاحلة، وعليه كان التردُّد في إرسال جيش المسلمين خشية التعرض لمصير العديد من الجيوش الأخرى التي لقت حتفها هناك.

 

 

وبعد مداولات ومباحثات واستشارة أهل العقد والحل من علماء المسلمين وخيارهم، وافقَ الفاروق عمر على مقترح ابن العاص بفتح مصر لتأمين الفتوحات الإسلامية، لتبدأ واحدة من أعظم فتوحات الإسلام في العالم، حين تحولت مصر بشعبها وتاريخها وحضارتها إلى أمة إسلامية، متحرِّرة من الاستعمار البيزنطي والروماني، وكان ذلك عام 640م.

 

 

منذ أن وطأ الجيش الإسلامي الفاتح تراب مصر، وضع عينه على حدودها الجنوبية تحديدًا، كونها البوابة الأكثر خطورة على المصريين من قبل جيوش الأمم الأخرى، ومن ثم ومع الأشهر الأولى للفتح كان التحرُّك صوب تلك المنطقة التي يُطلَق عليها "أرض النوابة".

 

  وبلاد النوبة تنقسم إلى مملكتين، المملكة الشمالية وهي مملكة المقرة، والمملكة الجنوبية هي مملكة علوة، وبالرغم من تعدد الطوائف والأديان داخل المملكتين، إلا أن المسيحية كانت الدين الرسمي لهما، وعندما فتح المسلمون مصر، في العام الحادي والعشرين للهجرة اتخذت مملكة المقرة موقفًا عدائيًا تجاه المسلمين، واتحدت مع البيزنطيين، وأخذت تغير على الجهة الجنوبية لمصر، وحيث أنها المفتاح الجنوبي لمصر فقد شكلت خطرًا داهمًا على المسلمين في ذلك الوقت، ما دفع الخليفة “عمر بن الخطاب” رحمه الله إلى التفكير في شأن الحدود الجنوبية لمصر، فكان أن كلف والي مصر في ذلك الوقت عمرو بن العاص بحل هذه المشكلة، وتأمين حدود مصر الجنوبية. 

 

 

توفي عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتولى عثمان بن عفان الخلافة، وبعد ذلك تولى الصحابي الجليل عبد الله بن أبي السرح ولاية مصر، وبما أن النوبة تمثل تهديدًا على الدين الجديد في مصر، فقد لفتت أنظار الوالي الجديد، وبدأ في التفكير في كيفية درء الخطر النوبي عن مصر، وقد كان، فأرسل عددًا من السرايا، وفي إحدى الحملات التي خرج على رأسها حاصر العاصمة دنقلة حصارًا شديدًا، أدى إلى استسلام أهل النوبة، فخرج حاكمها قليدروس يطلب الصلح مع المسلمين، فكانت معاهدة البقط الشهيرة.

 

 

ما هي معاهدة البقط؟

هي المعاهدة التي تم عقدها بين المسلمين بقيادة عبد الله بن أبي السرح وحاكم النوبة قليدروس، وتعد من أطول المعاهدات في التاريخ حيث استمرت قرابة 700 عام، وقد أدت هذه المعاهدة إلى عقد هدنة بين والي مصر عبد الله بن أبي السرح وحاكم النوبة، وفيما يلي أهم بنود هذه المعاهدة.

 

بنود معاهدة البقط :

 

1- تعهد عبد الله بن أبي السرح لأهل النوبة بالأمن والأمان، وألا يشن المسلمون عليهم حروبًا ما دامت هذه المعاهدة قائمة.

2- أن يقوم أهل النوبة برد المسلمين المارقين من أهل مصر الذين يدخلون أرض النوبة.

3-  أن يتعهد أهل النوبة بالحفاظ على مسجد يتم بناؤه للمسلمين من أهل مصر الذين يمرون بالنوبة في فناء دنقلة.

4- أن يؤدي أهل النوبة لحكام مصر 360 عبدًا من أوسط الرقيق، وقد كانت النوبة معروفة برقيقها في ذلك الوقت، وقد ذكر بعض المؤرخين أن النوبة كانت تؤدي غلالًا مثل العدس والقمح بدلًا من الرقيق.

 

 

النتائج المترتبة على معاهدة البقط: 

 

لم تعد النوبة تشكل خطرًا على مصر أو المسلمين بها، حيث استمرت هذه المعاهدة لفترة طويلة بين الجانبين، أما بالنسبة للجانب المصري فقد أكدت هذه المعاهدة الدهاء السياسي الذي تمتع به عبد الله بن أبي السرح، حينما أكد على رد الخارجين من مصر، وذلك لمنع ظهور كتل وتحالفات ضد الإسلام في مصر عند هذه النقطة الحرجة من الحدود المصرية.

 

 

وعلى صعيد آخر فقد ساهمت بنود هذه المعاهدة في انتشار الإسلام في بلاد النوبة دون إراقة للدماء، إذ ساعد المسجد الذي تم بناؤه بها على نشر الدين الإسلامي بالسلم وبالحكمة والموعظة الحسنة، ما يكذب جميع الادعاءات التي تقول بأن الإسلام انتشر بحد السيف، وأن أكبر دليل على ذلك هو دخول العديد من أهل النوبة مع مرور الوقت في الدين الإسلامي لما لمسوه من نقاء وأمان وسلام في الدين الجديد.

 

 

وفي الأخير فإن "معاهدة البقط" تعدّ واحدة من أكثر الأدلة الدامغة على انتشار الإسلام بالدبلوماسية والدعوة الحسنة، بعيدًا عن أي تأويلات عنصرية.

 

 

أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية – كلية الآداب جامعة دمنهور  

تم نسخ الرابط