السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

د. أميرة جميل الطلياوي تكتب : المعاش.. معلم على الطريق

د. أميرة جميل الطلياوي
د. أميرة جميل الطلياوي

مرت سنوات العمل الطويلة كالبرق حتى وإن كانت ثقيلة في بعض الأحيان، خلقت معها روتين يومي من الاستيقاظ المبكر والهرولة في الطريق و ملازمة الزملاء وشركاء العمل والإنتاج الذي يعطي للحياة معنى ثم العودة للمنزل لممارسة روتين آخر ينتهي بالنوم في انتظار يوم جديد, وهكذا تتكرر الايام في ما عدا إجازات سنوية هي أيضا معروفة الميعاد ….ولكن لكل شيء نهاية وها قد أوشك كل ذلك على الانتهاء

 

تتضارب المشاعر بين ترحاب من ينتظر ذلك اليوم للخلاص من أعباء العمل والتمتع بالحرية من ذلك الروتين وربما التفرغ لأمر مثل ممارسة هواية أو التفرغ للعائلة والأحفاد وبين هيبهً من يخشي فراغ العقل والروح والوقت ثم إن هناك السؤال الذي يسأله المؤرق سواء مرحب أم متهيب وهو هل يكفيني المعاش ؟ وماذا لو مرضت؟

 

لا شك أن المعاش هو أحد معالم الحياة الرئيسية التي لها وقع كبير على حياة الإنسان, فبعد عمر مديد قضى في العمل المثمر والانتظام الذي يصحبه عادات معينة تتكرر بشكل يومي، يأتي المعاش ليحدث اضطرابا شديدا بعد انتظام في سن أصبح التكيف أكثر صعوبة وغالبا ما تصحبه صعوبات أخرى أهمها المسألة المادية وكيفية الإنفاق

 

والمعاش بمعناه الأوسع يشمل أيضا ربات البيوت اللاتي يجدن أنفسهن قد فرغن من رسالتهن وروتينهن اليومي بعد استقلال الأبناء وخروجهم من عش الأم، فتجد نفسها في "عش فارغ" وهو بالمناسبة تعبير علمي لتلك الحالة، وسواءً كان معاش أو عش فارغ فهناك أمر واحد لزم التنويه له : وهي انه يجب الاستعداد لذلك اليوم

 

ها قد أتى اليوم الموعود، لم يرن المنبه كالمعتاد، يمكنني أن أغط في النوم كما حلمت يوما ما ولكن النوم لم يعد كما كان، أمرُ عجيب كيف أن النوم الذي ظل يطاردنا أصبحنا نحن من نطارده دون جدوى.. لا بأس ربما قيلولةً في منتصف النهار ، لا حاجة لتبديل الملابس فيمكنني البقاء بملابس النوم طوال اليوم وربما إصلاح ذلك الحوض الذي أخذوا يلحون عليّ في إصلاحه أو ربما زيارة الأهل أو الأصدقاء الذين انقطعت عنهم طويلا

 

تمر أيام ما نسميه في علم النفس "بشهر العسل" سريعاً وربما امتدت لأسابيع أو حتى أشهر ولكنها حتما تنتهي لتحل محلها مرحلة "الاستياء" فلا يمكن ابداً الاستهانة بأثر التوقف المفاجئ للروتين اليومي أو غياب الغرض أو المعنى الذي كان يضفيه العمل على الحياة والانتماء لمؤسسة أو حرفة ما والصحبة التي ترافقها

 

في الحقيقة إن مرحلة الاستياء ليست حتميه فهي مع الإعداد الجيد لمرحلة المعاش يمكن التغلب عليها سريعا أو حتى اجتيازها بالكامل فالمعاش كالعمل وكالزواج ،هو أمر يحتاج إلى إعداد إذا أردنا أن نمر به بأقل التكلفة على النفس والمحيطين، لتأتي مرحلة "إعادة التوجه" ثم "الاستقرار والتعود" سريعا و تزول المخاطر المحدقة من عزلة ووحدة وخمول قد يأدون إلى اكتئاب أو مشاكل بالحركة أو ضمور معرفي لا سمح الله

 

يبدأ الإعداد للمعاش من قبلها بشهور وربما أعوام ونبدأ ذلك بإدراك أننا قيمتنا لا تنبع فقط من أعمالنا وما ننتجه، ولكنها تنبع من ذواتنا وأننا جزء من عائلة ومجتمع صغير وكبير يمكننا أن نلعب بهم أدواراً قد حان وقتها وأن نستمر في الإثمار بالرغم من انقطاع العمل، ثم إن علينا أن نضع روتيناً جديدًا لاستبداله بالروتين القديم، روتينا يشمل وقتاً للاستيقاظ واستبدال ملابس النوم ومغادرة غرفة النوم إن أمكن وأن يشمل ذلك الروتين بعض التمارين الرياضية وبعض تمارين التمدد والتي تساعد الأوتار والأربطة والمفاصل على الحفاظ على ليونتها، كما أنه حان الوقت الاستعداد بتغذية أكثر ملاءمة للأوضاع الجديدة فالمفيد فقط من الأطعمة هي ما يجب استهلاكها بما يتناسب مع تراجع النشاط اليومي

 

نحتاج لعمل قائمة بالهوايات التي بإمكاننا ممارستها والأشياء التي كنا نتمنى بعض الوقت كي نتعلمها والأشياء التي أرجأناها لوقت لم يأت إلى الآن

 

ولا ننسى أمرين : أولهما هو الاستثمار في العلاقات الاجتماعية من أصدقاء وأقارب وجيران ففيهما النجاة من عزله لايحمد عقباها والأمر الثاني هو البقاء على التواصل مع التكنولوجيا ومواكبة ما يحدث فيها من تغيرات وهو أمر شاق ولكنه ضروري للبقاء داخل دائرة الحياة والانتفاع بالثروات التي تتيحها التكنولوجيا

 

كل ما سبق من أمور هي أمور قد تبدو بديهية ويسيره ولكن وأهم من يتصور أن بناء العادات الجديدة هو بالأمر الهين ولكنها أمور تحتاج إلى تخطيط وحزم مع النفس والكثير من الوقت الذي أصبح متوفراً أخيرا 

 

هكذا يمكن لخريف العمر أن يعود ربيعا من جديد ويمكن للنهاية أن تصبح بداية جديدة.

 

 

   د. أميرة جميل الطلياوي - استشاري طب المسنين وعلوم الأعمار

 

 

تم نسخ الرابط