الثلاثاء 23 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

في زحمة العمل ومع ارتباطي الجديد كنت أشعر بالفخر وأنا أردد لكل المحيطين "أنا مشغول"، وكأنه وسام شرف على صدري، لكن الكثيرين يأخذون انطباعًا يقوض حياتي المهنية وعلاقاتي بمن حولي. 

انشغلت عن شركتي وأعمالي وتعاقداتي، انشغلت شهورًا بالمشروع الجديد والتوسع الوهمي، في وقت كانت جريدة Racing Post تستعد للانطلاق. 

 

افتقدني صديقي جراهام روك، رئيس تحريرها، وشعر بفقدان الأمان لعدم تواجدي في وقت كان في أشد الحاجة لي لأقف إلى جانبه. لم يرقْ له الصمت الذي بيننا، وأخذ روك قراره بالتعاقد مع مطبعة أخرى خارج لندن، ومعها واجهت محنة الأزمة الإدارية بسبب التوتر والحيرة داخل المؤسسة. وقد أثّر ذلك على أداء العاملين وكيان المؤسسة الاستراتيجي.  حاربت وسواس النفس وشيطان الفكر في أن أربط انسحاب جريدة الخيل من ملعبي بالمشروع الجديد.. ولم لا؟ فماكسويل يخاف المنافسة، ومن استحواذ الجريدة الجديدة القادمة The Racing Post على قراء جريدته Sporting Life الوحيدة في الأسواق التي تهتم بالرياضة وتخصص قسمًا لسباق الخيول (وهذا ما حدث فعلًا فقد استحوذت راسينج بوست على ٩٥% في الأسبوع الأول من صدورها كجريدة متخصصة في سباقات الخيل). وتساءلت: هل العرض بالشراكة سلوك سام من روبرت ماكسويل؟ وانسحابه المفاجئ مراوغة، ومحاولة احتوائي دناءة من واحد من الأفاعي البشرية المحيطين بنا، ليحقق هدفه وغايته بإبعاد الجريدة المنافسة من الطباعة بقلب لندن؟! وقررت عدم التسرع والقفز لاستنتاجات ربما تكون خاطئة.  

 

كان من المهم معرفة سبب الاختفاء المفاجئ لفريق عمل روبرت ماكسويل ومعاونيه وانقطاع التواصل، وكأن شيئًا لم يكن. تذكرت أحد مفردات الشك في الحارة المصرية "الفار بيلعب في عبي". فعلًا بدأ الفأر يلعب في عبي، وكان من الصعب التكهن بما حدث أو التوقع بدون أدلة. وأنا لا أدّعي علم الغيب، فالغيب لا يعلمه إلا الله. لم يكن أمامي إلا أن أستدعي مدير مبيعاتي بيتر جاكسون الذي سبق وعمل مع ماكسويل، وهو الرجل الذي تم الاتصال به لتحديد موعد اللقاء الشهير بيني وبين "Tycoon" الصحافة البريطانية، محاولًا أن أجد لديه أي معلومات حول الاختفاء المفاجئ بعد اتفاق الشراكة على الورق. لم يكن لديه أي معلومات، واستأذن بالسماح له بزيارة أصدقاء له بمقر الميرور جروب لعله يجد الإجابة، ومعرفة ما يدور في الكواليس، فالاتصال التليفوني لن يفيد في تفسير ماهية هذا الانسحاب، واكتشاف سبب الاختفاء، واستشعار نبض الحدث المفاجئ. لم يستطع جاكسون معرفة الإجابات والمعلومات الدقيقة لتساؤلاتي. فقد عاد بانطباع أن المجموعة في وضع متأزم وتواجه صعوبات مالية. 

 

المعلومة والانطباع الذي عاد به بيتر جاكسون لم يحمل إجابة شافية ومقنعة، وزادتني الحيرة وتنازعتني الهواجس، ورحت أتبع ظنوني بأن الأمر مناورة لإبعادي عن التعاقد مع مشروع آل مكتوم وجريدته Racing Post، فهل من المعقول أن يعاني روبرت ماكسويل من ضائقة مالية؟ وقد وصلت ثروته إلى أكثر من ٧ مليارات دولار وقد جمعها في وقت قصير.. وهو يعيش حياة الملوك (قصر ويخت وطائرة خاصة).

 

 

الرجل الذي دخل شارع فليت الشهير بلندن "شارع الصحافة" وأحدث تطورًا في مسيرة مهنية مضطربة تغطي كلًا من السياسة والأعمال، وعمل كعضو عمالي في البرلمان إلى أن وجه حزبه اللوم إليه لتدخله كثيرًا في شؤون الحزب المحلية. إنه اشتراكي معلن، لكنه أحد أغنى الرجال في بريطانيا. ابن فلاح تشيكوسلوفاكي، خرج من الفقر المدقع في مستوطنة يهودية في تشيكوسلوفاكيا، حيث قُتل معظم أفراد عائلته في المحرقة، ليصبح بطل حرب في الجيش البريطاني، ثم قطبًا للنشر الأكاديمي. جاء إلى إنجلترا خلال الحرب العالمية الثانية واستمر في بناء إمبراطورية نشر من لا شيء تقريبًا. أدرك السيد ماكسويل، الذي تعلم اللغة الإنجليزية في ستة أسابيع، ويتقن ثماني لغات أخرى، أن هناك حاجة ما بعد الحرب لنشر المعلومات العلمية. وفي البداية عام ١٩٥١، حصل على دار نشر صغيرة، وهو الرجل الذي لم يضعف طموحه التجاري أبدًا. في أواخر الثمانينيات والتسعينيات، قام بشراء MacMillan للنشر مقابل ٢.٦ مليار دولار.  عندما تعرفت والتقيت روبرت ماكسويل مالك ورئيس مجموعة الميرور، كان يرأس أيضًا مجلس إدارة Pergamon Press، وهي دار نشر علمية رائدة وأكبر قاعدة بيانات علمية محوسبة في أوروبا. وهو المساهم الأكبر فيها. وقتها أعلنت شركة Pergamon عن أرباح قبل الضرائب بلغت ٤٣ مليون دولار من مبيعات بلغت ٤٤٨ مليون دولار. وتوسعت بيرجامون مرة أخرى عندما استحوذت على حصة مسيطرة من شركة طباعة شبه مفلسة، ومنذ ذلك الحين أعيدت تسميتها شركة الطباعة والاتصالات البريطانية، التي تحولت إلى مشروع مربح بعد العديد من المواجهات العمالية المريرة. وقد حققت شركة British Printing أرباحًا قبل الضرائب بلغت ٢٨ مليون دولار من مبيعات ٣٠٠ مليون دولار.

 

 

كان لا بد من حسم الأمر في قضية الاختفاء المفاجئ لروبرت ماكسويل ورجاله وتوقف التواصل، وفتح الأبواب المغلقة لمشروع شراكة لم يتم، واللجوء للأبواب الخلفية، وكسر خصوصية إخفاء السبب الحقيقي للتغييرات التي طرأت وأضرت بشركتي ومصالحي، لمعرفة أين أقف بعد أن خسرت تعاقدات مستقبلية، وجهد استمر أشهر في الدراسة والبحث. اتصلت مرات عديدة بسكرتيرة روبرت ماكسويل وكاتمة أسراره جين بادِيليِّ، وأمام إلحاحي استجابت لدعوتي للقاء في مقهى وبار إل فينو El Vino الذي اكتسب شعبية بين الصحفيين والمحامين منذ انتقل للمبنى رقم ٤٧ فليت ستريت شارع الصحافة القريب من مقر مجموعة "الميرور". وكنت مستعدًا لمواجهة مهارة وفنون إخفاء الإسرار، والمخاتلة والمكر والمراوغة والمناورة للحصول على المعلومة. أدهشني عندما التقيت بها أن الأمر كان أسهل مما ظننت، فقد شقت "جين" صدرها وفتحت قلبها، متعاطفة معي لتؤكد لي ظنوني. وجاء ردها حاسمًا "الأستاذ ضايقه صدور جريدة منافسة لجريدته الرياضية Sporting Life، فأراد تعطيل إصدارها من مطابعك الوحيدة في قلب لندن، رغم أنه كان حقًا صادقًا في رغبته في إبقاء مطبوعاته في الصدور من لندن، لكنه يواجه ضغوطا مالية ستعرف عنها لاحقًا". 

 

انكشف المستور، وإذا عُرف السبب بطَل العجب. وقررت طي هذه الصفحة من حياتي التي خدعني فيها واحد من أشهر وأنجح رجال الصحافة في بريطانيا. 

 

 

في كتاب "السقوط" لجون بريستون، يروي قصة روبرت ماكسويل، ويصفه بالمحتال الوحشي والغامض والمتسلّط والنرجسي ذي الشهية العملاقة، والذي كان في ذروته أحد أكثر رجال الأعمال شهرة في العالم.. وسنأتي إليه لاحقًا.

 

 

تم نسخ الرابط