"قراءة في المجموعة القصصية".. "دوائر من حرير" للسيد نجم
في مجموعته القصصية الجديدة يأخذنا السيد نجم إلى عوالم الحلم والأسطورة، حيث يحقق المرء ذاته بل يأمل في تغيير العالم.
«دوائر من حرير» هي المجموعة القصصية الرابعة للكاتب، وكان قد أصدر من قبل عدة مجموعات قصصية هي «السفر»، و«أوراق مقاتل قدیم»، و«المصيدة »، كما أصدر عدة روايات، وبعض الدراسات الأدبية.
في دوائره الحريرية نمضى مع الكاتب في رحاب الولد، ورحاب الجد، ورحاب رائحة البارود، ورحاب الفضاء الرقمي، والمسرح، والحيوان، ثم نتأمل معه دائرة الغربة والانزواء حيث يختتم الكاتب مجموعته القصصية بنص أخير هو «ماذا يقول الطالع؟».
اللافت في هذه المجموعة الرموز الفنية التي شكلت مصابيح الرؤية وبها نهتدى في قراءة بلاغتة السردية فمع قصصه خاصة "في رحاب الولد" و" في رحاب الجد " نستمع إلى حكايا التشكل والنمو والتطور في حياة الصبي الذي يتردد صدى أحلامه في أكثر من قصة في المجموعة.
• تحقيق الذات
يتردد صدى أغنيات الطفولة العذبة بين السطور، ربما لا ترد بنص كلماتها لكنها تنبض بالحياة بين سطوره، أكاد أسمع صبى قصصه يغنى : "يا طالع الشجرة هات لى معاك بقرة تحلب وتسقيني بالمعلقة الصينى"، لتتحول هذه الأغنية المُضمرة إلى قصة حقيقية فى حياة الصبى ليتحول الخيال إلى واقع ساحر ومقتدر يحقق الصبى من خلاله أحلامه فى أن يكون كيانا مؤثرا في حياة من حوله، وخاصة في حياة أمه بعد وفاة أبيه، فكيف حقق الصبى أحلامه ليصبح هو طالع الشجرة، الصاعد إلى سماء الحلم، والمنتشى بتحقق معجزة الخيال؟
يستمع لشكاية الأم لجارتها " أنا فى حاجة إلى بهيمة بدلا من تلك التي ماتت حين غفلة، ماذا أفعل ؟ "
"ولأن الجارة لا تملك ما لا ولا بهيمة اكتفت بالبكاء معها، ولم تلتفتا إلى الولد القابع تحت أرجلهما مشرئب الرأس مُعلق الأذنين " (1 )
هذا الصبى الذي يصفه السارد فيقول: [لأنه كان لا يزال صغيرا كانوا لا يعبأون بوجوده، وربما يطردونه من مجالسهم، ففى مجلس الرجال ليس له الحق في المشاركة بالتعليق على ما يسمع، وفى مجلس النسوة ليس من حقه الاستماع إلى كل ما يتفوهن به، وإلا لماذا يعمدن إلى الهمس والغمز واللمز؟
وحده وجد تفسيرا أقنع به رأسه لأنه فقد أباه ولم ينجح فى رعاية أمه(2 ) ومن هذا التفسير الذي استشعر فيه الصبى عدم قدرته على رعاية أمه بعد وفاة أبيه تشكل الحلم، حلم القدرة على تغيير واقع الذات المؤلم لتحقيق الذات، وتلبية حاجات الآخرين وخاصة الأم رمز الحنو والعطاء، وهنا يحقق الخيال ما يعجز عنه الواقع ليصبح الدافع الأكثر إيجابية في تغيير حياة الصبى ومن حوله ( ظل الولد معلقا بظلها وهما فوق الطريق حيث لا يعرف وهو قابع فوقق عتبة الدار، تركاه وحيدا، كلماتها في أذنيه باقية ترن كرجع الصدى حتى سمع من يأمره أن يكف عن البكاء وأن يتأمل أصابع يديه ]( 3) .
• رموز القدرة
تأمل أصابع اليدين هو الفعل الذي غيـﱢر حياة الصبى فى هذه القصة وغيرها من القصص، إنها الرمز الذي يتجلى في قصص هذه المجموعة بصور مختلفة تتجلى فيها القدرة الإنسانية على الحركة والفعل، والتغيير، وانتقاء القصور والعجز وكأن أقدار الصبي تُغاليه وتخبئ له إمكانيات التغيير إذا أنصت لقدراته فبدا وكأنه لم يعد يشعر بالوحدة، و هو يصنع عجينة من طين كست الأرض من حوله .
• الانعتاق من دائرة البكاء
وهنا يتحقق في نفس الصبي الأمل في تغيير واقعه [كان في مثل تلك الجلسات من قبل يعبث فى الطين فرحا يصنع كرة أو حتى ثعبانا لكنه في هذه الجلسة صنع أربعة أرجل، وذيلا غير قصير، فى المقدمة شكل ما يشبه البهيمة، انشغل كثيرا حتى نسى ميعاد تناول الغداء، لم يكن يشعر بالجوع ]( 4)
• معجزة الخيال
والعجيب أن فعل تأمل أصابع اليدين قد أورث الصبى تأملات أكثر عمقا في معرفة الواقع والحياة، القعود بلاهمة عجز، وهذا هو ما اكتشفه الصبي ليتشكل فعله [ذهب ولم يعد إلا بعد منتصف الليل، هاله أن وجد بهيمته وقد كبرت، وكبر ضرعها حتى لامست الحلمات الأرض، وهو ما أدهشه، وأدهش أمه، لم تسأله من أين جاءت البهيمة وكيف ؟، سألته فقط هل البهيمة لنا؟] ( 5)
وهنا يأخذنا الكاتب إلى تصديق الخيال الذي وتحول إلى واقع، أسطورة تتنزل من عليائها، من شجرتها إلى التحقق على الأرض لدرجة أن الأم تسأل "هل البهيمة لنا "، التأمل والحلم هما صنعتا هذا الصبي الذي شكل عالمه الجديد، عالم القدرة والفعل [لم يرد وإن انطلقت بسمة سعيدة غامضة من صفحة وجهه، أسرعت الأم إلى الضرع، شربت وشرب معها حتى كسا الحليب الدافئ اللذيذ نحورهما، يحار من يراهما، يتسربل الحليب من أعلى إلى أسفل أم العكس](6 )
تَحوَّل الخيال إلى مشهد يقنع القارئ بل يكاد يراه رأى العين ما شمل الأم وطفلها من معجزة تدفق اللبن، وارتوائهما معا، ونقاوة أحلام الطفل، ونفسه الشفافة العارفة بأحلام الأم وحاجتها إلى غذو وریّ.
ولم يرد السارد أن يتركنا عند هذا القدر من التحقق وتطور الخيال إلى واقع بل يود أن يكمل أسطورة الطفل لتصبح حقيقة ماثلة متحققة دوما فإذا نفد لبن هذه الدابة الخيالية فليس بوسع الطفل إلا أن يكون هو مصدر الرىّ والشبع، فأراد أن يتحول هو إلى واحدة من الأنعام التي تحقق لأمه حلمها بالسقاية و الغذاء.
فيقول السارد [وبالرغم من أنه سمع الهاتف نفسه يأمره بأن يتأمل نفسه في مياه النهر، وقد تشكلت رأسه كرأس البهيمة، وأصبح من ذوات الأربع، ويملك ذيلا غير قصير عمد الولد الصغير إلى إحكام إغلاق جفونه الأربعة أكثر كثيرا عما قبل]( 7)
وهنا نلمح أسطورة النظر إلى الماء التي تحدث بالمفارقة والمُغايرة، فعندما أمعن "نرسيس" النظر إلى ماء البحيرة إعجابا بذاته وبصورة وجهه في أساطير اليونان أصبح رمزا لعشق الذات أما صبى القصة عندما تأمل وجهه في الماء فقد تحول كله إلى تلك الدابة القادرة على إشباع الجميع فى إدرارها اللبن الغزير، وتحقيق حلم الأم والصبي بالرىّ و الشبع.
إن دلالة إغلاق الطفل لجفونة الأربعة، وهو بالطبع لايملك سوى جفنين، هو رمز للاستمساك بالحلم، ومضاعفة الأجفان دلالة على التشبث بالحلم الذي لايريد الصبي أن يستفيق منه فقد أزال خيال الطفل الفاصل بين الواقع والخيال لتتحقق الذات الإنسانية وتتدفق خيرا وعطاء.
• دوائر للتأمل
ومن نصوص قصة " فى رحاب الولد " التي تتكون من عدة نصوص نجد أيضا ملامح أخرى من حياة الصبى تتجلى فيها اليد والقبضة والكف والأصابع والأنامل لتصبح رموزا سحرية للفعل الذي ينتقل من دوائر التأمل الحريرية إلى واقع محقق هو أيضا جدير بالتأمل فتسلمنا دائرته إلى دوائر أخرى موحية، ومتقنة النسج، حقا من حرير لكنها غاية في التماسك والقوة وحبكة النسج والسرد.
• حصان نافر يهم بالطيران
تتدفق أحلام الصبى فى نصوص السيد نجم فهو يتحول إلى مصدر للغذو والري ويتحول أيضا إلى حصان جامح يطير أو هذا ما يريده حقا أن يكون وهنا نتأمل رموز الكف والقبضة ودلالتهما فى المشاهد الدالة في هذه القصة وغيرها من قصص المجموعة تأمل فاتن لرموز القدرة الإنسانية على التحقق وإنفاذ الإرادة ومواجهة الحياة.
[أعطنى كفك قالها أبى عندما اقتربنا من محل لعب الأطفال عندما وجدنى مندفعا بعيدا عنه نحو محل لعب الأطفال، تعلقت باللعبة خلف زجاج الفاترينة، حصان نافر الرأس والأذنين وشعر الرقبة، كاد يهم بالطيران ]( 8)
• صراع الأكف والقدرات
يحاول الصبي الانعتاق من قبضة الآب وهى هنا رمز السطوة ليتحرر منها ويحاول اكتشاف العالم فيقول السارد : [ فجأة نزعت كفى من قبضة أبى، عاد، وانقض عليها، عدت ونجحت فى تحريرها، بكلا كفاىّ أشرت إلى اللعبة، ظن أبى أنه تحرر من مقاومة قبضة يدى، وإن بدا لى وكأنه يشفق علىّ، فيما بدأت أسعى لإقناعه بطريقتي، استخدمت أصابعى العشرة مشيرا إلى اللعبة لعلى أنجح[
وهنا تبدو بلاغة السارد في استخدام الأصابع العشرة للصبى بدلا من الإشارة بإصبع واحدة، دلالة على التشبث بالقدرة على تحقيق الرغبة فى امتلاك اللعبة، ولو بالإشارة إليها.
• الصراخ تحت الشمس
وتبلغ القصة ذروتها عندما يستخدم السارد عنصر المفارقة، وجعل حلم التحقق فى عالم الطفولة مرهونا بقدر الحرية وقدر الثقة التي يحصل عليه الطفل، فالأب يستخدم سلطته في الحد من حرية الطفل ومغامراته ولذا يستخدم السارد مفردة (قبضة أبى)، ويستخدم (الكف) للتعبير عن قدرة الطفل فيقول (فجأة نزعت كفى من قبضة أبى) لكنه عندما يتحدث عن قدرة الأم فهو يستخدم مفردتين (الكف) و (القبضة) ويراوح بينهما، وكأن قدرة الأم تكون حينا في رقة كف الصبى، وحينا تكون في شدة قبضة الآب فى مراوحة حسية يستشعرها القارئ عندما يقول الصبي : [ بلهفة لا أدرى لها سببا كنت أتعلق بكف أمى ] ويقول في موضع آخر [بفرح أسعى وأكافح من أجل أن أحرر كفى من قبضة أمي]
ويأتى السياق كاشفا عن علاقة الطفل بأمه ومدى شعوره بالتحقق والحرية في وجودها فهو في رعاية الكف الحاني، ومتحررا من قبضة الأم حين يريد:
[أمى كانت دوما صامتة، ونحن نهم بعبور الجسر، بحفاوة أدرى سببها، كنت أركل الصخرات الصغيرة، ولا أخطئ أهدافى، كانت أمى غير مكترثة، ونحن فوق الجسر بنشوة لا أخفى سببها كنت أهلل وأنا أضم كل الكائنات من حولي، ومن أمامي، بينما تبدو أمى شاردة بما لا يعنيني ] وأنا في نهاية الجسر لاأدري لماذا كانت أمي تنظر خلفها فور أن نجتاز الجسر، تقول كم كان الجسر طويلا.
بفرح أسعى وأكافح من أجل أن أحرر كفى من قبضة أمى، تظل ترمقنى وأنا وحدى أعدو وأصرخ تحت الشمس، وبسرعة تنشغل عنى، كانت شواهد المقابر تشغلها]( 9)
• يحصى رمال البحر
وفي قصة "في رحاب الولد " أيضا تتجلى محاولات الصبي وتجريبه لقدراته ليحقق ذاته وما شيده من أحلام، وهنا تتبدى حلقة جديدة أو دائرة حريرية أخرى تربط الصبي بأمه، بحكمتها وصمتها البليغ، بل وبكائها المحتشد بالمعنى والعمق في فهم طبيعة الحياة، وصروفها، وقدرات الإنسان وهى يُصـﱢرف أمورها، فالطفل في هذا النص يحاول أن يحصى رمال البحر، ويشيد أهراماته خائفا من بطش الموج واقتداره على مغالبة ما شيَّده و ابتناه، ويصف الكاتب محاولات الصبى على لسان السارد الذي يستعيد مشاهد من طفولته: [صغير، جلست فوق رمال البحر أحصيها، خلت نفسى نجحت وإلا لماذا قررت أن أمتلكها فصنعت منها هرما بدا فى أول النهار صغيرا](10 )ويعدد الطفل محاولاته لمغالبته الموج والحفاظ على ما ابتنى من أهرامات رملية فيقول : [ ما مصير هذا الهرم ؟]، وفي مقطع آخر يقول [ نجحت لم تطل بسمتى، بدا لى أن موج البحر أعلى، قد يتسلق السور فيملأ الحفرة ويبلغ هرمی](11 )
وكان الطفل قد شيَّد سورا عاليا بعد أن حفر خندقا حول هرمه، وجاء الموج وانقض على ما شَيَّد حوله هرمه، وجاء الموج وانقض على ما شيَّد فبكى الطفل، وعندما عاد لأمه، وعرفت سبب بكائه كادت تبكى، وفي نقلة زمنية بارعة ينقلنا الكاتب من زمن الصبى طفلا إلى زمنه كبيرا بل والدا وأبا بل وجَدًا، كاشفا عن حكمة الأم وبلاغتها ومعرفتها بحقيقة مصير هذا الهرم الرملي الذي يغلبة الموج دائما، لكنه يؤكد قدرة الإنسان ومحاولاته التي لا يغلبها اليأس ولا يدركها القنوط لذا صمتت الأم وبكت لكنها لم تفصح أبدا عن سر بكائها، وربما تركت الصبى ليكتشف بنفسه أمور الحياة والفروق بين الخيال والواقع، وتركته لتجربة الحياة، وأمواجها ومحاولات مغالبتها فيقول السارد في نقلته الزمنية السردية [لسنوات طويلة كنت أسأل رأسى عند سيب بكاء أمي، فلما عرفت وجاءتني الإجابة، كان أحفادى الصغار يصنعون هرما من رمال الشاطئ](12)
• الباحث عن الحرية
وتأتي سطوة الجد أيضا على الصبي متمثلة في قبضته وكفه وأصابعه حيث تشكل جميعا معاناة الصبى الباحث عن الحرية واكتشاف العالم ثم يكتشف الصبى أن هذه الكف - القبضة قد لا تصبح لها أى سطوة أو نفوذ عندما تظهر قبضة أخرى أكثر نفوذا وقوة ويتبدى ذلك في بعض قصص المجموعة مثل قصة "الجد ما عاد زعيما"، وقصة "لا تخرج من الحارة"، وقصة "غدا مظاهرة"، فكيف فقد الجد سطوة يديه ؟، يقول السارد شارحا في مشهد دال [أناس كثيرة من حوله، جميعهم يقبلون يد الرجل الأكثر بياضا من يدىّ جدى، أكثر ما انتبهت له، كان جدى، وجدته يُحني ظهره، يلوى رقبته، وذقنه وكل رأسه إلى أسفل) جدى مثلهم إنه مثلهم إذن، جدى لم يعد زعيما فتذكرت يقينا أنه مشغول في زعيم آخر، وقد هانت قبضته عن رقبتی، وانفرجت أصابع كفه، إنه ترك قفاى وغاب عنى ]( 13)
لقد اكتشف الصبى يدا أكثر قدرة ونفوذا فالجد أحد مريدى الشيخ، ويده أكثر بياضا من يد الجد الذي لم يعد زعيما كما رآه الطفل في أسرته، وهنا تزول سطوة كف الجد ونفوذها ويرصد السارد على لسان الطفل ذلك فيقول : [ ثم عدوت ألهو مع الأطفال تحت لفحة الشمس فوق رؤوسنا، لا أتذكر، متى وكيف عثر جدى علىّ؟، ثم أعادني عنوة إلى منزلنا، لكننى ماعدت أحوﱢم حوله في الأسواق، ولا حول مجلسه، يأمرهم بشرب القرفة شتاء والينسون صيفا مع نصائحه وأوامره الهامسة أحيانا (14 )
• من حَلْق الباب
وفي قصة "لا تخرج من الحارة" من نصوص دائرة "في رحاب الغربة والانزواء"، يحاول الصبي الانفلات من قبضة الأبوين إلى عالم الخيال و دوائر التحرر محاولا أن يخرج من حيزه الضيقة إلى العالم فيسأل أمه أن يشترى لهاء شيئا من البقال، شيئا مثل عبوة الشاى الذي يحبه أبوه، أو شراء الكيروسين لتشعل به وابور الجاز لينعتق من حيز الحجرة الضيقة التي يعيش فيها الصبى مع والديه، كان يريد أن يحقق نجاحاته الصغيرة المتمثلة في تجاوز عتبة الباب، كان حَلْق الباب هدفا عزيزا فهو يخضع لأوامر والديه "لا تخرج من الحارة " بل لا تخرج من حَلْق الباب ويصف الطفل محاولاته للخروج التي تنتهى بالشجار مع أطفال الحارة أو إصابته بجرح ينتهى بأن تلقمه أمه بمطحون البُن ثم تمسحه بخلطة التوابل التي تلهبه. أما في قصة "غدا مظاهرة" فالصبى بطل القصة يصف مشاركة وأسرته في مظاهرة في القاهرة يسافرون إليها وقد تقاضى الأب ثمانين جنيها و كان في حاجة إليها لإطعام أسرته، وهنا يشير السارد إلى قبضة أكثر قسوة وهى قبضة الفقر الذي يأخذ بتلابيب هذه الأسرة التي تخرج عنوة في مظاهرة، وتتوالى اكتشافات الصبي، عن ذراعىّ الأم الحانيتين وقبضة الأب، وسطوة "صابع الكفتة"، وحقيقة تلفت الأب إلى الخلف، والخوف الذي يحني ظهر الأب وأسرته، فيقول السارد على لسان بطل القصة الصبى: [فجأة قفزت قفزا من فوق المقعد ألقيت بنفسى على فخذيّ أخى النائم فوق فخذى أمى، فهمتْ ما لم أنطق به، حوطتني وأخي بذراعيها، مالت نحو الفتحة بين المقعدين أمامها، وهمست (العيال واضح عليها الجوع یا سی "شديد" فلما أعادت ظهرها ثانية، وهَوَّنت قبضتها كانت قبضة أبى تسحبنى من قفاي، يعيدني إلى مقعدى، أعطانى شطيرة محشوة بصابع كفتة، وهو يقول : اعمل حسابك أنك ستأكل ما يخصك طول النهار وحتى نعود فهمت ؟، لم أتردد في أن أهزهز رأسى موافقا] ( 15)
• الكف الحامية
ويكتشف الطفل معنى جديد لكف أبيه وقبضته فيقول: [بعد أن تابعنا السير وسط الزحام، لم يتركنى أبى كي ألهو وألعب، ولا كنت أظن أنه يفعل ما كان يفعله في كل الشوارع، رأيته يقبض على كفى بكفه اليُمنى، وبكفه اليُسرى يزيح الناس من أمامى، والآن تأكدت أنني في مكان يكفيني وزيادة] ( 16)
• قبضة الخوف
ويكتشف الطفل قبضة أخرى تأخذ بخناق الجميع فهذه الأسرة مدفوعة بحكم الفقر والخوف إلى هذه المظاهرة التي ليس لهم فيها ناقة ولا جمل، هم لايدرون أسبابها فهي غامضة غريبة على عالمهم البسيط، الصبي يعتقد أنهم ربما يبحثون عنه لأنه أكل رغيف الكفتة كله، والأب يتلفت خلفه والأم تطمئنه بأنهم جميعا بخير وهو يمضون ورائه، ويصوﱢر الصبى ذلك في مشهد دال، تتوالى فيه اكتشافاته عن معنى الكف ومعنى القبضة ومعنى الأصابع، فيتحدث عن القدرة والنفوذ الباطش، وعن كف الحماية والحنان البالغ لوالديه فيقول: [كم كان وجه أبي غريبا، وكأنه ليس الذي أعرفه، وأراه عليه دوما، لم أكن يوما أراه حريصا على أن يمسك كفى، وبين الحين والحين يشد عليها في صمت، أتأوه فيتابع توجياته لأمى، ويرمى بنظرته الملهوفة نحو أخي المُعلق في كف أمي، أظن أنه يتأكد أننا ما زلنا أحياء، ولأول مرة ألمح فى أبى عادة لم أكن أراها فيه، أحلف بالمصحف الشريف أنه ما فعلها أبدا أمامى، رأيته ما بين خطوة وخطوة نخطوها وسط الزحام يدير وجهه إلى الخلف فلما كررها كثيرا فعلت مثله، ربما أفهم لم أفهم، فقط لمحت أمي في كل مرة تهزهز رأسها مبتسمة كأنها تقول له ( أنا وسلامة من خلفك اطمئن)]( 17)
• الكف المُحبة
ويعيد الصبي اكتشاف كف أبيه التي كانت يوما قبضة تقبض على كفه الصغيرة وفي مشهد عامر بالحركة حافل بالمعنى يصوﱢر الصبى محاولة الأب تأمين أسرته، ولا يغيب عن ذهن القارئ اسم أحد الطفلين "سلامة"، وكأن هذه الأسرة تبحث عن هدف واحد وهو سلامتها من كل خوف وهَم، والمسير نحو الشجرة، هل هي أيضا الشجرة الوارفة التي تُفيء الجميع، وتصنع الأساطير، وفيها رموز الريّ والشبع سواء من يصعد إليها "طالع الشجرة" أو من تظله بظلها فيقول الصبي واصفا الرحلة إليها، رحلة السلامة إلى حضن الطبيعة متمثلا فى أمان الشجرة وفيئها: [تابع خطواته وهو يجرنا جرا، أخيرا شعرنا بخروجنا من وسط الزحام، التقط أبى ظل شجرة كبيرة، وقف ووقفنا معه تحتها، في تلك اللحظة لم نكن نلهث وحدنا، كان يلهث مثلنا، ينظر نحونا نظرة لم ألمحها عليه من قبل، بدا لى وكأنه يخاف مثلى ومثل أخى "سلامة "، وشعرت لحظتها أنه يحبنى، لا أعرف لماذا شعرت أنه يحبني، يحبنا كلنا، هل لأننى رأيته قلقا عليّ، وعلى أمى و"سلامة "، أم لأنه كان يزيح الناس من أمامى ومن أمامهما، أم لأنه فعل بنا ما فعل، ووصلنا إلى هنا تحت الشجرة بعيدا عن ضجيج المظاهرة]( 18)
• مواجهة
وتأتى قصة "مواجهة" لتكمل هذه الدائرة من دوائر هذه المجموعة القصصية العديدة التي نسجها الكاتب من حرير لكنها تذهب بنا بعمق إلى عوالم أبطاله الداخلية الثرية، فكما واجهت هذه الأسرة بما فيها الصبي ووالديه وأخيه ما مر بهم من أحداث، وكما استطاع الصبي أن يتحرر أحيانا من قبضة نفوذ أبيه أو سطوة جده في قصص أخرى من قصص هذه المجموعة وكان ذلك تحرر من أجل مواجهة الحياة واكتشافها ومحاولة التعرف عليها، واكتساب معارفها وخبراتها أما في قصة "مواجهة" فتبدو المواجهة أكثر شجاعة لأنها شجاعة الإنسان في مواجهة الموت، فمن عناق عميق للحياة بكل تفاصيلها في هذه القصة إلى مواجهة جريئة لموت متربص وينقلنا الكاتب مع بطله "يوسف عرفة" العامل بأحد الفنادق والذي يلومه زملاؤه ورؤساؤه لأنه يخرج ويدخل من باب النزلاء فى الفندق الكبير وينتظر الجميع ما سيحدث له بعد ذلك ؟، ويرصد الكاتب ما تعرض له "يوسف عرفة" من مظاهر القهر في طفولته كما رصد ما تعرض له في عمله ذاك فيقول السارد: [ها هي ذى إحدى أذنيه الطويلتين طالتا لسبب غير مسؤول عنه، بسبب كثرة ما تعلقت به أنامل أبيه الرفيعة الطويلة الخشنة، يتعلق بها ولا يدري الصغير سر انفعال الأب وغضبته كلما شاهده يلهو ويلعب] (19 )
• يضحك ويبكى
ويرصد السارد تفاصيل الحياة التي اصطنعها بطله "يوسف" لنفسه فهو يمارس هوايات عديدة : جمع العملات الصغيرة التي كثيرا ما يتركها الخواجات عند رحيلهم، للعاملين بالغُرف في الفندق، وجمع الأزرار المتعددة الأشكال والألوان ويصف السارد ذلك فيقول : [عشق أن يرصها أمامه، ولم تكن تلك المزق التي يجمعها لصور بعضهم، لا يعرفهم لكنه يسعى دوما لأن يعيد جمعها ولصقها فتنبثق قصة من غير قاص يقصها لنفسه ليضحك وحده أو يبكى ] (20 )
ومع كل هذه البهجات يكتشف يوسف عندما ألقى بنظرة فاحصة لظله، فخيل إليه أنه یری شبح الموت وقد تجسد في بريق زجاج بوابة الفندق، وهنا تتبدى شجاعته في مواجهة غريبة لشبح الموت، بل ويُعـﱢرف بنفسه له مواجها خوفه منه الذي دأب على مواجهته طوال خمسين عاما فيقول البطل في عبارات عميقة تختصر خلاصة حياته، وتصوﱢر معاناته مع الفقد، والفقر، واحلام الحرية فملابسه كريش الطير لكنه لا يملك جناحيه، وهنا نستمع لما يقترب من مشهد مسرحى وكأنه مونودراما بليغة تجسد روح هذا الإنسان المقاومة للضعف والفقر وقسوة الرفاق : [اسمي يوسف عرفة، ملابسي من ريش الطير، أقيم في حي "بين السرايات "، أما أنت الذي أكرهك وأمقتك لأنك أخذت أهلى وناسى منى .. أراك الآن، الآن فقط تسعى لأن تلحق بي، قدﱢر أنت أية جريمة اقترفتها في حقى ؟، لخمسين سنة ظننت أن لا أهرب منك، ولا أبحث عن ملامحك، وأسرارك، لخمسين سنة تركتنى، تسعى لأن تتركنى من غير سند، لماذا الآن تبين لی؟، كانت مسعاى أن أهربه منك، أذوب بعيدا عنك، مع ذلك مرت الأيام والليالي بسرعة وإن طالت، عديمة اللون والرائحة والمذاق، وإن عشتها على ذمة أن تتركها لى وحدى، قاذفتني الأمواج التي بلامرسي، الآن حان الوقت للمواجهة .. و ... وتعال]( 21)
• المشهد الأخير
وتأتي قصة " المشهد الأخير" في دائرة "في رحاب المسرح" لتنقلنا من مونودراما "يوسف عرفة " في قصة "مواجهة " إلى دراما عم "عبده البطل" الذي عاش يحلم بأداء دور البطولة في إحدى المسرحيات - وهو الذي لم ينل قسطا مناسبا من التعليم لكنه عشق المسرح، وعشق التمثيل فلقبه الناس بلقب عبده البطل، تلك هي الحاشية التي قدم بها السارد بطله الذي ترك له خشبة المسرح ليصف أحلامه، ومعاناته فيقول لرفاقه "يا جماعة لقد كلفني الأستاذ المخرج اليوم بدور مهم جدا ثم جال بعينه متمتما يردد هامسا "کم سخروا منى وقهقهوا، كم من العوائق وضعوها في طريقى، سألوه من يا عم عبده البطل؟، نهض، ركل المقعد بقدمه ثم رفع رأسه ومسح عن شفتيه، اتسعت كرتا عينيه ولمعت، تيبست ذراعاه، وقد عقدهما خلف ظهره ثم أدار ظهره وذهب] (22 )
وبعد هذا المشهد الذي يبدو مسرحيا بجدارة، يأخذنا السادر إلى مشهد داخلى (داخل غرفة النوم الضيقة التي يعيش فيها عم عبده البطل)، أهم ما فيها هي المرآة التي اشتراها من أحد المزادات لأداء البروفات أمامها، فأثار دهشة الجميع، "يسألونه: ماذا ستفعل بها، لم يتردد أن يقول لهم: سوف أقاتلكم بها وفيها](23 )
وفى هذه العبارة تكمن قوة وحكمة عم عبده البطل الذي سيكاشف الجميع بحقائق لا يعرفونها عن الحياة وعن العالم وكأنه اختزن أدوار الدنيا، وكل ما أسعفته به ذاكرته من ثقافة سمعية وبصرية وحياتية فنجده يقول في الليلة السابقة على افتتاح المسرحية التي وعده المخرج أن يلعب دور البطولة فيها:
[أمام ذات المرآة تهيأ لأداء دور البطولة يقول : سوف أعيد حوار وإخراج المشهد بنفسى، لن أترك الجمهور حائرا فى مثل هذه الجمل الغامضة، لن أقول : شاخ العالم بحيث لن تأتى أيام أفضل، سوف أقول لقد شاخت عقولكم بحيث لن تروا أياما أفضل)(24 )
لقد قال عم عبده البطل كلمته وحكمته وقناعته، كان صريحا في مواجهة الجميع، طالبهم بإعمال عقول شاخت، وأفكار بليت، وبدون إعمال العقول ليس هناك أية أيام أفضل، فماذا كانت نتيجة الإفصاح عن حقيقة أو عن قناعة بطل قبع دائما في الهامش موعودا بدور البطولة لكن لا يبلغ هذا الدور أبدا؟، فى المشهد الأخير لهذه القصة يقول السارد كاشفا مصير بطله الذي قال الحقيقة في لحظة تجل وكشف أمام ( المرآة) التي تعكس الصورة، والحقيقة، المرآة التي تعني مكاشفة الذات وإبراز حقيقتها وصورتها وأحلامها، صدقها وبوحها وهنا يلعب المكان دوره ففى المقهى الذي كان يجلس فيه عم عبده البطل مع رفاقه كان مقعده شاغرا، [ تساءلوا لماذا لم يحضر الليلة افتتاح المسرحية، لم يجدوا جوابا شافيا، صعدوا إلى شقته، الشقة مضاءة، ازدادوا طرقا على باب الشقة حتى حطموه، كانت المفاجأة أن عم عبده البطل مرميا أمام المرآة فاقد النطق والحياة ؟، تساءل أحدهم : لكن كيف رفعوا الستار، وبدأوا المسرحية بدونه](25 )
• في المرآة
ويثير هذا المشهد الختامي العديد من الأسئلة ليس حول مصير عم عبده البطل وحده لكن حول مصير الإنسان ... فهل توفي عبده البطل لأنه لم يؤد الدور الذي حلم به طوال عمره ؟، هل قضى أمام المرأة التي اشتراها لأنه تمسك بدور البطولة حتى اللحظة الأخيرة في حياته ولم ينله ؟، أم لأنه ظل أسير حجرته الضيقة ومرآته، هل كانت مرآة الأحلام فإذا لم تتحقق الذات انكسرت أمام مرآتها ؟ توفى عبده البطل وحيدا ومهمشا ومحروما من تحقيق الذات فهو لم يكتف بأن تكون الحياة " لقمة "، وثوبا من ريش طير لا يرقى إلى أن يكون أجنحة، إن كلماته لا زالت تدوى أمام مرآته في جملة خطابية مسرحية ذات معنى، بل هي تشبة الأيقونة في صراحته وعمقها وحدتها التي تشبه الشفرة الحادة القاسية الجارحة: " لن أقول شاخ العالم بحيث لن تأتى أيام أفضل، سوف أقول لقد شاخت عقولكم بحيث لن تروا أياما أفضل"
... "المرآة .. سوف أقاتلكم بها وفيها" عبارات تنفذ إلى قلب النص كاشفة تؤكد على أن عبده البطل قد أعاد حوار وإخراج المشهد بنفسه ليصبح أكثر حيوية ونبضا وقسوة حتى ولو قضى وحده أمام مرآة الحقيقة إنها صرخة الصبى تحت الشمس، ربما اخترنا أبوه أو اختزنها أمه تحت الجلد ربما تشربها الجد، أو هتف بها يوسف عرفة، وجَسَّدها عبده البطل.
لتصبح مواجهة الحياة رحلة عقل، ودعوة إلى التفكير، بل وأن نحيا بكل ما نملك من قدرة على التأمل والتجدد والاكتشاف.
• الهوامش
(1 ) السيد نجم : 2022 "دوائر من حرير"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، ص15
( 2) _______ : المرجع السابق، ص 15
(3 ) _______ : المرجع نفسه، ص 15
(4 )_______ : المرجع نفسه، ص 16
(5 ) _______ : المرجع نفسه، ص 16
( 6) _______ : المرجع نفسه، ص 16
( 7) _______ : المرجع نفسه، ص 16
(8 )_______ : المرجع نفسه، ص 13
(9 ) _______ : المرجع نفسه، ص 17
(10 ) _______ : المرجع نفسه، ص 12
(11 ) _______ : المرجع نفسه، ص 12
( 12) _______ : المرجع نفسه، ص 13
( 13) _______ : المرجع نفسه، ص 36
(14) _______ : المرجع نفسه، ص 36
(15 ) _______ : المرجع نفسه، ص 110
( 16) _______ : المرجع نفسه، ص 112
(17 ) _______ : المرجع نفسه، ص 112
(18 ) _______ : المرجع نفسه، ص113
( 19) _______ : المرجع نفسه، ص 124
( 20) _______ : المرجع نفسه، ص 125
(21 ) _______ : المرجع نفسه، ص 126
(22 ) _______ : المرجع نفسه، ص 84
(23 )_______ : المرجع نفسه، ص 85
( 24) _______ : المرجع نفسه، ص86
(25 ) _______ : المرجع نفسه، ص87



