د. إيمان ضاهر تكتب: "لست أثينيًا ولا يونانيًا"
كما يقول الفيلسوف سقراط. كنز من الأقوال الجميلة أفضل من كومة من الثروات المادية، فالإنسان مقياس كل أمر مع الآخر برأي الكبير أفلاطون، فعيون العقل تبدأ فقط عندما تبتغي التطلع الى الآخرين.
فأنت تنظر لتتأمل، تتشوق لترجو، تعطى لتتلقى، فتغدو فلسفة الآخر، محور الكون في الحياة.
"فأنا لست بشرا إذا لم يعترف لي الآخرون بهذه الصفة، ما يردده هيجل، وتكمن سر كرامتي في الطريقة التي ينظر فيها الآخرون إليّ"، مما يتألف الكون؟
الكون هو مجموعة كل ما هو موجود، من كل ما هو حول شخصنا، وأي عنصر هو مكونات هذا الأخير. نعيش بين العديد من الأمم معًا، كل جزء من هذه العظمة الهائلة، الكون، كل كائن موهوب بالحياة، ننتمي، نتعايش فيما بعضنا البعض بالعرق الإنساني، باختلافاته وبانقساماته المتناغمة والمنفردة فنحن بشر، وأينما كنا، نحن جزء لا يتجزأ من سلسلة من الأفراد، من أركان هذا العالم الفسيح، نعيش معًا على أرضنا الحبيبة، محاطين بإخواننا من "بني البشر"، نتنفس الهواء نفسه، الدم يسري في عروقنا، كلنا نتكون من العظام واللحم والجلد، ومع ذلك نحن فريدون ومتنوعون، وهذا التنوع يتيح لنا بالتطور والتقدم بمرور الزمان، وهذا الاختلاف يجسد هديتنا البشرية ليلعب كل منا دوره داخل مجتمعه. فكم نحن بأمس الحاجة، كنا البارحة واليوم وغدا لبعضنا البعض "لتحقيق الوجود"، فكل واحد منا فريد من نوعه في تراثه الجيني، فريد من نوعه في المغامرة التي يعيشها والتي تشكل هويته كإنسان.
فما لغز هذا الحدث الرائع؟
لغز هذا الحدث الرائع خلق فرد من شخصين آخرين، يمكننا مقارنة الذكاءات، وكيف يتزوج الفطري والمكتسب ليشكل فردا؟ وبدفء وشغف من الفلسفة الكانطية، أن القناعات الأخلاقية على وجه الخصوص تعلقه باحترام الاختلافات، فالآخرون ليسوا "جهنم" لأنهم آخرون، بل يخلقون جحيما عندما لا يوافقون الوجود في علاقة معنا.
ولكي أكون واقعيا على رؤية الآخر كمرجعية، كمصدر من شأنه أن يساهم في بنائي الخاص، لا أحد يأتي إلى الدنيا كاملا، قادرا على أن يمشي ويتكلم، أو يكبر ويفكر إذا لم يتعلم ذلك من أخيه الإنسان، وكل شخص احتاجه لاكتسب من إنسانيته، وهذا يتطلب وعيا كبيرا للتعقيد البشري.
يقول الشاعر الفرنسي جان كوكتو "إن الآخر ظل نفسي، منذ ولادتنا وحتى موتنا نحن قالب للآخرين ويربطنا بهم خيط رفيع".
أنت تعلم يا صديقي القارئ أنه بالنسبة للعقول المدركة، كل أجزاء الطبيعة متصلة ببعضها البعض بعلاقة سرية متناغمة بخيوط الخلق اللامرئية، التي يدركها الإنسان، والتي تحول كل أمر في هذه الطبيعة العظيمة، إلى سلسلة للعيش غير قابلة للانفصام، وأليست هي جذور الوجود؟ وأليس هو الاندماج الودي مع الآخر واعتباره جزءا من الذات؟
فمن أنا؟ إنسان، والآخر من هو؟ إنسان أيضًا. هل سيطلب الله عز وجل، الذي خلقنا بهذه الثروة الجماعية المتنوعة الغنية، هل سيطلب دفع ضريبة مختلفة؟ لا كلنا سواسية أمام الله، ويجب أن نكون متساوين في الحياة.
وهبنا العلي العظيم الحب، وهو اندماج حقيقة الآخر في الذات، وحقيقة الذات في الآخر، والعثور عن طريق الحق من خلال الآخر. فقل لي ما رأيك بالآخرين لأخبرك من تكون؟ نحن لا نرى الآخرين كما هم ولكن كما نحن وفقا لقول الفيلسوف كانط وفي ميتافيزقيا الأخلاق "أن روحي أوركسترا خفية يعزفها الآخر".
أليس مجتمع الآخرين هو الذي يعلم الإنسان ما يعرفه بالنسبة ليوريبيدس الشاعر اليوناني؟
أليست نظرة الآخر الشرط الأصلي في ظهور الأنا التي أحملها بين أضلاعي. فكيف نحدد الوعي الذاتي لمعرفة الآخر؟
يجيبنا الفيلسوف هيجل أنه لم يتم إنجاز أي شيء عظيم في العالم بدون الشغف بالآخر، دون المعرفة الإيجابية للذات في الآخر.
والتاريخ الإنساني هو تقدم في وعي الحرية، فاستمع إلى الغابة المتنامية من البشر بدلا من الشجرة المتساقطة والمنحنية.
نعيش اليوم في حالة من الحروب والصراعات والظلم ونبذ الآخر، لأجل إطلاق العنان لغرائز الإرهاب والتطرف والعنف، مما يهدد الوجود الإنساني ليجعله صراعا عدميا نهايته الحتمية هدم الآخر "أخ لنا" في الإنسانية.
أليس وجه جاري هو الآفاق الواسعة لا غنى عنه البتة؟ أليس أضمن متاريس ضد الهذيان والخوف والهلوسة؟
إذا كنا وحدنا دون وجود الآخر سنصاب بالجنون، لأنه لا يوجد أحد للتحقق من شهادتنا الحسية، ويعطي المزيد من الرؤى ويحفز عقولنا.
وأخيرًا نقابل الآخر، السائل المستفيد الضعيف والقوي، المؤمن والملحد ونماذج كثيرة فكيف نتعامل مع كل لسان وهو في الحقيقة إنسان؟
فكيف أتعلم لغات العلوم الكونية الإنسانية الضرورية لمجاراة الآخرين والاختلاط في الأمم وتاريخها والترقي في حضاراتها؟ لا يجوز أن أضحي بذاتي لأجل الآخر، ولا أن اختزل وجوده في حياتي. فالذات الإنسانية لا تملك هويتها إلا بالاتصال المباشر بالآخر، الحق يحتاج الآخر الذي ينطق به ويفهمه، إنسانيتي مصقولة بحجر الآخر الجذاب السحري بعيونه المفتوحة وفضلها على إثارة الكنوز التي أملكها في داخلي والتي تتلألأ بنور الغيرية.
أستاذة متخصصة في الأدب الفرنسي واللغات
من جامعات السوربون في باريس



