قراءة في رواية "كائن رمادي".. للكاتب نشأت المصري
برهافة ينسج الكاتب والروائي نشأت المصري أحداث روايته "كائن رمادي" والتي صدرت حديثا عن دار ميتابوك للطباعة والنشر. يضعك الكاتب مع أبطالها من أول لحظة للسرد فيأخذك إلى عالمه الآسر، بتقنيات فنية وجمالية مكثفة، يتماهى القارئ مع شخصياته ببساطة لأنها تعبر عن قضايا إنسانية ووجودية بامتياز. ترى أفكار أبطاله وهي تتحول إلى أفعال، يحرر الأفكار من إسارها، ومن خيالها لتصبح أحداثا حقيقية فتدفع القارئ للتأمل والتفكر فيها.
شرنقة المجهول
المؤقت والخالد هما محوران تدور حولهما مشاعر بطله "وليد عبد الوهاب"، إنه يكتب حيرته، ويؤسس أسئلته، ويبحث عن شغفه، وحياته من خلال أحداث، وذكريات، وشخصيات، وحيوات.
مع صوت الزامر في عُرس ابنته تبدأ جولات بطله الفكرية التي لا تلبث أن تتحول إلى رحلات أو جولات تسع يبحث فيها عن ذاته، ومع المشهد الأول في الرواية يضعنا السارد أمام أزمة بطله الوجودية الذي يؤلمه كل ما هو مؤقت باحثًا عن الخلود، الذي لا يعرف طرائقه فيمضي في رحلته خيالا وفكرا وفعلا، يبدأ من موقف الزامر في عُرس ابنته فهو أيضا بطريقة غامضة يبحث عن خلوده، فهو يؤمن في دخيلة نفسه أن كل صوت ينطلق يظل باقيا في الفضاء ولا يتبدد أبدا، ويمكن تجميعه، فيفرض سطوته على "وليد" صاحب الفرح فيتجاهل طلبه بخفض رعونة الصوت الفادح للمزمار، لكن الزامر يمعن في تجاهله، وصوت نفسه يقول: [لن يستطيع صاحب الفرح أن يستبدلني الآن، فلأفرض سطوتي عليه، أين زوجتي لترى جبروتي، الكل يُذعن لي، علها هي الأخرى تحترم ما أقوله لها من دُرر، لا أحد يعلم أن ما أفعله الآن خالد وباق".
يكشف السارد "وليد " حيلة الزامر وأفكاره ساخرا من فكرته فيقول: [لكن أيها الزامر هل أنت شخصيا موعود بالخلود؟، قد تحيا عاما أو ألف عام ثم تموت بلا رجوع إلى هذا العالم الذي تتشبث به].
ويصبح العُرس حدثا مهما في حياة "وليد" الأب فابنته سوف تغادر إلى مكان آخر، وتنتقل إلى السُكني مع عريسها، لن تفتح لأبيها الباب عندما يعود، لن تسمع طرقاته على باب البيت، لن تستمع إليه فتعوضه عن أمها الصامتة، زوجته التي لا تكاد تتحدث بعد ما أصابها من مرض أقعدها، وأثَّر على سمعها، إنه يصرخ في الليل "أنا سجين صمتك يا غادة، يرفض واقعها الأليم يفر من الصمت والسكون، يمعن في الارتحال في الشخصيات من حوله، وفي الأمكنة، يواصل رحلة الشعور بين الروحي المحلق، وبين المادي الملموس، يتعلق بجارته (إيمان) يرى جمالها وحنانها ملاذا، حوارها معه يزكي حاجته إلى الكلام مع الآخر بعد أن فرضت عليه الوحدة، وصمت "غادة" عزلة أرهقته، يريد أن يتحدث إلى إنسان فكانت جارته «ایمان» أغدقت عليه حنانها وحبها، فأغدق عطفه على ابنها رمزي، صار له معهما عالم موازٍ، بيت يضج بالحركة بعدما طال بيته الأول الصمت والسكون، ثرثرة (إيمان) تنعشه بعد أن كان رهين محبسيه (صمت غادة)، ووحدته بعد زواج ابنته "نانا"، البيت تردد في جنباته الصوت، والآمال، ومع ذلك تظل رغبته في الارتحال قائمة في كل الأحوال، إنه يملك نفسا حائرة لا تقَّر ومع ذلك يشعل الرحيل حنينه إلى البيت فيقول: [أتراني أبحث عن شيء لا أعرفه؟، هذا لا يصلح أبدا إلا إذا عثرنا على شرنقة المجهول، وشرعنا في ثقبها لنفضح ما بداخلها، تصفحت المحلات، وعدت إلى نسمتي "إيمان"، بالكائن "الجديد"، الببغاء- عوني- وخلال أيام صار يداعبنا، تركت نفسى لسيف العادة، فكل يوم أرجع إلى مسكني وفراشي، بسبب أو بدون سبب، حتى لو كان المسكن خاليا من أي أحد كأن تكون "إيمان" في بيت عائشة، وما إلى ذلك، أعود إلى فراشي، فالمكان كالنداهة، وهو ميراث فرعوني قديم، ولا أنكر أن "عوني" بات من أهم معالم المكان، ويخفف عني حين أتبادل معه التحية والسلام].
إن الاشتياق للبيت بعد الارتحال يؤكد [أن الإنسان يدرك أن المكان المرتبط بوحدته مكان وخَلاَّق، فالمكان يدعونا للفعل، لكن قبل الفعل يُنشط الخيال، يُنقى الأرض ويحرثها].
[وأينما لقي الإنسان مكانا يحمل أقل صفات المأوى، سوف نرى الخيال يبني جدرانا من ظلال دقيقة، مريحا نفسه بوهم الحماية أو على العكس نراه يرتعش خلف جدران سميكة متشككا بفائدة أقوى التحصينات].
فهل كان وليد واهما؟، يتصوَّر أنه قد وجد ملاذه مع "إيمان" وابنها "رمزي"، هل حقق سكينة النفس، وظلال المسكن؟
تصدمه الأحداث، فرمزي يستولي على الأموال من حسابه البنكي، ويهرب، و"إيمان" تبكي، وتضع أمامه ذهبا ليتصرف فيه فيأبى، لكن عمق الصدمة يهز ثقته في المكان- البيت، مكان السكنية والمأوى.
ارتحالات نفس
ويضعنا السارد أمام ذاته العميقة المتألمة من خلال عدة مشاهد مؤثرة، وصور يتداخل فيها الماضي بالحاضر، بل الحياة بالموت وكأنها دوائر يدخل ويخرج منها بطله بسهولة ويسر، مضت ابنته بعد عُرسها إلى بيتها الجديد، وها هو يتذكر أمه يوم عرسه، يذكر صوتها: [من الذي سيطبطب على ظهري وأنا نائمة، وُيقـﺒﱢل شعر رأسي الأبيض كل ليلة، وأبوك يراقب مبتسما لأنه لم يعد قادرا على الحركة].
فيزول الفاصل بين الخيال والحقيقة، عندما يسمع صوت أمه، يسافر إلى ماضيه من لحظة آنية تصنع لحظة أخرى فاعلة ومستقبلية فيقول السارد [للحظة فكر أن يغادر الشقة، ويتجه إلى أمه ليلبي طلبها، ويعتذر لها عن هذا النسيان الرذيل لكن إلى أين وهي بين جيرانه الجدد في مقابر السادس من أكتوبر، قال لنفسه: ما المشكلة في أن يذهب إليها في الفجر مثلا، لا معنى للوقت وألوانه...، في الفجر أسرع إلى عربته، وانطلق إلى المقبرة، تلمس أقرب نقطة يتصوَّرها إلى رأس أمه، وطبع عليها قبلات كثيرة، رجع وهو أهدأ، أدار مفتاح الباب في مكانه، آلمته عينه فمسحها بظهر يده، وتعجب كيف لم تدمع عينه دمعة واحدة، وهو في المقبرة بينما دمعت عينه وهو يفارق ابنته].
ومن الخروج إلى المقبرة (في زيارة لأمه) إلى التماس الحياة في الموت (تلمس أقرب نقطة يتصوَّرها إلى رأس أمه)، يمزج السارد بينه مشاهد يبرز فيها عنصر المفارقة (الحياة والموت)، الدموع عند العرس وفراق الابنة، وعدم البكاء في المقبرة واللقاء الرمزي بالأم.
الراعي الوحيد
وتتوالى المفارقات في بحث السارد (وليد) عن أسئلة تؤرقه حول الخالد والمؤقت، فيفكر في الفنون باعتبارها تُخلد أصحابها، كتابات أو موسيقات أو رسوم تحظى بالبقاء في ذاكرة الناس فلماذا يخلد مثلا لحن "الراعي الوحيد" لجورج زامفير، وهل هذا اللحن الذي يحظى بمحبة الكثيرين وتذوقهم يمكنه في الوقت نفسه أن يُسعد راعيا حقيقيا؟، أم أن التذوق الموسيقى مشكلة ثقافية، فربما لا يجيد الاستماع إليها الجميع، ينزل السارد بأفكاره من مستوى التخيل، والطرح الذاتي إلى مستوى الواقع فيلتقى بالفعل براع فيسأله إن كان يحب الموسيقى أو يتعاطف مع لحن زامفير، وينقل لنا هذا الحوار بين السارد "وليد" والراعي [رفعت الموسيقى عاليا، سمع بلامبالاة، لم يتعاطف مع اللحن، ولم يرفضه، سألته: هل تحب الموسيقى، وهل تغنى أحيانا؟ في صمت يتهمني بالتطفل، وربما يسخر منى، سدد عينيه العسليتين الواسعتين ومضى].
ثم يُحلل السارد موقف الراعي فيقول إنه ربما يطربه موال، أو أصوات بعض الكائنات دون لجوء إلى وسيط من أوتار وآلات أو صوت مطرب مُدرب، ويعكس هذا التأمل الشعور بالرغبة في المشاركة، في الاستماع إلى الموسيقى، أو في دوائر تفاهم مشتركة مع الآخرين والمثال: التفاعل مع لحن يحمل عنوانه اسم "الراعي الوحيد" قد يرغب في التفاعل معه راع حقیقي، وكأن السارد يمزج أيضا بين عالمين بعنصر المفارقة عالم الخيال (موسيقى لحن الراعي الوحيد)، وعالم الواقع (تذوق راع حقيقي لهذا اللحن أو عدم تجاوبه معه).
وهنا تنبت الأسئلة من جديد على حافة الواقع في تماس مع دائرة الخيال: [كيف لم يتفاعل هذا الراعي مع نبضات موسیقى "زامفیر"؟ هل لأنه يختلف عن طباع محبيه الذين يدخنون السيجار، ومُحباته اللاتي يغصن في الفراء الثمين؟ يا إلهي حتى الموسيقى لها عندنا مشكلة؟ ومن ناحية أخرى كيف تفجرت هذه الشهرة العالمية ولماذا؟ لم أجد إجابة شافية، أهي هدايا السماء الغامضة؟ لماذا يلقى لحن معين أو رسمة أو قصة قبولا كاسحا].
مشاهد الحيرة
يجد السارد حيرته في مشاهد عدة أسهمت في رسم الملامح النفسية له ولمن حوله، تلك العوالم الداخلية التي تتبدى في التأملات، والذكريات، والتخيلات بل والتفاصيل الصغيرة التي رسمها الكاتب بمرارة فيقول على لسان بطله عندما يرغب في السفر كحل يخفف من حيرته، ويبدأ به جولاته في اكتشاف الذات والآخر، المؤقت والخالد: [كل القطارات لها نهايات حتى لو سافرت إلى القطب الشمالي، ولو كان هناك قطار يأتمر بأمري سيتوقف عند نقطة ضرورية کي لا يسقط في المحيط أو يصطدم بجبل].
[استقل صاروخا إلى المريخ أو أي كوكب آخر، يا للهول، ما المريخ؟، مساحة لها آخر، بل ستكون بدلة الفضاء هي الآمر الناهي، وأنا تابع مسلوب الإرادة، أي انحراف عند التعليمات يُعجِّل بالنهاية التي هي ليست نهاية، ومن ثم ألغيت السفر إلى الفضاء].
البحث عن المشاركة
يكسر السارد عزلته، وشعوره بالوحشة بطرق مختلفة، فقد اتجه إلى العالم الافتراضي تارة، والعالم الواقعي تارة أخرى، صديقته التي يتحدث إليها في العالم الافتراضي تبادله التعاطف والكلمات الودودة فيقول لها: [كل ما بيننا جميل، ولا شيء مهم، ولكل شيء جميل نهاية لأنه مؤقت.
فتجيبه: أرهقتني بتلك الكلمة يا صديقي، القبح والألم أيضا مؤقتان، أحتاج جدا إلى ابتسامة، كن سعيدا هذه الأيام أرجوك لأقلدك].
ثم يكتشف أنها كتبت له ثروتها في وصية حيث كانت تعانى من مرض خطير لم تخبره به ورغم هذا التواصل مع هذه الصديقة في العالم الافتراضي، وحنان "إيمان" الذي يعتبرها نسمة في حياته لكنه أيضا يرى الحب علاقة مؤقتة فيقول: [إيمان نسمة جميلة حقا إلا أنها ليست نسمة الضرورة التي تعادل الحياة إذ لا تخرج عن دائرة المؤقت] تدرك إيمان معاناته، وقد نقل إليها حيرته، وخوفه فتقول له: [عيناك تكادان تخترقان الجدران والسقف، حتى وجهك تبدَّل كأنك كائن رمادي، خرج من جوف الأرض أو هبط من السماء، أخافك أحيانا فيجيبها: وأنا مرات أخاف من كل شيء، لا خوف من خائف].
ویزاوج السارد بين الحوار كطريقة للمشاركة مع الآخرين، وبين الحوار مع الذات والكشف عن الأسباب العميقة لشعور السارد برمادية الأشياء، بهذا اللون الرمادي الذي أصبح لونا لوجهه وكيانه فيقول: [لقد زرع أبي وأمي وكل من حولي في نفسي مبدأ التكيف وألا أعترض إلى حد التصادم، وأن أكون جاهزا للتراجع إذا اقترب مني الضرر بسبب إصراري، حتى صرت رماديا، لا أنا أبيض ولا أسود، في فكري وفعلي وأنا لا أدعي أنني على حق، لكن أريد أن أخوض التجربة، وأتراجع باقتناعي، أغلبية من حولي رماديون، ولا يشعرون بذلك كأنهم مصابون بعمي الألوان والأفكار، يبدو أن اللون الرمادي هو المعبر عنا لأنه مثلنا مؤقت، وليس آخر أو أول درجة في لونه، ليس هناك لون رمادي واحد محدد، يستطيع أن يُعلن أنه هو الأصل".
الألم فرصة للحياة
وعندما يصاب "وليد" بورم في ظهره، ويكتشف الطبيب أن الورم ليس حميدا، ويُرجح انتشاره. إلى مواضع عديدة دون سابق إنذار يكتشف "وليد" قدرته على المقاومة، على التشبث بالحياة، فيمارس رياضة عنيفة يتحدى بها المرض، ولأن الألم في هذه اللحظة يمنحه فرصة التفكير في الحياة التي يراها مؤقتة فيتشبث بها قائلا: [كلمات المواساة من الأهل والأصدقاء فقدت بريقها، وظل سؤالي هو: كيف أواسي نفسي دون استسلام لفكرة انتهاء الحياة خلال سنوات محدودة، لأن العمر كله سنوات محدودة]. لكنه استمر في التحدي، وممارسة الأمل والرياضة ثم تملكته الرغبة في السفر.
أسئلة تتكاثر
سألته "إيمان" لماذا السفر؟، فيقول [ليس السفر هو الغاية، وإنما الوصول إلى إجابة عما يضطرم في عقلي، وصدري، عن المؤقت والجدوى الكونية] فتقول له "إيمان": أعترف لك أنني بدأت أفكر مثلك، وبدأت أحصد اللاشيء، فالأسئلة تتكاثر كالنمل، لكن على صورة واحدة مفزعة، وكدت أفقد مجدافي].
ويتواتر الحوار بينهما مما يعكس تفاهما ومشاركة جعلت زوجته إيمان تشعر بما يشعر به من قلق وخيرة ليكشفا عن هذه الأزمة الوجودية، المتعلقة بأسئلة المرء عن حياته، وأهدافه، والغاية من تلك الحياة، تمارس "إيمان" إنسانيتها، ورغبتها في الاطمئنان ولو قليلا وعندما يسألها "وليد" جوابًا لحيرته، فيقول :
[ - ما الحل ؟
- أن نغرق في تفاهات كل يوم، ونضحك مع الضاحكين
- وكيف يهدأ العقل يا صاحبة الغمازة؟
- حين تنسى أنك مسؤول عن الكون، وتعرف أن الروح من أمر ربي، وكذلك الموت، وكل شيء، لابد من تغيير البوصلة التي في دماغك إلى القاهرة لنستدفئ بأسرارها وتفي بوعدك لغادة.
لكن نداهة السفر جذبت وليد فترك ورقة بها كلمات قاسية لإيمان: "لا تقلقي" ولا تسألي عنى ربما لن نلتقي".
في مرآة الذات
يقرر وليد السفر، هاجرًا إيمان، ولم يهتم بما أعاده "رمزي" من المال، وطلب إلى إيمان أن تضعه في حسابها هي، الجرح العميق الذي سببته صدمته في "رمزي" الذي اعتبره ابنا له، الأسرة التي كان يأمل في أن تملأ فراغ قلبه وحياته، والبيت الذي حلم أن يتأجج بالحب العارم صار مؤقتا، وعامرا بأسئلة الحيرة التي لن يجيب عليهم إلا الارتحال، والجولات القادمة في زيارة الأمكنة لعله يجد ما يبحث عنه، ويصوﱢر السارد مشهد الذات في مرآتها، حيرتها، وتساؤلاتها فيقول: [وفي لحظات الخروج الأخيرة حدَّقَتَ في المرآة الكبيرة التي تتوسط الصالون السماوي، ولم أتعرف على الشخص الذي أمامي، صاحب الوجه الرمادي الذابل، واستولت على أذني زفرات صافرة القطار الذي لن أركبه أبدا، وما زلت أمضى في الطريق، لا أرى أحدا، وإن رآني كل المارة]
مقاومة إنسانية
يرتحل "وليد" إلى المنصورة، وهناك يلتقي بحسناء أربعينية تخاطب اهتماماته، ويصبح الحوار بينهما وسيلة يعـﺑﱢر كل منها بها عن ذاته وعن أفكاره، "رحمة فريد" هي الفتاة التي يخاطب نضجها عقله، ويتفقان على مغامرة الحياة أو كونها بالفعل مغامرة، وينسج السارد تفاصيل الحوار الذي يؤكد على أن "وليد" بطل الرواية كان يسعى دائما للفهم والمشاركة، بل والحب، بعد صدمته في الأسرة البديلة بزواجه من "إيمان"، وما اكتشفه من فساد واستغلال ابنها "رمزي"، ويعزز ذلك حديثه مع "رحمة"، عندما تحثه على السفر لإيمان فقد يمنع سفره ضررا بعد أن كتبت "إيمان" له رسالة في الجريدة اليومية بأنها تنتظره للضرورة على عجل، فيقول "وليد": [هي أشواق لا تلبث أن تهدأ، فماذا لو أنني كنت مت في حادث؟ ستمضي الحياة بدون كوارث، اطمئني، لا مشكلة].
.. لقد ابتردت مشاعره تجاه "إيمان"، رمز البيت، لقد تزعزعت طمأنينة الوجود وكأن كل شيء قد تداعى فجأة، إحساس "وليد" بالأمان، لقد شعر بالخطر من فساد ابنها وطمعه واستغلاله، تداعت البنوة التي كان يبحث عنها لتظله بعد غياب ابنته بزواجها، وكأن "إيمان" ما كانت إلا محاولة للحصول على بيت جديد، وأسرة بديلة، بيت لا يشعر فيه بالخطر وكأن البيت بمنظوره الواسع هو "الوجود الحقيقي للإنسانية الخالصة التي تدافع عن نفسها، دون أن تُهاجم، إنه الفضيلة الإنسانية، وعظمة الإنسان".
بسمة بلون الصباح والفرح
يتفتح "وليد" على علاقة جديدة تتميز بالعاطفة وتخاطب عقله أيضا، ويكشف الحوار بين "وليد" ورحمة على سعي حثيث نحو الحب والمشاركة والبحث من جديد عند نقطة استقرار ولو مؤقتة، هذا ما يتحدث به الداخل العميق لبطل هذه الرواية الذي يتحدث إلى حبيبته رحمة فيقول لها:
[أنت تقبضين على عقلي بقوة، ولا تعلمين ذلك، وأنا قابل لعمل أي شيء جميل أو غير جميل يرضيك، دون تردد حتى لو كان الرحيل الفوري بعيدا عنك
- ما هي الأشياء الجميلة التي يمكن أن أطلب منك عملها؟
- كأن أخطبك مثلا، ولا تسأليني عن السبب لأنني لا أعرف فأنت تمكنت من تعطيل عقلي - أنت مخيف يا استاذ، أنا لست ساحرة، أنا أبسط من ذلك، لأنني واضحة مع نفسى
- أنت أيضا مخيفة بعنادك، أنت عقل كبير ببساطته في عالم صغير بغموضه والتوائه، ترى ماذا يفعل مخيف ومخيفة إن اجتمعا، ابتسمت "رحمة" بسمة بلون الصباح والفرح قالت: وما رأي وموقف زوجتك إذا تزوجنا.
- لقد أخبرتها أنني لن أعود، وهي تفهمني جيدا، وتعرف أنني جاد فما أقول. - لكنك لم تقل لها أنك ستتزوج، قد تبحث عنك لأي سبب فلكل مغامر رجعة. - ليس دائما، الحياة كلها مغامرة لكنها محدودة بوقت والقوانين الصارمة خرافة. - الأمور كلها متشابهة عندي، وإذا اتخذت قرارك بالزواج مني سأكون سعيدا، وقد أُسعدك، المهم أن تعرفي أنني أعاني من المياه البيضاء في عيني، وهي تحتاج إلى جراحة لكي أرى جيدا - قلت لي ذلك من قبل، يبدو أنني سأغادر دون تفكير، فقد أرهقني التفكير الطويل، فلأقل لك أنني موافقة.
- فليزغرد القمر في عليائه]
البحث عن هدف ومعنى
يظل وليد متربصا بالفرصة المواتية للاختفاء بلا عودة، حيث سيمضى إلى حيث لا يدرى، لكن حدثا يـﺠﱢد على حياته مع رحمة، هو تهديد ابن عمها لها فقد أراد الزواج منها ورفضت، فتزوج غيرها، وطلق زوجته لكنه يكيد لرحمة ولزوجها فيتربص به ثلاثة أشخاص وضربوه، وهنا يشعر "وليد" بمسؤوليته تجاه حماية "رحمة" وطفلته القادمة منها، ويتوارى قليلا عزمه على الرحيل، إلى أن يجيء العم وابنه المعتدي ليحصلا على سماح "وليد"، ويقدمان له الاعتذار الصادق، وهنا يشعر "وليد" بالاطمئنان، ويعاوده الحلم بالمغادرة، اكتشاف الأمكنة والذات من خلال جولاته المتعددة، وفي مشهد يحاور فيه "وليد" حقيبته رمز الترحال يكشف السرد عن قلق "وليد" الوجودي الدائم، وبحثه عن هدف ومعنى لحياته فيقول: [علقتُ حقيبتي الرمادية في كتفي، هي رفيقتي الطائعة، كادت تحدثني، وتتنبأ بنواياي، وهي دائما في وضع استعداد لأن أحملها بل هي تشجعني لتمارس وظيفتها في الحياة، للحقيبة وظيفة محددة فما وظیفتي یا حقيبتي؟
تأهبت للخروج في هدوء، سلاما رحمة، سلاما صفاء، لا تشكِّ لحظة أنني لا أحبك فأنا لا أملك لك إلا الحب بلا بينة]
الإذن بالغياب
لكن "وليد" يعود ليساعد زوجته "رحمة" فينقلها للمستشفى لتلد صفاء، ويصارحها برغبته في الارتحال يقول لها: "إذا أنا اختفيت بسبب ما بإرادتي، هل أكون بذلك ظالما لك ولحبيبتنا صفاء؟"
وهنا يتبدى عقل رحمة الراجح، وحبها لزوجها، وعمق فهمها لاغترابه النفسي مما يساعده على اتخاذ قراره بل اكتشاف الغامض المجهول في ذاته، ومشاعره، ويكشف الحوار الذي يُعد تقنية فنية أساسية في هذه الرواية ومشاهدها فيكشف عن ذوات حائرة لكنها مُحبة، وقلوب متألمة لكنها عاشقة فتقول رحمة:
[- أستأذنك سنسمي الاختفاء غيابا لأن كلمة اختفاء سيئة السمعة، وضد العقل، إن غيابك كرجل ليس مشكلة على الإطلاق، فأي رجل يمكن أن يغيب بالموت لأي سبب، بل لا بد أن يغيب هكذا، وذلك لا يعني أن الأنثى فقدت كل شيء للأبد، مثلا يمكنها أن تجدد حياتها إن أرادت، لكن غيابك كحبيب أمر مختلف جدا، فالحب ليس مهنة أو وظيفة بينما دور الرجل وظيفة وإن كانت خطيرة
أرحْتِ قلبي
قالت في ابتسامة عبقرية: كأنني منحتك الإذن، وفي عينيك فرح طفولي، وكأنك توقن أنك بالنسبة لي مجرد زوج محترم]
الشعور بالحرية
ويبدو جليا فرحة وليد بما منحته له رحمة من ثقة، وتلطف في الحوار بل عززت في نفسه الشعور بالحرية فيقول: [لأول مرة أشعر بالحرية فأنا استطيع أن أغيب جهارا نهارا، شكرا يا رحمة، يبدو أن الفروق كبيرة بين البشر، جلجل صوت "صفاء" بحرية أيضا، هو الآن أكثر الأصوات حضورًا، لا يسكت إلا إذا لبينا طلباته، هي الفطرة إذن، أن تزعق وتهتف وتصرخ كي تمنحك الحياة أمانيك، أول دروسك يا صفاء]
الحنين إلى الطريق
وفي الجولة التاسعة يطلعنا السارد على ما تضطرم به مشاعر "وليد" من رغبة في الاكتشاف والرحيل، والصراع النفسي الذي يجعله يقول "لست جبانا فأهرب، ولست قويا فأبقى"..
هذا الصراع الداخلي الذي يكشف عنه السرد بتقنية المونولوج أو حديث الذات لنفسها: [استعد للرحيل الدائم الآن، بيدي لا بيد الموت أو بهوى سائح سيعود إلى أهله …
نائمة جفونك، ساكن عقلك الآن، والذاكرة فارغة، هل تكون أول سطورها: أبي ضحك علينا، وألقاني بين أحراش الحياة وأنيابها، ونجا بنفسه، كلا يا صفاء لست جبانا فأهرب، ولست قويا لأبقى.
يا الله قلبي يخونني، ويلتصق بالمؤقت الجديد، صفاء، وإن كانت لم تطلب شيئا، وهل الأخرس الجائع يكون بمنأى عن ألم الجوع ؟]
حصاد عمر جميل
ويبزغ إحساس الأبوة عميقا وكأنه يغرس في نفس "وليد" عالما جديدا، عامرا بالمحبة والشعور بالمسؤولية، فيكون الخطاب رمزیا موجها لصفاء المولودة، لكنه في الوقت نفسه صحوة ويقظة مشاعر الأب في نفس "وليد":
[في أعياد ميلادك المقبلة تنتظرين منى الهدايا، تفخرين بها أمام صديقاتك، ويوم يأتيك العريس مأسورا بابتسامتك الموروثة تتمنين أن أكون في استقباله وأقدم لك تقريرا عنه، وأخاصمك إذا كان سيئا، وتشبثت به ثم تؤيدني أمك التي ابيَّض بعض شعرها آنذاك وإذا آلمتك عيناك تفترضين أنني لن أنتظر إلى اليوم التالي فأكون معك عند الطبيب الكبير "أحمد حسنى"، وأحيطك برداء اللهفة، وأتيه بك أمام الكاميرات، وأنادي هذه هي ابنتي الدكتورة صفاء، العالمة الشهيرة، وحصاد عمري الجميل، صرخت "صفاء"، وأفاقت "رحمة" من غفوتها القصيرة، وفتح الليل جفنيه السوداوين، وتدافعت "رحمة"، جذبت البطانية لتغطى وجهي بأمر من "صفاء"، رحت في نوم هادئ، "صفاء" تريدني نائما حتى لا أغادر إلى غير رجعة]
البيت والبحث عن معنى
ومن جديد يبرز البيت رمزا للأمان، وكقيمة إنسانية كبرى عندما يأخذ "وليد" موقفا جديدا من حياته وترحاله لقد اكتشف المعنى، أو مغزى الرحلة فيقول: [نفضت البطانية عن رأسي، وجلست إلى مكتبي الذي يموج بالأوراق، وإلى جوار المكتب توارت حقيبتي الرمادية كعهدي بها تذكرني بأن أحملها وأمضى، وتصفق لغربتي المجهولة، تقبض يدها على يدى لانطلق بها في عروق المدينة، هي صارت أيضا سؤالا مُـﻠﱢحا مالكا، من نافذتي طَوَّحت بها بعيدا لتسقط في المجرى المائي الذي ابتلعها، حملقت لأراها، وهي ترحل بعيدا عن بيتي وعقلي، ضايقتني الرؤية الغائمة، قررتُ أن أسافر غدا إلى الدكتور أحمد لإجراء العملية، ومعي "صفاء" وأم "صفاء"]
وكأننا نسمع معه نشيد البيت رمز الحماية والأمان، وكأنه يدعو الكون كله لكى يعود إلى البيت مما يذكرني بقول الشاعر "سوبرفيل": [كل ما يجعل الغابات والأنهار والهواء/ تجد مكانها بين هذه الجدران، هذه الجدران التي تعتقد أنها تنغلق على حجرة]
..."كائن رمادي" رواية تصوﱢر حيرة الإنسان المعاصر، وصراعه مع وجوده، ومسؤوليته عن هذا الوجود فقد استطاع كاتبها الروائي نشأت المصري أن يبلور رؤية فنية وجمالية لقضية إنسانية كبرى، وهي البحث عن هدف وعن معنى وراء الوجود الإنساني.



