قصص الهجرة لأَرْضُ الله الوَاسِعَة، كثيرة بين الأمل واليأس، قصص لأنَاَس رفضوا الاستسلام لتجارب مؤلمة أهمَّتهم، وشغلتهم حتى بدت لهم الحياة ضيق وكدر، فعاشوا في قبَّة مشاعرهم السلبية الموهنة لعزائمهم، فلجئوا للهجرة غير الشرعية، معتقدين أن الأرض الجديدة ستتيح لهم فرص أفضل، والمثل الإنجليزي: The grass is always greener on the other side يجسد صفة الإنسان المتمثلة في الرغبة دائمًا في شيء مختلف عما لديه.
فهو يفترض أن حديقة جاره أكثر خضرة من حديقة منزله، في حين أنها في الواقع هي نفسها أو أن جارك يطمع بالفعل إلى ما لديك، فالناس يعتقدون في كثير من الأحيان أن مجموعة مختلفة من الظروف ستجلب لهم مزيدًا من السعادة؛ ومع ذلك فإن هذا ليس هو الحال عادةً.
كثيرون يرون بلادهم أحلى البلاد.. يا بلادي، يفدونها بأبنائهم، ولا يستبدلونها بغيرها، ترابها، وحلوها ومرها، الحضن الكبير، الملاذ الآمن يضم أبناءه، متمسكين بقول وليم شكسبير "ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم"، كناية عن الوطن.
في غربتي شاهدت وعايشت نماذج كثيرة من المهاجرين وبعض الناس تهاجر بشكل قانوني للتنقيب عن مستقبل أفضل بالتعليم، والبحث عن حلم تحقيق أحلام ورغبات طموحة، لفرص اقتصادية أفضل، ونمط عيش أفضل.
الفئة الأولى خرجوا من مصر من محافظات مختلفة، بمجرد من انتهاء دراستهم بحثًا عن الذات في الخارج، والبعض لم يكمل دراسته وسافر للبحث عن فرصة عمل بالخارج، بعد ما اضطراب في ميزان التفاهم العقلي، وما يتولد عن دلائلها في مدارك الأذهان من مفاهيم، بإيعاز من الأصدقاء سواء عن جهل أو بتأثير المتلاعبين بالعقول، وأساليب الجذب من الدمى الكبار في السياسة ووسائل الاتصال الاجتماعي لخيوط الرأي ولا تسمع منهم إلا القول الغريب "هي مصر فيها إيه عشان أقعد فيها؟". ولصعوبة الحصول على تأشيرة دخول مباشرة لبريطانيا، يسافرون لليونان ومنها إلى فرنسا والتسلل لإنجلترا في عبّارات كبيرة تحمل شاحنات وعربات، وفي رحلة الهروب والبحث عن عمل تعيقهم اللغة وثقافة البلاد ويقضون الليل في الحدائق ومحطات القطارات، وإذا كانوا من المحظوظين، يختبئون من رقابة رجال الأمن بالعمل في مطابخ المطاعم، أو بعد أن تغفو الرقابة ليلًا والعمل ليلًا في توصيل الطلبات.
منذ أسابيع أعلنت الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة في بريطانيا، أن السلطات المحلية وجّهت الاتهام إلى مصري يبلغ من العمر 40 عامًا للاشتباه في تنظيمه عمليات تهريب آلاف المهاجرين عبر البحر المتوسط.
فقد أوقف أحمد رمضان محمد عبيد في منطقة Hounslow القريبة من مطار هيثرو بغرب لندن، خلال عملية شاركت فيها السلطات الإيطالية، واشتبه المحققون في أنه نظم عبور آلاف المهاجرين من ليبيا إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط العام الماضي، بالتعاون مع شبكات تهريب في شمال إفريقيا، في عمليات محفوفة بالمخاطر على متن قوارب يتكدس عليها مئات المهاجرين، وتأتي القضية بعد توقيف تسعة مصريين في اليونان، في إطار تحقيق في غرق قارب مهاجرين في البحر المتوسط أدى إلى مقتل 82 شخصًا على الأقل، بينما لا يزال مئات في عداد المفقودين ويرجح أنهم لقوا حتفهم.
في غربتي شاهدت وعايشت نماذج كثيرة من المهاجرين، جاءوا محتمين بحضن مصري، جاء بشكلٍ شرعي إلى لندن، ليؤسس مكتبا لمؤسسة روزاليوسف بتكليف من الكاتب الكبير ورئيس مجلس الإدارة المؤسسة الأديب والشاعر والمفكر الإسلامي عبد الرحمن الشرقاوي، وبعد نجاح المكتب في مهمته والغرض المقام من أجله، أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، وانتقل الشرقاوي لجريدة الأهرام متفرغًا للكتابة بها، وصدر قرار بغلق المكتب، ولظروف خاصة قررت البقاء، ومع انتقال دور النشر اللبنانية للعاصمة البريطانية، ورغبة الكثيرين منهم في الاستفادة بخبرتي في مجال الفن الصحفي أسست شركة لخدمة هؤلاء- وهي حكاية سبق روايتها في رحلة غربتي الثانية.
التقيت الكثير والكثير من الباحثين عن عمل أردنيين، ليبيين، عراقيين ومصريين أتوا باحثين عن عمل من خلال نشاطه الجديد. هناك من جاء إلى بريطانيا في منتصف العمر مبتعدًا عن عائلته، آملًا في مستقبل أفضل بدأ حياته في لندن ثم تنقل إلى جنوبها باحثًا عن عمل، لكنه لم يوفق، فرحل إلى مدينة أخرى في الشمال وعمل فيها نحو سنتين. تزوّج هناك، واستمر في التنقل مع زوجته، وهمه إنجاز معاملات الإقامة، وبعد حصوله على الإقامة طلق زوجته، ولأن المصري تربطه علاقة قوية بالأرض وبالأهل. تزوج من قريبة له من قريته.
أما سمير فله قصة مشابهة فهو شاب في السنه الأخيرة من كلية التجارة، أتى لزيارة قريب له، أعجبه الحال فبقي بعد أن تعرف على امرأة في السبعينيات في إحدى الحانات وتزوجها ليحصل على الإقامة، لكن شرطة سكوتلانديارد لم تصدق أن يتزوج شاب في العشرينيات من امرأة عجوز، فكيف لشاب بمقتبل العمر الاقتران بزوجة تكبره بخمسين عامًا؟ فقرروا وضعه تحت المجهر، وفوجئ سمير- على فترات متباعدة- بزوار الفجر من الشرطة للتأكد من جدية الزواج، وأنه يشارك زوجته الفراش، وبذكائه الفطري تحمل سمير نتائج مداهمات الشرطة، حتى حصل على الإقامة، التي صاحبها الطلاق طبعًا.
قليلون منهم وفقوا في إقامتهم الشرعية واكتسبوا صنعة الشيف في البيتزا والمعجنات، أو عملوا كسائقين ومرافقين للعرب المقيمين أو الزائرين والبعض يطمح في إقامة مشروعه الخاص في لندن، وهو أمر يحتاج إلى تمويل. وإذا كان يمتلك جزءًا منه، فإنه يعمل في مطعم صغير حتى يتمكن من التغلب على ارتفاع الأسعار في لندن التي تُعدّ واحدة من أغلى مدن العالم.
لكن بالطبع هناك قصص نجاح لمهاجرين من رحم الأزمات، بعض من هاجر أراد الانتقام، ممن استعمروه، ونهبوا ثروات بلاده بصورة إيجابية، أراد الانتقام بنجاحه، وإثبات الذات، فالنجاح هو أفضل انتقام من كل من ظلمنا واعتدى على حريتنا، ولم يقم لنا وزنًا أو تجاهل وجودنا في الحياة.
ومهاجرون الأمل والإصرار يلازمهم، يحلمون بما يريدون تحقيقه، شقوا الطريق ووصلوا، وحققوا أحلامهم وتحقيق طموحاتهم، هناك من أكمل تعليمه، فأتاحت لهم الحياة الجامعية اكتشاف ثقافة مغايرة، وضرورة الحوار والتواصل للاندماج في المجتمع، مهاجرون قصص نجاحهم دعت بريطانيا لافتتاح متحف الهجرة في لندن يعرض قصص نجاح مهاجرين أتوا إليها فأضافوا، ويلقي الضوء على رواد الأعمال المهاجرين، ومساهمتهم في "تشكيل بريطانيا" والدور المحوري لرواد الأعمال المهاجرين في تشكيل حياة البريطانيين وبريطانيا.
وجاء في إعلان المعرض "من الطعام الذي نأكله، إلى الملابس التي نرتديها والتطبيقات على هواتفنا والمنتجات الموجودة في بيوتنا، دون المهاجرين لن تكون حياتنا على هذا النحو".
ونوه الإعلان إلى المزايا التي يملكها المهاجرون حيث إنهم "بارعون في اكتشاف الفجوات في السوق، وغالبا ما يخدمون في الجوانب التي تتجاهلها الشركات الأخرى، أو يخلقون أسواق جديدة لأفكارهم". وهذا ما يتطلب "العمل الجاد والتضحية والمرونة والبراعة، ما يستدعي الاحتفال برواد الأعمال والمبتكرين المهاجرين".
إن للهجرة حكاوي وحكايات وقصصًا وروايات...!



