الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

عندما يتحول العلم إلى سلاح فتـّاك: «أوبنهايمر».. الفيلم الصحيح عن الشخص الخطأ

بوابة روز اليوسف

 «أنا الآن أصبحت الموت، ومدمر العوالم».. لعلها أصدق الكلمات التي وصف بها عالم الفيزياء دكتور «جيرى روبرت أوبنهايمر» نفسه فى فيلم السيرة الذاتية (أوبنهايمر)، رغم وجهة نظر المخرج المختلفة التي بدأ بها الفيلم، عبر الإشارة إلى «أوبنهايمر» فى أنه يشبه «برومثيوس»، ذلك البطل اليونانى الذي سرق سر النار من الآلهة، فعاقبوه بتقييده بالأغلال وتعذيبه إلى الأبد.

 

وبينما، يقف الناس اليوم على حافة الثورات التكنولوجية التي ستغير المجتمعات فى القرن الـ21، فإن الجماهير حول العالم يشاهدون -الآن- على شاشات العرض الكبيرة التاريخ الفارق الذي غير القرن الـ20، عندما غيرت الأسلحة النووية هذه الحقبة.

(أوبنهايمر)، كما يوحى الاسم، هو سيرة ذاتية عن «أبوالقنبلة الذرية» من بداياته فى الأوساط الأكاديمية، مرورًا بما عرف باسم (مشروع مانهاتن)، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، الذي بلغ ذروته فى مشاهد درامية حولت العبقرية إلى مأساة، وذلك بعد أن استغلها المسؤولون الأمريكيون، حيث اختراع «أوبنهايمر» مصحوبًا بجنون العظمة، حول الابتكار التكنولوجى الذي تحول إلى سلاح فتّاك غير شكل العالم ومجريات أحداثه.

بشكل عام، يتم سرد الفيلم باستخدام ثلاثة جداول زمنية مختلفة، شمل أغلبها ذكريات حياة «أوبنهايمر» المبكرة والعمل على القنبلة الذرية، بعد انضمامه إلى مشروع مانهاتن، وهو جهد أمريكى لبناء قنبلة ذرية فى مدينة «لوس ألاموس» الأمريكية التي يتم بناؤها خصيصًا لحفنة من العلماء والعقول الموهوبة، وذلك ضمن مشاهد مختلطة يتم عرضها مرة خلال جلسة الاستماع الأمنية لعام 1954، والأخرى لجلسة مجلس الشيوخ الأمريكى فى عام 1959.

ومع ذلك، لم تكن القصة وحدها كفيلة بأن تجعل المشاهد يجلس لثلاث ساعات، بل كان الدافع وراء متابعة الفيلم بشغف، هو عبقرية مخرج تفنن فى صناعة فيلم أقل ما يمكن وصفه بالدقيق والصعب، بالإضافة إلى الصور التي حملت فى طياتها العديد من الرسائل، والأهم من ذلك البطل الرئيسى (الموسيقى) التي شاركت الممثلين أدوارهم.

  العبقرى «نولن»

تناولت الصحف الأمريكية أخبارًا متنوعة أفادت بأن القصة المقتبسة عن كتاب (بروميثيوس الأمريكى: انتصار ومأساة جيه. روبرت أوبنهايمر) الذي صدر عام 2005، للمؤلف «كاى بيرد، ومارتن ج. شيروين»، تم اختيارها عدة مرات، إلا أنه لم يتم إنتاج أى فيلم أو نسخة تليفزيونية على الإطلاق، نظرًا لكونها قصة كبيرة جدًا.

ويبدو أن مخرج الفيلم «كريستوفر نولن» عرف هذا التحدى الخطير إلا أنه قبل به بجدارة، ليصنع عملًا فنيًا قد يكون الأصعب بميزانية 100 مليون دولار.

بداية، حدد «نولن» هدفه المباشر من الفيلم إذ استوعب أنه بالأساس نظرة خاطفة داخل عقل «أوبنهايمر»، وليس دراما تقليدية حول الأحداث التي شارك فيها، والتي -غالبًا- ما كانت خلف الكاميرا، على بعد بوصات من العيون الثاقبة للممثل «كيليان مورفي»، الذي لعب دور «أوبنهايمر»، وهو ما يفسر عدم رؤية أى مشهد لقصف مدينتى «هيروشيما، وناجازاكى» اليابانيتين، لأن «أوبنهايمر» لم يره أيضًا. 

ولكن، كانت صور الخسائر النفسية التي لاحقت «أوبنهايمر» للحظات فى بعض المشاهد، هى ما ركز عليها «نولن»، والتي ظهرت بوضوح من خلال تصوير الآثار المروعة للقنبلة فى واحدة من هلوسات «أوبنهايمر» التي يسببها الإجهاد، مثلما رأى اللحم يذوب من جسد امرأة، قبل أن يخطو فوق جثة متفحمة.

كما صور  الفيلم -أيضًا- الهدوء الواضح فى هيئة العالم الفيزيائى، بينما كان عقله لا يتوقف عن العمل، والتي ترجمت من خلال صور مختلفة لذرات محترقة، وإشارات كهربائية وكهرومغناطيسية.

 السيناريو والحوار

3 ساعات قد تكون مدة طويلة توحى للحظات الأولى بالملل الشديد، وخاصة أن طابع الحوار هو الغالب أكثر من الحركة، إلا أن شدة تركيز الحوار على النقاط المطلوبة، والحديث المثقف بين أبطاله، والرسائل التي قيلت فيما وراء الكلام بألفاظ منمقة، إلى جانب قصر مدة المشاهد، لم يترك لحظة لالتقاط الأنفاس نظرًا لتواصل الوتيرة السريعة والتجزئة السردية.

 الموسيقى والمؤثرات الصوتية

لم تكن الخلفية الموسيقية للمشاهد مجرد أصوات عابرة، بل استطاعت الموسيقى أن تنضم لطاقم عمل التمثيل، حيث كانت المحرك الرئيسى للمشاعر بين الحماس والقلق، مرورًا بلحظات الانتظار بشغف وحتى الصمت بتوتر. 

حتى لحظات الصمت التام عند اختبار القنبلة التي أجبرتنا على حبس الأنفاس دون شعور، ليرتعد جميع من كان فى القاعة بعد أكثر من دقيقتين مكتملتين من الصمت وصوت أنفاس الممثل الحذرة فى لحظة الإشعاع الضوئى للقنبلة، ومن ثم دون مقدمات صوت انفجار جليًا يهز القاعة لدرجة شككت جميع الحاضرين إن كان المخرج قد استخدم قنبلة ذرية حقيقية.

ورغم المؤثرات الصوتية، كان أبرز ما استلهم الأرواح، ونقلتنا من المقاعد حرفيا داخل هذا العمل تلك السيمفونية التي لم يرتبط اسمها بأى مشهد كمثل قرنائها، (?Can you hear the Music)، (هل تستطيع سماع الموسيقى؟)، بالطبع كانت الإجابة فى هذه اللحظة معروفة أن المشاعر هى ما استجابت لسماعها، وجعلت منا أفرادًا مشاركين فى هذه الحقبة. 

 وليمة دسمة من الممثلين

بعيدًا عن بطل العمل «كيليان مورفى» الذي أبدع فى هذا الدور، وكان جاهزًا للمهمة أمام الكاميرا؛ فوجئنا بمن جسد دور رئيس هيئة الطاقة الذرية الأمريكية «لويس شتراوس»، وهو الممثل «روبرت داونى جونيور»، الذي حصل على الدور المنتظر منذ سنوات، بعد سلسلة أدواره مع «مارفل» كبطل خارق، ليصبح تذكيرًا نابضًا بالحياة لقدراته كممثل، وخاصة أنه تمت محاصرته فى بعض المشاهد بالأبيض والأسود إلا أنه استطاع بجدارة إظهار الانفعالات وردود الفعل، وكيف قدم الفكرة العبقرية  بأن «القوة تكمن فى البقاء فى الظلام (التخفى) وليس الوضوح.

اختيارات «نولن» للممثلين تلك المرة -حتى أصحاب الأدوار الثانوية- حملت العديد من الأسماء اللامعة، مثل «مات دامون، إيميلى بلانت، ألدن إرينيرك، جايسون كلارك، رامى مالك»، إلا أن هذه الميزة لها وجه آخر، وهو الكم غير العادى من الشخصيات التي ظهرت والتي جعلتنا نحاول التذكر من هى الشخصية التي كان يجسدها هذا الممثل!!  

فى النهاية، تركنا «كريستوفر نولن» أمام تساؤل محير، كيف نجح فى جمع المشاهدين على حب فيلم عن الرجل الأكثر إثارة للجدل حول العالم، فى عمل فنى من الدرجة الأولى عن العبقرية، والغطرسة، والخطأ الفردى والجماعى. 

ببساطة أدق ما يمكن أن يُقال، هو الفيلم الصحيح عن قصة حياة الشخص الخطأ.

تم نسخ الرابط