بهجة العاشق
يغمض عينيه أبى في انتظار لمسته الرحيمة، بضع قطرات صافية منه تحتوى على مواد ثمينة مكثفة، ربما كان معجونا من النعناع قادما من مروجه الخُضر، بأعواده بهية الرائحة.. ربما حمله التجار معهم منذ زمن بعيد من بلاد بعيدة.
رأيته وهو يُربت على جبينه، يُملس على زيته العطرى ثم تأتى أمى بمنديل محلاوى كبير، مليئ بالمربعات الواسعة، تعقده حول رأسه، ضاغطة على جبينه بأطرافه فتعقدها، وفى سُرة المنديل ثَمَ مفتاح نحاسى كبير، لعله مفتاح الدار.
تلف المفتاح فيستدير المنديل وينعقد ويطلب أبى أن تضغط أكثر، يستزيدها من ضغط المفتاح، وهو هناك كامن في موضعه، حاملا أحمال النعناع، وإحساس الحرير، والحروف المعقودة الغريبة التي تشبه الفيونكات الملونة، وسحرا غريبا لمواده الطيَّارة، لعلها زيت الليمون أو نكهة البرتقال.
يُغمض أبى عينيه، ويذهب في رحلته إلى بلاد لا نعرفها، يأخذه سبات عميق فتقترب منه أمى، وتهمس في محارة أذنه:
- شفت بلادا غير البلاد؟
فتتحرك شفتا أبى، وهو في سباته العظيم
- ودنيا غير الدنيا
تقول له بصوت خفيض
- احكِ لى عن ما شفته هناك
يتمتم أبى ببضع كلمات مؤنسات ثم يُعرﱢب عما رآه بفصاحة
- شفتُ أفيالا ضخاما، لها أسنان من عاج، وخراطيم كالأيدى، تمدها إلى يدى فتلتقط ما تهوى، وترفعه عاليا ثم تنزل ثانية فتمس يدى، وكأنها تقـﺑﱢلها..
شفتُ سجادا بأحجام مهولة، ينسدل من السماء إلى الأرض، مشغولا ومطرزا بخيوط من حرير، بأزهار عديدة، بأشكال وأنواع، بعضهن ذوات بتلات، ومورقات، وبنفسجية، ونارية، وشاهقة البياض.
فتقول أمى في دهشة: نارية؟!
يحرك أبى رأسه قليلا، وتهدأ حركة يد أمى على المفتاح النحاسي، وعلى لفات المنديل فيهمس أبى:
- كأنه الصيف قادم بجهنميات مايو وقت يتفتح كل شيء للحب والعناق، ويكون الأولاد في عز الامتحانات!
تبتسم أمى: مايو الحار برائحة العُود، وقهوتك بطعم العنبر، وارتشافك بعضها في صحن الفنجان المقلوب
- وأنتِ تقرأين المرسوم فيه، وتحكين الأعاجيب!، عند أذن الفنجان بُشرى، نجاحات، حاجة تفرَّح وفى المنتصف نقطة سفر.
تضحكين "رايح فين يا ترى يا أبوالعيال"، وتنظرين إلى الأرض، تشيرين إلى فردتى" المداس الشتوى الصوف تتلامسان بل إحداهما على الأخرى، تقولين:
- على سفر يا سيد البيت.. على سفر
يبتسم.. لكنك معى وفى قلبى.. صورتك لا تفارقنى
فتقول: والبلاد التي رحت فيها عامرة بالشِيلان التي تحبها؟
- شيلان من صوف وأخرى من حرير منسوج بأساطير، رأيت فيها أسدا ماسكا سيفا، فقلت في نفسى هل تعرف هذه البلاد البعيدة "أبوزيد الهلالى"، هل سمعوا ما كان بينه وبين الزناتى خليفة من معارك وانتصارات، هل يعرفون كيف يدقون وشم أسده الأخضر على منتصف الذراع وعلى الفودين ليظل ممسكا سيفه مشهرا فروسيته فيهابه الخَلْق أينما ذهب.
- لكننى أحب عليك شال الغزالة، ترمح بسيقانها من أول الشال إلى آخره، وأنت تحاول أن تصيدها، وهى تجرى من بين يديك، وبين جنبات صدرك، ترمح فلا تستطيع أن تمسكها.
- أنتِ الغزالة.. أنتِ
تضحك أمى ضحكة صافية عميقة: وفى المولد كنت تذكرنى أم تذكرها؟ وأنت تنشد، وتهتز طربا لسلطان المداحين، وسط الرجال أراك من شباكى كالشهاب، اللاسة معقودة على جبينك، وجلبابك الأزرق كالبحر يضم الأصداف واللآلئ، تتحرك يمينا ويسارا فيتبعك الآخرون وأنت تنشد وسط الحلقة.
- أنشدُ لسلطان العاشقين ابن الفارض، سمعتِ به؟
- أعرفه من تسجيلات ياسين التهامى
... يُغمض أبى عينيه ويُنشد:
"عذﱢب بما شئت غير البعُد عنك تجد
أو في محبﱟ، بما يرضيك مبتهج
وخذ بقية ما أبقيت من رمق
لا خير في الحب إن أبقى على المُهج"
ملأ النور وجه أمى، وابتسمت وهى تعيد عصر المنديل على جبينه
- اشتقت يا حاج.. هذه علامات الشوق، عامان مضيا، والرسوم على دارنا زاهية كما هي .. قلت لك نكتفى برسمة العبَّارة والطيارة، فلم يعد أحد يذهب إلى موطنها الغالى بجمل، فقلت ورأسك ألف سيف: ذهب أحد أجدادى بجمل، ولا بد أن أخـﻠﱢد رحلته وذكراه فرسمنا الجمل والعبَّارة والطيارة بالترتيب، فاكر زجاجات ماء زمزم التي أحضرتها معك، شفت أم عِز قامت من وعكتها لتعجن وتخبز العيش المرحرح، بعد شربة منها، ودعت لنا
مَدَّ أبى يده ملتمسا أطراف منديله المحلاوى، وقد خففت أمى من ضغط المفتاح ولف أطراف المنديل، وعاد يقول: شدﱢى علىَّ، ولا تخففى الشوق ففيه شفائى.
تقول أمى: أفك المنديل، وأزيدك نفحة منه.
فيهمس: قطرة منه تكفى، قطرة من بحره تصل العاشق بالمعشوق ثم يعود للإنشاد:
"عمره واصطباره في انتقاص
وجَوَاه ووجدى في ازدياد
في قرى مصر جسمه والأصحاب
شآما والقلب في أجياد
إن تعد وقفة فويق الصخيرات
رواحا سعدت بعد بعاد"
.... سبح سبحة في ملكوته البعيد، أخذته سِنة من نعاس، ولم يكن ينام لليالٍ كما تقول أمى وربما ارتحل إلى مكان أشواقه الأثير، ربما قابل أباه وجده، لامسوا بدن الجمل المحبوب، وساروا في الموكب ثم تعلقوا بأستارها هناك، رأوا جبل أُحد، وهمسوا: "يحبنا ونحبه" وفى "البقيع" يفتحون أكياسهم، ويبذرون القمح للحمام وللطيور من كل صنف ولون فيلتقطوه، لُقا الأحبة يا ابنتى نور على نور، وكأنى شفته في بهجة العاشق، ثم تقول: لكنه الآن يأكل أرزه مع الملائكة فأنظر إلى فراشه الخالى، إلى المفتاح النحاسى، وإلى جواره منديله المحلاوى بمربعاته الواسعة، أرتحل في كل مربع، في كل واحد أجد رسما لبلد، خريطة صغيرة، كان يريد أبى أن يتبع خطوطها، مربع كُتب عليه "فاس"، ومربع آخر كُتب عليه "وهران"، وآخر كتب عليه ""بلاد السند"، وبجانبه مربع لبلاد الهند، ترى هل كان أبى ينوى زيارة هذه البلدان جميعا؟، ومربعات المنديل خرائطه الخاصة أم أن عقصة المنديل بالمفتاح النحاسى كانت تُريه هذه البلاد، وتلك الأعاجيب أم هو الزيت العطرى وسحره بمواده الثمينة المكثفة كان يفتح آفاقا ممتدة تبدأ من أحلامه، ومتاهات خيالاته، ورحلات أفكاره التي لو كُتبت بالإبر على آماق البصر لم يكفها، فهى دليل من دلائل النعمة والعرفان. ... أمد يدى دائما إلى هذه القارورة الصغيرة الدقيقة، شفافة كالبللورة عليها حروف مشبوكة عجيبة كالوردات لها سحر، تعالج كل الأسقام، تُطﱢيب وتُذﻫﱢب أوجاع الجسم، زيتها العطرى النفاذ يتداوى به عشاق الرحلة والارتحال، وكان أبى نفسه مرسوما على القاروة الصغيرة، بجبينه الواسع، وابتسامته المطمئنة، كانت صورته واضحة، وقد رفع فأسه على كتفه، في قمة عنفوانه، وبهاء طلعته، فتيَّا ذا بأس وهِمَّة وكان الناس يحملون صورته من بلاد السند والهند، ومن سنغافورة إلى أجياد.
وكنت أبدأ رحلتى مثله بقطرات من الزيت العطرىّ على جبينى فإذا بى أرتحل إلى بلدان وعوالم سحر انفتحت لى وحدى، أنا التي آمنت بالحلم والإنشاد.



