الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

أبوعطوة.. قرية مصرية صغيرة فتح لها التاريخ أبوابه في أكتوبر 73

بوابة روز اليوسف

لغة «الحرب» تختلف عن لغة «السلام»

في الحرب يتبادل الناس القذائف ويقتسمون الدمار.. أما في السلم فهناك مجال أفضل للفكر والمنطق.. وللحوار.

ولأن الإنسان لا يمكن أن يقتلع جذوره.. فإن الماضي يظل دوما صفحة عزيزة، نعيد مطالعتها، نستوعب دروسها.. لندير حوارا داخليا بين الماضي والحاضر حتي نتبين الطريق.. إلي المستقبل؟!

 

وحرب أكتوبر 73 واحدة من الصفحات المليئة بالمواقف والدروس والإنجازات.

 

تعالوا نقرأ سطرا أو جملة واحدة من هذه الصفحة الخالدة، حفرته بدماء شهدائها قرية مصرية صغيرة!

 

علي بعد ثلاثة كيلومترات من مدينة «الإسماعيلية» تقع قرية صغيرة هادئة.. هذه القرية اسمها قرية «أبوعطوة». تعدادها لا يتعدي بضعةآلاف من البشر. سكانها يعملون بالزراعة أو بالحرف البسيطة.

 

كلهم بسطاء طيبون يحبون السلام وينعمون بالهدوء، ولكن.. عندما يهدد حياتهم معقد، فإنهم يتحولون فورا إل يكتلة من الصلابة والعناد.. ينصرف الفلاح الطيب البسيط عن حقل «السمسم» أو «الفول السوداني» أو «المانجو» أو «البطيخ» لكي يزرع شيئا أهم وأبقي يزرع البطولة في أرض العناد.

 

وهكذا دخلت قرية «أبوعطوة» التاريخ.

 

جملة بسيطة

حدد الخبراء العسكريون عمليات حرب أكتوبر 1973 في خمس مراحل أساسية، تقول كتب الحروب العسكرية عن المرحلة الخامسة: كان العدو يهدف إلي التسلل وخلق نوع من التواجد غرب القناة لاستغلالها إعلاميا لترفع بها إسرائيل روح أفرادها وشعبها معنويا.

 

وتكمل هذه الكتب مسيرة الأحداث.. لكننا نتوقف طويلا عند كلمة.. إن هذه المحاولة باءت بالفشل.

 

كيف يمكن لجيش مزود بأحدث الأسلحة الأمريكية المتطورة أن يفشل في غزو مدينة معظم أهلها أجبروا علي الهجر منها..

 

ولم يبق بها إلا بضعة أفراد من المقاومة الشعبية وعدد قليل من قوات الصاعقة؟

 

ذلك هو السؤال.. وهذه هي الإجابة.

 

 

حب متبادل

 

عندما صدر الأمر بتهجير مدن القناة بعد حرب 67 استسلم أبناء هذه المدن للقرار مضطرين، أما الفلاحون فقد رفضوا بعناد وإصرار أن يتركوا أرضهم.. أن الفلاح المصري يعتبر الأرض حياته وتخليه عنها يساوي الموت أو العدم.. وإزاء هذا الإصرار قرر المسؤولون أن يتم تهجير الأطفال إلي حيث توجد المدارس، ومع أطفال كل عائلة عدد من النساء. لكي يقمن برعايتهم.. وهكذا سارت الحياة، نصف العائلة يستعد للمستقبل في مدارس مدن التهجير، ونصفها الآخر يتشبث بالماضي العريق، بجذوره الممتدة عبر الزمن السحيق.

 

المدهش - وهذا من التقارير الرسمية - أن المحصول زاد كثيرا في هذه الأرض.. كان الفلاح تفرغ لأحب ما في هذه الدنيا إلي قلبه.. لأرض لم يعد يشغله عنها شيء آخر.. فأعطته بسخاد لترد له الجميل.

 

المعجزة:

- هل تؤمنين بالمعجزات..؟!

سألني..

وقبل أن أجيب، استطرد قائلا:

ما حدث في أكتوبر 73 بقرية أو عطوة يعتبر معجزة، قولي هذا الكلام علي مسؤوليتي. ولكن من هو؟ أنه «غريب خضيري» - 50 سنة - الشهير «بغريب تومي».

 

أسماء الناس هذا الاسم لأنه كان لايفارق مدفعه الرشاش «التوميجان»، رحلة طويلة توازي سنوات وعيه بالحياة - قضاها بصحبة هذا المدفع.. رحلة نعود بنا إلي ما قبل الثورة.. إلي أواخر الأربعينيات.. وأوائل الخمسينيات.

 

حينما انصرفت باقة من الرجال عن كل الصراعات السياسية التي اشتعلت في مصر واستدارت إلي العدو الأول.. العدو الحقيقي.. الاستعمار الإنجليزي لتكيل له وتستأصل وجوده من علي أرض مصر.

 

وغريب تومي كان واحد من هؤلاء الرجال الذين نادوا «مصر للمصريين».. قالها مرات ومرات.. وظل يقولها حتي أكتوبر  73  قالها في قرية أبوعطوة.

 

معدن الرجال:

 

لكي نعرف ما حدث في «أبوعطوة» لابد أن نتعرف أولا علي نوعية الرجال الذين اشتركوا في العملية.. عينه من ذلك الذهب الذي يلمع في قلوب البسطاء من أبناء مصر، لكن أحدا لا يراه رلا وقت الشدائد.. من هنا كان اهتمامي بحكاية «غريب تومي» ولد عام 1932 بالإسماعيلية، وكان والده يعمل مراقبا بشركة قناة السويس.. الحياة هادئة، ناعمة.. في ظل أجانب عثروا علي كنز غمضوا يلقون بالفتات لأصحاب الكنز حتي يخرسوهم عن المطالبة به جميعا.. الولد يدخل مدرسة «سان فانسان» كي يتعلم يري نفسه وحيدا وسط أبناء الخواجات.. غريبا في بلده وفوق أرض أجداده.. طعم الحياة هنا يختلف.. يصبح له مذاق الحنظل.. فالمواجهة تختلف كل الاختلاف عن مجرد السمع.. ويموت الأب، ويصبح الولد الصغير مسؤولا عن إعالة أسرته.. كان القدر يريد أن يضيف إلي نضجه المعنوي نضجا آخر ماديا.. ويخرج الولد الذي أصبح شابا من المدرسة ليبحث عن عمل، فلا يجد أمامه إلا معسكرات الإنجليز يلتحق بالعمل كمراقب.. يتعلم الإنجليزية ويتحدثها بطلاقة.. لكن شيئا بداخله يتحرك.. ينفص عليه حياته.. أسئلة كثيرة لا يجد إجابة عليها.. وتأتيه الإجابات علي شكل أعمال حاسمة.. أعمال المقاومة الشعبية، فيتحول إلي فدائى، يساهم بماله ووقته وأمنه وراحته، من أجل أن تعود الأرض والكنز والخير إلي صاحبها.. إلي مصر.. وتعود فعلا.. وتصبح مصر للمصريين.

 

الطريق الطويل:

هم رفقاء طريق.. كانوا رفقاء سلاح، ونضال، وخرجوا من التجربة بصداقة عمر.

 

-  نسيم رجب رجب» - 46 سنة - تاجر بالإسماعيلية.. يقول لي حكايتي تشبه حكاية «غريب» فمنذ أن وعيت علي الحياة ونحن معا، قاومنا الاستعمار الإنجليزي في الإسماعيلية معا.. كنا نسرق الأسلحة والذخائر من المعسكرات الإنجليزية لنسلمها للفدائيين، كنا نضع أرواحنا علي كفوفنا ولا نفكر في شيء إلا في مصر.. أحببناها ملء القلوب، فلم نشعر بالزمن يمضي ويمر.. ونلتفت حولنا فلا نجد زوجة ولا طفل.. تزوجنا كبارا، والآن أولادنا صغار، لكنهم علي الأقل لن يعانوا ما عانينا منه.. إنهم يعرفون طريقهم جيدا.

 

أحب الاستماع إلي ذكريات البطولة، أمجاد اللحظة النادرة.. عندما يكتشف الإنسان نفسه، عندما يعرف بالضبط ماذا يريد، فيقرر بلا تردد.. ويتأهب للاستشهاد.

 

ومع «غريب تومي» و«نسيم رجب» كنت أتناول وجبة دسمة شهية من الذكريات.. اتسابق كل منهما ليدعوني إلي رحيق ذكرياته التي لن تنسي أبداً.

 

«عندما صدرت أوامر التهجير لم نترك  الإسماعيلية» أبداً. كان لنا دورنا طوال حرب الاستنزاف وأثناء حرب أكتوبر.. وعندما بدأ العدو يتسلل إلي الضفة الغربية للقنال انتقلنا بسرعة إلي قرية «أبوعطوة» فهذه القرية تعتبر خط الدفاع الأول بالنسبة للإسماعيلية.. واقتراب العدو من مشارف الإسماعيلية.. أصبحت ترعة الإسماعيلية هي التي تفصله عنا. يعني أقل من ثمانية أمتار.. ولكنه وقف خائفا غير قادر علي المزيد من الحركة.

 

رجالة يعرفون تاريخ الصلابة والعناد الذي نفخر به المدينة منذ نشأتها.. يعلمون قطعا أن وراء الهدوء والظلام تكمن تعابين المقاومة.. علي أتم استعداد لإعطاء لدغة الموت لمن يقترب من مدينتهم.

 

وتنهار قدرة بعضنا علي الاحتمال والصبر.. ويتبدلون السباب والشتائم - عبر ترعة الإسماعيلية - مع رجال العدو المغرورين.. وذات يوم، ما أن انتهينا من أداء فريضة العصر حتي فوجئنا بثلاث دبابات من العدو تتقدم نحو قرية «أبوعطوة» في محاولة لاستكشاف إمكانية غزو «الإسماعيلية» وكان الهدف «مصنع الترانزستور» بالمدينة.

 

 

 

كمائن في كل مكان

 

علي طول الطريق، وفي كل المواضع التي ينتظر مرور العدو منها كانت تنتشر كمائن الصاعقة والمقاومة. وهكذا يحكي لي «محمد البيك» - 29 سنة - الشهير «بمحمد حلاوة» التنظيم والتعاون كان رائعا بين أفراد المقاومة الشعبية والفرقة الرابعة بالجيش الثاني.. قسمنا أنفسنا إلي ثمان قطاعات، حددنا الأهداف الحربية لنقوم بحراستها ليل نهار.

 

فناطيس المياه، محطة المجاري، محطة الكهرباء، المحولات الكهربائية، بعض المنشآت الصناعية.. كل هذه الأماكن كانت تربض حولها أسود تتعطيش لحظة العطاء بلا حدود.

 

«محمد حلاوة» صورة للعديد من شباب الإسماعيلية.. حمل السلاح وهو في السابعة عشرة من عمره، يومها كان طالبا بمدرسة الإسماعيلية.. عندما هوجمت المدينة بقسوة في 67، وتهاوت البيوت ومعها الأمن والراحة.. لمست في عيون الكبار دمعة أسي ومضت الألسنة تحكي عن الماضي القريب، سمع «محمد» عن الماضي لكنه لم ينعته، واختار أن تكون له أيضا كأبيه وأعمامه وأخواله وكل الكبار - قصة كفاح - رفض أن يهاجر من مدينته.. وحمل السلاح.

 

في مكمنه داخل الإسماعيلية، وعيناه كعيني صقر تشعان بالعزيمة والرغبة في الحياة.. كان مستعدا للاستشهاد.. لكن الرجال الأشداء الذين فدوا حياته بمقاومتهم الباسلة في «أبوعطوة» كتبوا «لمحمد» وللكثيرين غيره.. الحياة.

 

بطولة الفلاحين:

 

حينما يكون لشعب جذوره العريقة في الأرض، تصبح محاولات اقتلاعه منها كالعبث.. وفعلا تحولت محاولات العدو الإسرائيلي لغزو «الإسماعيلية» إلي شيء يشبه العبث.

 

جمعوا الفلاحين من الحقول، وربطوهم في «الجنازير» أمام وفوق الدبابات ومضوا يتجولون بهم ليثيروا الرعب في قلوب المقاتلين.. وجاءت النتيجة عكسية تماما.. رفع الفلاح رأسه التي كانت تحطب الأرض.. مسح حبات العرق الشريف من فوق جبهته.. استطالت قامته وامتدت في الأفق حتي كادت تلامس السماء.. تحول إلي عملاق يواجه التحدي. أما أقدامه فقد غاصت في أرض أكثر وأكثر.. ولمست قلب الأرض.. عانقته.. وامتدت يد الفلاح المصري إلي جسور المياه، حطمتها لتتسرب المياه من ترعة الإسماعيلية، وتنتشر في الأرض الطينية، فتحولها إلي برك.. إلي أرض رخوة.. تعيق حركة الدبابات وتعطل مسيرة الأعداء.. وكان لهذه العملية أكبر الأثر فعلا..

 

تحولت الأرض المصرية إلي فخ من الأوحال غاصت فيه دبابات العدو وارتبكت ثم واجهت مصيرها المحتوم.

 

كما يحدث دائما ينتهي غرور القوة بالفشل السحيق.. كان المصير المحتوم للدبابات الثلاث هو مجموعة من قذائف أر - بي - جي حولتها إلي رماد في لحظات قليلة.. هذه الدبابات نفسها صنعت سدا منيا عاق تقدم الدبابات الأخري التي دفع بها العدو في محاولة يائسة لغزو المدينة.

 

ولم يبق أمامه إلا أن يتقهقر خائبا ومعترفا بالهزيمة.. ولكي تسطر كتب التاريخ عبارتها التي تقول: راح العدو يضغط بجنون نحو مدينة الإسماعيلية في محاولة لغزوها.. ولكنه فشل.

 

الدبابات الصريعة تتحول إلي فرجة أمام أهالي الإسماعيلية الذين اندفعوا ليشهدوا المعجزة.. وتثمر مجموعة من شباب المدينة عن سواعدها تحت قيادة فؤاد العشري وكيل جهاز التعمير «وعبده ميدي» رئيس جامعة «فراعنة التعمير» لكي يحولوا المكان إلي متحف، كان هذا المكان من قبل مقلب زبالة لمحافظة الإسماعيلية، وكانت الخنازير ترتع فيه.. وها هو ذا قد تحول إلي منتزه جميل وزرعت الأرض المحيطة به، ووضعت الدبابات فوق منصة، وأقام الفنان «محمد نادي» مسلة مزخرفة، ورسم لوحة جميلة تصدر المكان، وسلطت عليهم جميعا الكشافات لتخلد ذكري معركة البطولة والصمود.

 

وتبقي كلمة: لماذا لا نسلط أضواء اهتمامنا أيضا علي القرية نفسها، فنحولها إلي قرية نموذجية ونلبي رغبات أهلها؟! إن هذا أقل ما يمكن أن نقدمه لقرية واجه رجالها البسطاء جيشها سابقا، وحموا بصدورهم مدينة الإسماعيلية، وبذلوا دماءهم فداء مصر كلها.

 

إن هذا أقل ما يمكن أن نقدمه لقرية صغيرة هادئة كتبت بدماء أبنائها سطرا في تاريخ بلادنا.

 

عدد صباح الخير 1188

تم نسخ الرابط