د. أميرة جميل الطلياوي تكتب: غذاؤنا.. الداء والدواء
جلست علي احدي الطاولات القريبة من طاولتي، لفتت نظري أنه بالرغم من سنها والذي غالبا قد تجاوز الستين عاما او يزيد، إلا انها لم تخل من بهاءٍ؛ قدها معتدلٍ ورشيق، ملابسها أنيقة، تسريحة شعرها مناسبة لوجهها وسنها، تضع بعض المساحيق البسيطة والإكسسوارات الراقية التي تعزز من جمالها، طلبت عشاءها لذلك اليوم وتناولته بالشوكة والسكين بروية من يستمتع بكل قضمه، غلبني الفضول فنظرت الى طعامها فوجدته طبقاً معتدلا من حيث الكم ومتوازناً من حيث المكونات، لا عجب اذن في حال هذه السيدة المسنة التي التقيتها في احدي المدن الأوروبية والتي لا تعبر هيئتها تلك عن نفسها وحسب ولكن عن ثقافتها وثقافة مجتمعها في الغذاء وفن تناول الطعام.
فالغذاء، أيها القارئ العزيز، هو أكثر من كونه وقوداً للجسد أو ضرورة للحياة بل، هو الداء والدواء كما وصفه أبوقراط أبوالطب قديماً، وهو أفضل استثمار يمكنك ان تستثمره لنفسك ولمن تحب، وهو ليس عادة يومية نمارسها للبقاء علي قيد الحياة فحسب ولكنه فنٌ ادرك الناس أهميته عبر العصور فجعلوا له تقاليد وطقوس وجعلوه في قلب ممارستهم الاجتماعية، يجتمعوا عليه قدر المستطاع ويتفننون في صناعته وتزيينه وابتكار أدواته ليصبح الغذاء هو في قلب الحياة الثقافية للشعوب، وبمقدار ما يولونة من اهتمام، بمقدار ما ينعكس ذلك علي صحتهم الجسدية والنفسية مما ينعكس بدوره علي انتاجيتهم واسهامهم في العطاء البشري.
اهدف في هذا المقال ان اتناول الغذاء ليس فقط من منظور طبي صحي لكن أيضا من منظور سلوكي وما يحيط به من عادات قد تعزز من فائدته او تنتقص منها فنحن ما نأكل وكيف نأكل ومتي نأكل ومع من نأكل.
فلنبدأ بالجانب الطبي: فمن المتفق عليه ان الانسان في غير صومٍ في حاجه الي ثلاث وجبات يومياً، كل وجبة تقسم الي أربع، ربعين من كل وجبة – أي النصف- يحتلهما الخضراوات المطبوخة والطازجة والفواكه، وربعٌ مخصص للنشويات خاصة الصحية منها مثل الأرز والخبز البلدي العامر بالردة والبطاطس والقمح المبشور الذي يصنع المصريون منة البليلة والعاشوراء، والفريك والذي يمثل أحد أفضل مصادر النشويات لاحتوائه علي الكثير من الألياف والفيتامينات والقليل من النشويات بالمقارنة بالقمح العادي، وهكذا تجد ان الطبيعة المصرية والمطبخ المصري غنيٌ بما لذ وصح من النشويات على أن نأكل منها قدر معتدل، أما اذا أردنا إضافة بعض النشويات الصحية الوافدة فسنجد الشوفان والكينوا، وانا تعمدت عدم ذكر المكرونة لأنها كثيرة السعرات وقليلة الفائدة والأفضل تقليلها أو تجنبها، اما الربع الأخير فهو للبروتينات من طيور ولحوم وبقوليات وبيض وأجبان، والبقوليات هي ملكة البروتينات المتوجة لما تحتويه من ألياف وفيتامينات وما ينقصها من دهون مشبعة قد تضر بالقلب والجيب معاً، الجبنة القريش هي مصدر عظيم من مصادر البروتين والكالسيوم مما يجعلها بمثابة أحد الأطعمة الخارقة، وبالقليل من الإضافات وتعديل القوام يمكن ان تصبح وجبة متكاملة، أما عن الدهون فمن المعروف ان زيت الزيتون والزبدة الطبيعية هم احدي أفضل مصادر الدهون، وان السمن المصنع والزيوت المصنعة هم احد اسوأهم وأضرهم، ويكتفي بالقليل من الدهون الصحية شأنها في ذلك شأن السكريات والتي كلما تجنبناها كان افضل لصحتنا.
هذا من حيث النسب، أما من حيث الكم فيكفينا في كل وجبة ملء طبق متوسط نقسمه اربعاً ونملأه بما ذكرناه سابقاً، وعلينا أن ندرك أن البطن هي وعاء مطاطي، يتسع أو ينكمش بحسب ما تتعود انت ان تملأها، فإذا اعتدت أن تملأها بالكثير من الطعام اتسعت وأما اذا ملأتها بالمعقول انكمشت بعد عدة أيام فقط وقل احتياجك وصرت تحس بالشبع بشكل أسرع وهذا الكلام يسري أيضا علي الاستطعام، فإذا كنت معتادا علي الطعام الدسم أو كثير الملح أو السكر فبعد عدة أيام من الاعتدال تتغير حاسة الاستطعام عندك لتتكيف علي الطعم الجديد فلا تشعر بعدها بالغرابة.
الماء لا يقل في أهميته عن الغذاء فنحن بحاجة الى لترين من الماء سواء شعرنا بالعطش ام لم نشعر وسواء أحببنا شربه أم لا، فهو المكون الرئيسي لأجسامنا وبدونه نعتل بعلل مختلفة ويضطرب الهضم والإخراج وتتكون الحصوات وتجف البشرة وغيرها من العلل، ولذا فإن شرب الماء يجب ان يكون عادةً يومية، يقسم فيه علي مدار اليوم ويقرن بعادات اخري مثل الطعام او الصلاة وغيرها من العادات التي نقوم بها بصفة منتظمة.
وهنا أريد ان اضيف بعد آخر للطعام، وهو البعد الاجتماعي، فالطعام لا يغذي فقط ابداننا لكنه يغذي أيضا ارواحنا بما يقدمه لنا من فرص على الاجتماع بمن نحب سوآءاً كانوا أقارب او أصدقاء، وعندئذ يتخلل الأكل بعض الحديث والضحكات التي يملآن النفوس بالمسرة ويسمحان ببعض الوقت بين القضمة والأخرى فتمتلئ البطن على مهل مما يسمح بالشبع وسهولة الهضم، فاذا اضفنا استخدام أدوات الطعام كالشوكة والسكين اعطينا معدتنا المزيد من الوقت للإحساس بالشبع دون "لهط" كميات مهولة من الطعام في اقل وقت ممكن، والاجتماع علي الطعام يتطلب حسن الاعداد والاهتمام بعرضه وكلها أمور تسهم في جودته ومن ثم جودة الحياة.
ادرك تماما ان كل ما ذكرت في فنون الطعام وآدابه هي من الأمور الصعبة في زماننا الحالي الذي يجعل من الوجبات السريعة أكثر سهولة واتساقاً مع نمط الحياة ولكنها ان اشبعت البطون لم تنفع الأجساد ولا الأرواح وكانت أقرب الي السموم منها الي الغذاء، واليوم وقد طالت الأعمار وأصبح الكثيرين منا يتوقع ان يبلغ السبعين والثمانين، فالأحرى بنا ان نستثمر في صحتنا علي المدي الطويل لنحيا حياة مديدة بصحة موفورة.
د. أميرة جميل الطلياوي - استشاري طب المسنين وعلوم الأعمار



