السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

جواهرجى السعادة

صورة ارشيفية
صورة ارشيفية

تظل حية دموع الشموع على لحمها الأبيض الساخن الممتلئ بالطراوة والليونة، أمد أصبعى ألامس اندياح دمها الأبيض المتلهب على صحن الفنجان الصغير.

يفاجئنى ملمسها.. ملمس الصلصال، فتملأ الفراغ بحضورها الذي يمكن الآن أن يتشكل كما أريد، آخذ بطرف الملعقة المعدنية الصغيرة قطعة متلهبة ثم أذروها داخل محيط دائرة الخاتم الواسع، أضعها ثم أتذكر ما تقوله لى دائما: "ارتدي الخاتم بشمعه وهو ساخن، يتسق عليك، يصير كما تريدين تماما، لا حاجة بك إلى صائغ، أنت صائغ نفسك، أنت جواهرجى وجودك، أنت روح عزمك".

 

أميل الشمعة إلى النار، وأحتسب ما سأفقده منها، وما ستفقده هي من لحمها الأبيض الشاهق الحي، تدمع، وتنحدر دموعها على سطح صحن الفنجان، تبذل الشمعة نفسها بسخاء في قلب الصحن، لا تشتكى شيئا بينما هي تحترق، تقول: "هي تحترق لكنها دائما تضئ حتى عندما تنطفئ يصبح لحمها جدار خاتمك المنيع، لا يسقط منك أبدا... أترين صار فصه أكثر تماسكا.. انظرى" وتمُيل الخاتم الواسع وقد ضاق قليلا، فأرى تلة الشمع وهى تنداح، تُسرع وتقدم الخاتم لى، أرتديه بشمعه الدافئ، يتشكل من جديد، كان يمكننا تغيير مصير الخاتم من الخنصر إلى البنصر!

 

كان يمكننا تعديل مقاسه، ومحيط دائرة عالمه ومسار حياته، ننفق الوقت في تحويل دمعات الشمعة إلى أكداس صغيرة طرية وناعمة ثم تأخذها ملتهبة بين أصابعك، وتبدأ في تحقيق أمنياتى بخاتم على مقاسي، على قدر أصبعى.

... كان الفص ثقيلا هذه المرة، فيروزه يلمع، يُضوئ.

تمد يديك بقطنة مبللة بالعطر، وتمسد رأس فص الفيروز، ولدهشتى يترقرق بين يديك بحرا واسعا، بأمواجه وتلاطمها، بثورته، وتريثه عند شاطئ يدىّ.

تبتسم.. "أنت تملكين الآن البحور السبعة، وليس بحرا واحدا"، أبتسم، وأكبش من الموجات جذلى.

تقول: "كل ما ينفع الناس يمكث في الأرض أما الزَبَد فيذهب جفاء"

نفتح معا العلبة القطيفة الحمراء، ونتأمل مقتنياتى من الخواتم التي صارت كلها على قدر أناملى بفضلى فكرتك، الفصوص العديدة الملونة، العقيق بألوانه المختلفة المتدرجة من البرتقالى الزاهى إلى البُنى الغامق وما بينهما من درجات مُذهبة، تلتمع عيناك وتقول: "دائما العقيق يفك الضيق، لا تحزنى أبدا، كل كرب إلى فَرَج، وكُل عُسر إلى يُسر".

أبتسم فتظل شاخصا إلى الخاتم ذي الفص الكريستال.. تقول: "يكبُ ألوانه بين يديك كالماس، يسكبها، أطيافه تمر، تتخلل أناملك مثل ماء من ضوء، انظرى.. يتوهج ثم تهدأ أطياف نوره ثم تختلط معا لتعطى انعكاسات الموج، وتتابع تدفقه، وتوقفه عند ساحل كفيك".

تتراص مقتنياتى من الخواتم في صفوف تتناول إضمامة من ريش، صبغتها يوما باللون الأزرق، تهفهف بأطرافها على رؤوس الفصوص اللوامع، تقول: "حجر النجوم من أجملها، تحبين البُنى الغامق منها، لكن الأزرق له جماله، عتيق قديم قدم البحر، وكما أقول لك دائما: "النخلة عمتنا، والبحر والدنا".

 

يأخذك سحر النجوم، هذه المنمنمات التي تبرق في أديم الحجر الذي يعطى نفسه بسخاء لوميضها، تقول: "إنه يقرﱢب إلى كفيك السماء بنجومها". 

... نضحك، وتظل علبة القطيفة الزرقاء مفتوحة لنضيف إليها كل حين حجرا كريما جديدا، وخاتما نـﻌﱢير مصيره ومسار حياته، ونحوله بدموع الشموع إلى عالم صغير على قدر أناملى…

لم يكن يُعجزنا شيء، لا صلابة معدن، لا يريد أن يتشكل من جديد، ولا دائرة واسعة لا تود أن تقترب حافاتها لتقرﱢب إلىّ السماء، والبحر، والنجوم، لم يكن يعجزنا شيء، ونحن نصنع من دموع الشموع أقدارا جديدة، ومصائر أخرى لخواتم كان من الممكن ألا تكون لنا، أن نعزف عنها أو أن نغض البصر عنها، أن نتركها غريبة في واجهات محال غريبة، بفصوصها الجميلة الشاردة، أو يقول لنا الصائغ "سوف أقص منها" أقتص من لحمها لترضيك، لتناسب أناملك" فنغضب، ننتزع من يده الخواتم، ونقول له: "لا عليك، اتركها لنا، لا تقصها، سنتصرف نحن".

يقول وهو يقدم لى الخاتم: "إذا ضايقك اتساعه، تذكرة أتوبيس ملفوفة تملأ هذا الفراغ بين أصابعك وبينه، أو لفة خيط تلفينها على جداره تملأ هذا الفراغ".

نلتقط أنفاسنا، أنقذنا لحم الخاتم من القص، يتركه بين أيدينا قليلا ثم يضعه على كفة الميزان، ويحسب جراماته، يقول: "فضته نقية، عيار 95، اسألى على الجرام منه أصبح الآن بكم!، المصنعية تضيف إلى سعره، لكنه يستحق".

 

يضعه في كيس من حرير له أشرطة رفيعة مبرومة يعقدها برفق ثم يدفع به إلىّ مؤكدا: "تذكرة أتوبيس أو لفة خيط"!

نبتسم أنا وأنت في اللحظة نفسها، لا نفصح عن سرنا، عن دمعات الشموع التي تخصنا وحدنا، هذه المساحات التي نصنعها، تخصنا وحدنا، ونهيئ لها الفراغ، نشكله كما نريد، لا شيء يعجزنا ، لا شيء ينقصنا، فمعنا السماء، والبحر ، والساحل الممتد من صحن فنجان صغير إلى يدىّ، واليوم وأنا أُقـﻃﱢر على الساحل دمعات شمعتى وعلى الصحن الصغير نفسه، اليوم وأنا أحمل خاتمى الواسع الجديد إلى علبة القطيفة الزرقاء، وقد قطَّرت الشموع دمعاتها، واندفع لحمها الأبيض الحي ساخنا ملتهبا على عقلة أصبعى، على الأنملة الصغيرة التي شهدت أجيالا من خواتم الفضة، وفصوصا من العقيق، واللابس، والفيروز، والنجوم، والكريستال.

 

اليوم وأنا أتأمل وحدى تلالا من الشمع الأبيض المتراكم على جدران الخواتم، التي صنعنا معا عوالمها، رأيناها تتشكل معانى وسعادات، وابتسامات وتأملات، وحدى أُقـﻃﱢر دمع شمعتى وأمزجها بدمعى الذي ظل يتقاطر فيصنع على سطح صحن الفنجان بحرا صغيرا، ثم يلتئم مع جسد قطرات الشمعة، ودموعها المتلهبة، ألتقط الخاتم دافئا على أصبعى لأصنع عالمى، أغرسُ الشمعة نفسها في الصحن بدمعها ودمعى، بلحمها الأبيض الحي ونبضى، أغرسها لتضئ شمعة لأبى.

أحملها مضيئة ، وأظلل عليها بيدى، أحرص عليها نارا لابد ألا تنطفئ.

 

تم نسخ الرابط