في روايته الجديدة ابنة الديكتاتور.. عبيد بين غواية التاريخ وخدعة الحكاية
بعد سلسلة من كتب السيرة الذاتية والتراجم قدم الباحث الجاد والروائي المتخفي مصطفى عبيد لقرائه، حاليا، رواية جديدة بعنوان ابنة الديكتاتور، يصفها بأنها مستوحاة من أحداث حقيقية تم طمسها عن عمد.
الرواية التي روج عبيد لها جيدا قبل صدورها لاقت رواجا ونجاحا لافتين رغم وقوع أحداثها في زمن آخر، خاصة أن بطلتها شخصية حقيقية، كاتبة شهيرة في فترة الأربعينيات والخمسينيات حتى خبا الضوء حولها في نهاية الستينيات، ولم يعرف مصيرها لسنوات، رغم شهرتها الطاغية لأعوام عديدة.
خيال وواقع
خبث مصطفى الأدبي في الترويج لروايته اعتمد على أن أحداث الرواية تجمع بين الخيال وأبطال معروفين في الوسط الصحفي والثقافي، وأيضا السياسي في السنوات التي وقعت بها أحداث الرواية، وكان لهم صلات وتعاملات مع سناء بكاش بطلة روايته، بعضهم ذكره مصطفى بالاسم كالعقاد وإبراهيم ناجي ومصطفى أمين والسياسي العتيد إسماعيل صدقي، والبعض الآخر غير اسمه مثل شخصية سمير بك أو الرجل الكبير، والقريب في منصبه وصفاته من شخصية صلاح نصر رئيس المخابرات في العهد الناصري، وكذلك الأمر مع الضابط نور سالم الذي تولى العمل معها بعد قيام ثورة 52.
وبقصد أو بدون قصد تبارى المثقفون والمهتمون في البحث عن هذه الشخصيات، وربطها بالواقع، ما حقق للرواية رواجا، فضلا عن اسم الرواية الموحي، والبحث عمن هو الديكتاتور الذي ارتبطت البطلة باسمه.
بطولة جماعية
وفيما يقارب الثلاثمائة صفحة قدم لنا مصطفى عبيد رواية أراها متميزة لأسباب أخرى، منها قدرته على بناء سردي يربط بين أبطال العمل جميعا، ويمنح كل منهم بطولة خاصة، وتنقله بين الماضى والحاضر بسلاسة ويسر، فها هي فيروز الصاوي حفيدة البطلة والطبيبة الشابة التي تستعد للذهاب إلى منحة بإنجلترا، والمرتبطة بجدها أحمد نصر الدين الذي تولى تربيتها بعد وفاة والدتها، تتفاجأ بانقلاب في حياتها بعد أن يذكر جدها في أواخر عمره اسم البطلة سناء، ثم تقوم مع صديقتها منى برحلة للكشف عن سر هذه السيدة الغامضة إلى أن تحصل على مذكراتها من خادمتها حُسن، وتكتشف أن ثريا ليست جدتها بل سناء، وهناك شخصية الجد الذي طوى سره عمن حوله لأكثر من سبعين عاما، لينكشف أمره في النهاية، ثم دوره في أحداث الرواية من زواجه العجيب بالبطلة، ثم رحيله عنها بعد أن أخذ ابنتهما معه، وسفره إلى الخارج ليحميها من مهنة والدتها، وتربيتها في بيئة أفضل.
وذكاء عبيد أنه بنى روايته بشكل متميز على ثلاث مراحل، الأولى من الواقع، عن فيروز وجدها وعالمها المعاش على مستوى العمل والأصدقاء، وقصة حبها المنتظرة من حسام، وانتهاء هذه المرحلة بالحصول على مذكرات الجدة وماضيها الغريب والعجيب، والمرحلة الثانية دارت حول ما تركته البطلة سناء في مذكراتها، من أول طفولتها مرورا بالدور الذي قامت به من أجل الوطن حتى لو تنافي مع الأخلاق وانتهاء بوصولها إلى مرحلة الشيخوخة، والمرحلة الثالثة يقدم فيها عبيد حل اللغز الغامض برحيل الجد بعد أن يكشف لحفيدته في خطاب، السر الذي خبأه طوال عمره، وانفراج أزمة فيروز نفسها مع مديرها في العمل بموافقته على أوراق سفرها إلى إنجلترا، وارتباطها بقصة حب صادقة مع حسام، رغم أنه أصغر منها بثلاث سنوات، وكأنها تعيد قصة حب جدها مع جدتها مرة أخرى دون أن تكون النهاية واحدة، فقد انتهت الأولى بالهجران والألم، وكللت الثانية بالسعادة والأمل.
الروائي والباحث
في جدارية الشاعر الكبير محمود درويش- شاعر مصطفى عبيد المفضل- يقول "والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ ومن أَبطالِهِ.. يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ"،وهنا نتوقف قليلا عند سؤال مهم، هل كتب عبيد روايته بروح الباحث الجاد الشغوف بالتاريخ واكتشاف أبطاله بشكل مغاير ، أم كتبها بنفَس الروائى المأخوذ بحكايته؟
رأيت أن الباحث والروائي كانا حاضرين بقوة في الرواية، والحقيقة أنه في قراءتي للرواية، كنت مشغولا بمصائر أبطالها، خاصة أن هناك صفحات عديدة منيرة كتبت بروح روائية متمكنة، وبالعكس كنت غير مشدود لروح الباحث ومعلوماته التي كتبها على لسان أبطاله، خاصة بطلة الرواية سناء بكاش، بالإضافة إلى تحميل مصطفى لآرائه السياسية على لسان أبطال العمل في أكثر من موضع.
لعب عبيد اللعبتين معا مع القارئ، وعمل على إرضاء الطرفين بداخله، وكنت أتمنى أن يركز على الجانب الروائي الفني لأننا أمام رواية متميزة فنيا سواء كانت البطلة شخصية حقيقية أم كانت من خيال الكاتب مثل شخصيتي فيروز والجد أحمد.
وبقيت نقطة أخيرة تتعلق باستخدام عبيد في روايته لشخصيات حقيقية وإجرائها حوارات مع البطلة كالعقاد وناجي ومصطفى أمين، لأجد نفسي أسأل: هل هذا واقع أم خيال الكاتب، وهل يصح أن يقول على لسان أحد ما لم يقله؟!
وصحيح أن د. عادل ضرغام أستاذ النقد الأدبي بكلية دار العلوم في كتابه "الرواية والتاريخ.. من التاريخ إلى الهوية"، يرى أن "الروائي لا يعود للتاريخ من أجل العودة إلى الماضي وليس بالطريقة التقليدية، وإنما من أجل مساءلة فرضية آنية، يحاول التأكد من تجذرها في سياقه القديم، ومن خلال هذه العودة يحاول الإجابة عن هذه الفرضية التي قد تتعدد إلى إشكاليات عديدة تحيط بالإنسان المعاصر" .
إلا أنني لم استسغ هذا الطرح، وربما أراد مصطفى أن يستفيد من شهرة هولاء الشخصيات، وربما رأى أنهم يثرون العمل، في حين رأيت أن الرواية في حد ذاتها كحدوتة وبناء وسرد، كانت كافية جدا، بمعنى آخر وجدت أن تدخل الباحث في عمل الروائي في الرواية ذاتها لم يضف كثيرا لها، وظني أن مصطفى عبيد كان يقصد ذلك، لأنه لم يكن مشغولا بإدانة بطلته أو أيّ من أبطاله، بل كان مشغولا بفكرة أكبر وهي إدانة القهر والتسلط رغم تماهي البطلة نفسها مع هذه الفكرة بل وخدمتها، وعدم ندمها على ما فعلته لو عاد بها الزمن مرة أخرى.



