السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

قبل نحو عشرين عامًا زرت الولايات المتحدة لأول مرة، حينها تملكتني الرغبة والبقاء والحياة في أرض الأحلام، كما كان يُطلَق عليها، فاصطحبني صديق مقيم هناك إلى أحد محاميّ الهجرة، وكان رجلاً لطيفًا، سألني عدة أسئلة شخصية، ولما كان الهدف من اللقاء البحث عن طريقة للإقامة الدائمة وبطريقة قانونية، عرض المحامي ثلاثة خيارات، الأول هو الزواج من أمريكية شريطة ألا أكون متزوجًا، والثانية عقد عمل مع جهة أو مؤسسة أميركية بشرط عدم وجود أمريكي قابل لشغل تلك الوظيفة، وأخيرًا إثبات التميُّز في نشاط أو مهنة نادرة.

هنا أدركت حقيقة في غاية الأهمية يعرفها كل من سافر وعاش في الولايات المتحدة، بأن هذه البلاد تعتمد في قوتها على انتقاء وجذب أفضل العقول البشرية من كل دول العالم، وهذا يفسر وجود عشرات الأمريكيين الذين يتولون مناصب حيوية، وتبدو على ملامحهم وأسمائهم أصولهم الأجنبية، فمن الممكن أن تجد سفيرًا أو حاكم ولاية أو وزيرًا أمريكيًا من أصول صينية أو يابانية أو لبنانية أو صومالية أو مصرية، لذلك لم أندهش عندما أصبح باراك حسين أوباما، رئيسًا للولايات المتحدة، رغم كونه أسود البشرة ووالده مهاجر مسلم من أصول كينية، كل هذا لم يمنعه من الوصول إلى رئاسة المكتب البيضاوي.

قبل وصول ترامب إلى سُدة الحكم مطلع 2025، كنت أسخر من المقولات الأيديولوجية المختلفة التي راجت بقوة في عالمنا العربي عقب أحداث 11 سبتمبر 2001، وتدور أغلبها في فلك نهاية الحقبة الأميركية، وأفول نجمها الذي ظل مهيمنًا على العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم تأكد انفرادها كقوة عظمى وحيدة في العالم، بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي 1991، ونجاح السياسة الأميركية في احتواء كلٍ من أوروبا والصين عبر اتفاقات أمنية وبرامج اقتصادية.

لم تحصل الولايات المتحدة على حق قيادة العالم من فراغ؛ بل تحقق ذلك بفضل جذبها أفضل عقول العالم قاطبة، وفتح أبواب مؤسساتها أمام المتفوقين والمتميزين بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم أو لونهم، وتم ذلك عبر منظومة قانونية، تعليمية، ثقافية محكمة، كان عمادها الحرية والعدالة شبه المطلقة، وبفضل تلك المنظومة توافرت بيئة فريدة، أفرزت أفضل العقول والأساليب التي قادت ليس أميركا وحدها؛ بل العالم المتقدم نحو الازدهار والتقدم، من الطب إلى الفضاء ومن البزنس إلى السينما.

لم أفاجأ بإعلان ترامب 78 عامًا، عن رغبته تعديل الدستور الأميركي ليتسنى له الترشح لولاية ثالثة، وهذا لم يحدث في تاريخ أميركا، باستثناء الرئيس فرانكلين روزفلت الذي استمر في الحكم أربع ولايات متتالية خلال الحرب العالمية الثانية، فيما لم يتمكن أي رئيس أميركي آخر من البقاء في السلطة لدورة رئاسية ثالثة مهما كانت شعبيته.

صحيح هناك من يرى أن الولايات المتحدة استنفدت فرصها لقيادة العالم طوال تلك العقود، أصحاب هذا الرأي يبرهنون بذلك على حالة الإفلاس المجتمعي الذي تجلت بوضوح في غياب الكوادر القادرة على حمل راية المؤسسين الأوائل.

اختيارات الناخب الأمريكي فرضت نفسها، وبدأ الرأي العام في داخل أمريكا وخارجها التأهب لتلقي الصدمات الصادرة عن المكتب البيضاوي والتعامل بقلق مع سلوك ترامب المثير، ومحاولة استيعاب هوسه بالحكم الإمبراطوري الذي ظهر في شكل قرارات يومية صادمة، إلى جانب جشعه ورغبته في الاستحواذ على ثروات الآخرين على طريقة الكاو بوي الأمريكية التقليدية.

تجلى ذلك في اختيار مساعديه ومسؤولي أغلب إدارته، التي تأثر خلالها بطريقة حكم طغاة العالم الثالث، فأسند أغلب المناصب إلى أهل الثقة والولاء والطاعة، لينطلق بحرية في طرح نظرياته المدهشة بدءًا من ضم كندا، عرض شراء غرينلاند، والسيطرة على قناة بنما، والاستحواذ على قطاع غزة وطرد سكانه واحتواء روسيا حتى ولو على حساب أوكرانيا، ومعاداة أوروبا، ودعم الاحتلال الإسرئيلي بلا ضوابط عكس ما كانت تفعله الإدارات السابقة، ثم تهديد كلٍ من إيران والصين والحبل على الجرار.

لقد ظل التفوق الأمريكي مرهونًا بوجود إدارة رشيدة متوازنة تقود العالم بحكمة وثقة (مستندة شكليًا) إلى إرث كرسه الرئيس الأسبق فرانكلين روزفلت، قبل أكثر من 77 عامًا، متمثلًا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصبح رمزًا للعدالة والكرامة الإنسانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى وصول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض في الانتخابات الأخيرة.

اليوم نجح ترامب في سلب الولايات المتحدة أعز ما تملك من عناصر قواها الناعمة التي منحتها حق السيطرة وقيادة العالم، فبعد أن كان الدولار هو العملة السيادية، أخذت الصين وروسيا بالتنسيق مع دول تجمع بريكست في البحث عن عملة بديلة، كما أدى لهث رئيس أكبر قوة في العالم وراء صفقات مليارية تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب لدول عربية نفطية، ثم الضغط على دول مثل أوكرانيا لرهن ثرواتها الطبيعية، فضلًا عن أوامر طرد الطلاب والعلماء وحتى السفراء بزعم أنهم يكرهون الرئيس، إلى حرمان الولايات المتحدة من ميزة كونها كانت مركزًا لجذب صفوة العقول حول العالم.

في حال نجح ترامب في انتزاع حق الترشح لولاية ثالثة بعد العبث بالدستور، يكون قد دق المسمار الأخير في نعش الإمبراطورية الأميركية ووضع نهاية تفوقها وسيطرتها على مقدرات العالم منذ الحرب العالمية الأولى، وأن الولايات المتحدة تصبح مرشحة للتقسيم، ولا أستبعد أن تصبح واحدة من دول العالم الثالث بلا نفوذ أو هيمنة.

هذا المفهوم يتعمق تدريجيًا مع تآكل عماد قوتها الذي يقوم على أمرين أساسيين، العلم المتمثل في استقلال الجامعات، والقوة الاقتصادية العسكرية المتوازنة الذي تصب أغلب قرارات ترامب في تحقيق عكسها، لذا ربما يدخل ترامب التاريخ فعلًا كما يتمنى، ليس كمجدد لقوة وهيمنة الولايات المتحدةـ بل كأحد القادة الذين حولوا نبوءات أصحاب الدعوات الأيديولوجية المعادية للتفوق الأميركي من تمنٍّ إلى واقع ملموس، وينهي إلى الأبد أسطورة ما كان يسمى بـ«الحلم الأمريكي».

تم نسخ الرابط