السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

تناقضات القديس غاندي

تناقضات القديس غاندي
تناقضات القديس غاندي
كتب - مصطفى سيف

ستكتشف بنهاية قراءته أنّه كان يعيش كمًا من التناقضات، ليس إلى حلها من سبيل، لكن هذه التناقضات هي التي كشفت الجانب النقي والغريزي عنده، أو بعبارة أدّق الجانب الإنساني لديه حتى في مواجهة عدوه، فهو الزاهد الذي غرق في الأعيب السياسة دون أنْ تُدّنسه .

الماتهما غاندي، الذي يرى المترجم أحمد زراقي في مقدمة ترجمته لكتاب "ماذا يقول غاندي؟ عن اللاعنف والمقاومة والشجاعة"، الصادر كمُلحق مع مجلة الدوحة للباحث نورمان فنكلستاين، أنَّه تحول إلى عناوين ويافطات مثلما تحوَّل في وقتٍ ما عبد الكريم الخطابي، وتشي جيفارا إلى سطر أو مقالة في ذكرى سنوية.

في المقدمة يقول الكاتب نورمان ج. فينكلستاين إن "غاندي قديسًا غريب الأطوار من عالم آخر، لكنّه كان من أدهى العارفين بالألاعيب السياسة، بحيث يستطيع أن يسبر أفضل من معاصريه مكامن القوة لدى شعبه وخصومه، وحدودها، مشيرًا إلى أنَّ أعمال غاندي تبلغ ما يقرب من 100 مجلد من الحجم الكبير، مضيفًا: "قرأت نصفها تقريبًا. 

 

 

الصوتُ الداخلي

ساتياغراها- بالمختصر المفيد- هي المقاومة اللاعنيفة، ويعتبر "غاندي" أنَّ الإيمان هو الذي يجب أن يمد أتباع هذا المبدأ، وأنَّ جذوره موجودة في الصلاة، فيقول: "لا أستهدي بالعقل وإنما بغريزتي، أو بعبارة أخرى، بالصوت الداخلي ولا يعرف المرء إلى أين سيقوده هذا الصوت".

هذا ما جاء في الفصل الأول بعنوان الصوت الداخلي والذي ربمّا تجد به كمّ هائل من التناقضات، فهو ليس فقط يقول إنّك لا يجب أن تعتمد على العقل وإنما على صوتك الداخلي معتبرًا إياه هو المحرّك الوحيد للبشر، محاولًا إدخال مبدأه (ساتياغراها) في هذا الصوت الداخلي.

الصوت الداخلي الذي أوقعه في انتقادات كثيرة من مريديه قبل منتقديه، جعل قرارات العقل رهن إقرار الصوت الداخلي، فيقول: "بالنسبة لي مسار العمل القائم على العقل يبقى تحت الفحص رهنًا بإقرار الصوت الداخلي".

على الرغم من ذلك إلا أنَّ "غاندي" اعتبر منهج "ساتياغراها" "عِلْم"، وتجربة لا تتوقف عن البحث الدائم ولا تكتمل أبدًا للحقيقة، علاوة على رؤيته لهذا العلم بأنّه فوق مستوى "الشبهات" أو "الانتقاد" مبررًا ذلك بأنَّه "إذا لم يؤتِ ثمره فالخلل ليس في العالم ولكن في النفس البشرية".

فـ"غاندي" يرى أنَّ هذا العلم دائمًا تجربته "ناجحة" ولا تخفق أبدًا، فيقول: "اللاعنف دائمًا ناجحًا لذلك عندما يبدو أنَّها أخفقت يكون الخطأ راجع لعجز المريد"؛ ولكن حقيقة أنَّ لا  تفشل أبدًا فاعتبار غاندي لها كذلك هي احتكار للمنطق فمثلًا لن يقتنع الذي يقبع في السلطة أنَّ اللاعنف هو وسيلة سلمية للحصول على حقوق الرعية، دون أن يرى أن هناك غضب قد ينتج عن لامبالاته في توفير الحقوق لشعبه.

ربما هو اختلاف فقط وحيد أراه ينبع من الصوت الداخلي لدى غاندي، وهو أنَّ الصوت الداخلي مختلفٌ من شخصٍ لآخر؛ ولكن ما يمكن الجزم به أنّه صوت اللحظة الراهنة، فهو لا يُغيِّر- على سبيل المثال- الموقف السياسي، ولكن العقل هو الذي يفعل ذلك، فالصوت الداخلي لدى غاندي يختلف اختلافًا كليًّا عن الصوت الداخلي لشخصية مثل "هتلر" على سبيل المثال.

 

 

وسادة الموت

يرى غاندي في هذا الفصل أنَّ الإقدام على الموت بسبب الجُبن هو أسوأ ما يمكن للإنسان فعله، مشبهًا مبدأه وتابعيه الجبناء الذين يستخدمون اللاعنف كويسة للفرار من الموت بـ"القط والفأر" فيقول: "الفأر الذي لا حول به ولا قوة ليس غير عنيف لأنه دائمًا ما تلتقمه الهرة، لأنه سيلتهم الهرة لو كان في وسعه ذلك، فنحن لم نناديه جبانًا لأنه لم يُجبلْ على التصرف بطريقة تختلف عمَّا يفعل".

فـ"غاندي" رأى أنَّ من يتصرف أمام الخطر كفأر هو شخص يستحق أن يُدعى بـ"الجبان" لأنهيضمر العنف والكراهية في قلبه، وسيقتل عدوّه لو كان في وسعه ذلك دون أن يضر نفسه؛ "إنه شخص غريب عن اللاعنف"، خاصة أنَّ مبدأ غاندي يتمحور حول الرفض الفعّال الإيجابي، والقائم على الحب الخالص والإحساس.

ولكَ أن تتخيل أن غاندي كان يُخاطب أكثر من ارتكب فظائع وجرائم في تاريخ البشرية الألماني النازي، أدولف هتلر" بـ"صديقي العزيز" في رسالة بعثها إليه عام 1940، يؤكد فيها ألَّا "تعتقد أنَّك الوحش الذي يصفه خصومك" على الرغم من اعترافه بأنَّ "أفعال هتلر وحشية ولا تليق بالكرامة الإنسانية".

يتمثل مبدأ "ساتياغراها" في قول لا بصورة إيجابية، الذي يقوم على الإحساس بالآخر، لذلك اشترط على أتباع هذا المبدأ ألا تنطوي جوانحهم على أي عنفٍ في الفكر أو الكلمة أو الفعل؛ وعلى الرغم من ذلك فهو يرى لا ينكر على أتباعه أن يستخدموا العنف إذا شعروا بالإهانة في قضية صالحة فيقول: سيكون من المبرر أن تصفع المتسلط عليك في وجهه؛ أو تتخذ أي إجراء تراه ضروريًا دفاعًا عن احترامك لنفسك.

وفي موقف آخر يقول: إنَّ "من يتذرّعون باللاعنف للفرار من معتدٍ بدلًا من مقاومته هم- في نظر غاندي- أحق البشرية بالاحتقار ولا يستحقون الحياة"، منتقدًا اللجوء إلى العنف سواء كان ذلك لأسباب شخصية أو أخلاقية أو نفعية، لأنه يفسد الشخص ويتدنى به إلى مستوى البهيمة، خاصة وأنَّ "العنف يُحطم حاكمًا سيئًا أو أكثر ولكن سيقفز آخرين ليحلوا محلهم".

على الرغم من إيمانه بأنَّ اللاعنف هو الوسيلة الوحيدة لتحرير الإنسان وليس العنف إلا في أضيق المواقف؛ إلا أنَّه مع ذلك لم يهاجم الذين يستخدمون العنف أبدًا، وإنما ضد من يخافونه فـ"الجُبْن عجز أسوأ من العنف"، فـ"الجبان أقل من إنسان، ومن ينتظرون مساعدة الجيش والشرطة سيظلون عبيدًا إلى الأبد".

 

 

ضريبة الملح

ربط غاندي الإضراب عن الطعام بـ"مبدأ ساتياغراها" إلا أنَّه في الوقت ذات جعل من شروطها ألا تلجأ إلى الإكراه، فدفاعه عن الإضراب عن الطعام كان من أجل الصالح العام، وهو ما أوقعه في تناقض؛ فالإضراب عن الطعام ينطوي في جزء كبير منه إكراه المعتدي على الاستجابة لطلبات المُضرِب.

لكن يبدو من هذا الفصل أنَّ غاندي ميَّز بين إضرابين عن الطعام، الأول هو الإضراب الذي يرمي إلى مساعدة الآخرين، والثاني وهو الإضراب الذي يتسم بالأنانية وتحقيق الاستفادة الشخصية منه؛ وعلى الرغم من ذلك فغاندي نفسه اعترف أنَّ المضرب عن الطعام مهما كان صادقًا قد تكون دوافعه خاطئة.

غاندي نفسه  خاض إضرابًا عن الطعام بعد فرض "ضريبة الملح" التي فرضها البريطانيون إبان فترة استعمار الهند، ودخل هذا الإضراب لأنهم رفضوا طلبه برؤية رفاقه المرضى، معترفًا بأنّ منعه من رؤية رفاقه هو أمرًا لا يُطاق بالنسبة له، لذلك كان إضرابه عن الطعام هو أمرًا يفيد الآخرين وليس أنانيًا.

غاندي دفع البعض بالتضحية بحياته من خلال الإضراب عن الطعام لإنقاذ الآخرين، فيقول: "إذا كان الجياع لا يستطيعون الحصول على ما جُمِّع من الحبوب المخصصة للغذاء بالرغم من أنّها موجودة في المستودع يمكنهم الدخول في إضراب عن الطعام حتى الموت وبالتالي تأمين الغوث لأنفسهم وللآخرين".

في فكرة الإضراب عن الطعام وألا يكون منطويًا على الإكراه، شدد غاندي على ضرورة وجود رابط "عاطفي" مباشر بين المسيء وبين والمضرب، مشترطًا ألا يؤذى الخِصم أو يعاقبه بذلك، ولكن استحثاث الرقة في قلبه، وشعوره بأنَّ له صديق في المضربين عن الطعام.

يبدو غاندي من خلال هذا الفصل متناقضًا في فكرة الإضراب عن الطعام واشتراطاته مثل الحب، وعدم الإكراه، والرابط العاطفي، وهو ما لا يمكن أن يتحقق بأي شكلٍ من الأشكال، فهو الذي دعا في وقت من الأوقات إلى عدم دفع الضريبة، والدعوة إلى العصيان المدني، وهو ما ينطوي عليهما كثيرًا "الإكراه".

الأمر الذي يصعب تصديقه حقًا هو قول غاندي بأنَّ معاناته الذاتية يمكن أن تُذيب قلب هتلر، يقول المؤلف: "يتعذر التصديق بأنَّه لو كانت المجموعات المستهدفة من هتلر بالإبادة مارست المقاومة دون إكراه أو عنف، لكان ذلك استحث ضميره وأذاب قلبه"؛ لذلك يتضح أنَّ استراتيجية غاندي الوحيدة التي لها فعالية ضد هتلر هي عدم التعاون على نطاق جماهيري، وليس المقاومة دون عنفٍ أو إكراه.

في نهاية هذا الفصل فإن المعاناة الذاتية قد تدفع محبوبًا إلى الإصلاح، وأيضًا، إيقاظ ضمير جمهور عام سلبي ضد الظلم، ولكنها لن تردع أشخاصًا، يدفعهم الغضب للدفاع عن مصالحهم، لذلك يقول المؤلف: "إذا كان الهنود توقفوا مؤقتًا عن ذبح بعضهم البعض فذلك لأنهم رأوا بحدسهم المشترك أن غاندي يمثل أسمى وأفضل ما فيهم".

 

 

مذنب بالسرقة

يبدو الأمر غريبًا على مجتمع مثل المجتمع الهندي اتباع "ساتياغراها" لذلك كان غاندي يعتمد من خلال حملاته لإصلاح المجتمع "استحثاث ضمير الشعب عن طريق المعاناة الذاتية وبالتالي استثمار قوة الرأي العام بإيقاظه من سُباته ورفعه إلى مرتبة الشعور بالواجب".

على الرغم من ذلك لم يكن الجمهور المستهدف من حملات غاندي هم المعارضون للإصلاح ولكن ضد أنصاره حتى أنَّه اعترف ذات مرة أنَّ "الإضراب الوشيك عن الطعام موجّه ضد من يؤمنون بي"؛ فيقول: "ليس ضد العالم الإنجليزي الرسمي، بل ضد الرجال والنساء الإنجليز الذين يؤمنون بي وبعدالة القضية التي أمثلها".

أول شيء ابتدأ به غاندي هو إزالة "وصمة" النبذ من خلال فتح أبوب المعابد الهندوسية لـ"الهاريجان" المنبوذة في ذلك الوقت، مفترضًا أن أغلبية الهندوس يدعمون هذا الإصلاح، فهو "يعتبر أنَّ عقل الأغلبية مع هذا الإصلاح إذا أتى خلسة؛ لذا على المُصلحين إعداد الأرض حاليًا دون توقف وتحويل الموقف السلبي تجاه الإصلاح إلى إيجابي.

وفي تحقيق المساواة قدَّم غاندي نفسه على أنّه صوت الملايين من فقراء الهند، فيقول: "أقول دون تردد أنني رجل الشعب، وفي كل لحظة في حياتي لديَّ شعور تجاه ملايين الجائعين، إنني أعيش من أجل التخفيف من معاناتهم ومآسيهم" خاصة وأنَّ ربط الحرية بمحو الفقر والبطالة من الهند.

ووصل الأمر بـ"غاندي" في خطة التقشف التي مارسها على نفسه وعلى الهند، اعتبار أنَّ الشيء الزائد عن الحاجة هو "مسروقًا" واعتبر الذي يمتلكها هو مُذنب بالسرقة، وأنَّ حياة إنسان فوق الإمكانيات التي تناسب بلدًا فقيرًا هي حياة مليئة بالسرقة، فيقول: "أيما غني ذو مال اكتسب غناه بالاستغلال ووسائل أخرى مشكوك فيها ليس أقل من السارق الذي ينتشل من الجيب أو يقتحم منزل، الفارق الوحيد أنَّ الأول اختبأ خلف واجهة من الاحترام وأفلت من عقوبة القانون".

إلا أنَّه في نهاية المطاف أقرَّ بأنَّ النداءات الأخلاقية للمُلَّاك الهنود والصناعيين قد لا تقنعهم، ولا تذيب قلوبهم، حينها يرى غاندي أنَّ التعاون اللاعنفي والعصيان المدني هما الوسيلة الوحيدة والصحيحة التي لا تُخطئ، مشيدًا بالإضرابات باعتبارها "سلاحًا جيّدًا في أيدي العمال لإزالة المظالم".

 

تم نسخ الرابط