الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

بالفيديو.. توثيق معركة الانتصار بـ"رأس العش" من قلب "النكسة"

بالفيديو.. توثيق
بالفيديو.. توثيق معركة الانتصار بـ"رأس العش" من قلب "النكسة"
كتب - عادل عبدالمحسن

أبطال المعركة الحقيقيين يروون تفاصيلها

 

لم يكن 30 يونيو 2013 الوحيد الذي خرجت فيه الأمة المصرية من تحت الرماد تعلن أنها عصية على الانكسار بل اليوم الذي تلاه مباشر 1 يوليو لكن عام 1967 يمثل يوما خالدا في سجل الوطن فبينما كان الإسرائيليون يشربون نخب الانتصار ويعتقدون أن مصر لن تقوم لها قامة تصدى 30 مقاتلًا بالأسلحة الخفيفة من قوات الصاعة المصرية لمحاولة إسرائيلية لاحتلال منطقة رأس العش جنوب بورفؤاد.

كانت قوة إسرائيلية تتكون من 10 دبابات مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية في عربات نصف مجنزرة، وسيادة جوية ترصد كل شاردة وواردة تتحرك على الأرض وقامت بمهاجمة قوة الصاعقة المصرية فتصدت لها الأخيرة وتشبثت بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير ثلاث دبابات معادية.

فوجئت القوة الإسرائيلية بالمقاومة العنيفة للقوات المصرية التي أنزلت بها خسائر كبيرة في المعدات والأفراد أجبرتها على التراجع جنوبًا.

عاود جيش الاحتلال الهجوم مرة أخرى، إلا أنه فشل في اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف المجنزرة وزيادة خسائر الأفراد، اضطرت القوة الإسرائيلية للانسحاب.

يقول المشير محمد عبد الغني الجمسي بمذكراته: في اليوم الأول الذي تولى فيه المشير أحمد إسماعيل قيادة الجبهة في أول يوليو 1967 والذي شغل فيما بعد منصب وزير الدفاع خلال حرب أكتوبر. تقدمت قوة إسرائيلية شمالا من مدينة القنطرة شرق في اتجاه بور فؤاد- شرق بورسعيد- لاحتلالها، وهي المنطقة الوحيدة في سيناء التي لم تحتلها إسرائيل أثناء حرب يونيو. تصدت لها قواتنا، ودارت معركة رأس العش

كان يدافع في منطقة رأس العش- جنوب بور فؤاد- قوة مصرية محدودة من قوات الصاعقة عددها ثلاثون مقاتلا. تقدمت القوة الإسرائيلية، تشمل سرية دبابات "عشر دبابات" مدعمة بقوة مشاة ميكانيكا في عربات نصف جنزير، وقامت بالهجوم على قوة الصاعقة التي تشبثت بمواقعها بصلابة وأمكنها تدمير ثلاث دبابات معادية. عاود العدو الهجوم مرة أخرى، إلا أنه فشل في اقتحام الموقع بالمواجهة أو الالتفاف من الجنب، وكانت النتيجة تدمير بعض العربات نصف جنزير وزيادة خسائر الأفراد.

اضطرت القوة الإسرائيلية للانسحاب، وظل قطاع بور فؤاد هو الجزء الوحيد من سيناء الذي ظل تحت السيطرة المصرية حتى نشوب حرب أكتوبر 1973.

ويشير الجمسي إلى أنها كانت هذه المعركة هي الأولى في مرحلة الصمود، التي أثبت فيها المقاتل المصري- برغم الهزيمة والمرارة- أنه لم يفقد إرادة القتال، وكان مثلًا للصمود والقتال بمهارة والتشبث بالأرض.

 

 

صلابة الجندي المصري تهزم أقوى أسلحة الترسانة الأمريكية

ويروي البطل حسني سلامة ذكرياته عن معركة رأس العش قائلا: من غير الممكن أن نتحدث عن معركة رأس العش التي وقعت بعد أيام قليلة من نكسة 67 دون أن نتعرض للنكسة ذاتها وما شابها من أحداث، فقد اتُهم الجندي المصري بالفشل والهزيمة بينما نحن لم نحارب ولم نقابل جنديا إسرائيليا واحدا.

لكننا برغم ذلك تلقينا قرارا غريبًا بالانسحاب من أرض المعركة بدون نظام، فعدنا منهزمين نفسيا كبقايا لوحدات عسكرية، فمثلا كتيبة الصاعقة التي كان قوامها يزيد على 350 فردا عاد منها ما لا يتعدى 140 فردا.

وأضاف: عدنا إلى بورسعيد حيث أقمنا في مدرسة “أشتوم الجميل” الخاصة ببورسعيد نحاول استيعاب ما حدث، وبعد يومين وصلت إلينا كميات من أسلحة مضادة للدبابات عبارة عن RBJ من طراز جديد يدعىRBJ7عديم الارتداد بينما كان الجنود مدربين فقط ونظريا على طراز RBJ2 العتيق وهو سلاح استخدمه الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الأولى وضعيف التأثير والمدى، بينما استخدم RBJ7 في الحرب العالمية الثانية ومع ذلك لم يصل إلينا إلا بعد النكسة أي بعد ما يزيد على 20 عامًا على استخدامه في الحرب العالمية الثانية.

ويقول البطل حسني سلامة: بعد أن استلمنا شحنات RBJ7 أدركت انه وصل إلينا من دون ذخيرة، فقمنا بالاتصال بقيادة الجيش فأخبرونا أن الذخيرة ستصل في اليوم التالي وهو ما حدث بالفعل، لكن السلاح برغم ذلك وصل بدون دلائل الاستخدام (الكتالوجات) التي من المفترض أن تشرح أسلوب استخدام السلاح وقاعدة التصويب الخاصة به لأنه يختلف تمامًا عن الطراز القديم الذي تلقى الجنود تدريبهم عليه.

لكنني بعد فحص السلاح اكتشفت تطابقا بين تلسكوب التصويب الخاص به وبين تلسكوب المدفع الرشاش 14.5 المضاد للطائرات الذي تلقيت فرقة في استخدامه عام 1962 في مدرسة المدفعية وحصلت فيها على تقدير امتياز.

فأعلنت لقائد سريتي النقيب/ أحمد عبد الحميد سعودي قدرتي على استخدام السلاح الجديد لكنه لم يقتنع إلى أن توصلنا لاتفاق بأن أجري تجربة عملية أمامه في مطار الجميل بغرب بورسعيد وبعد نجاح التجربة كلفتني قيادة الكتيبة بتدريب جميع الجنود من حملة RBJ2 على السلاح الجديد اعتبارا من صباح اليوم التالي.. طبعا التدريب يبدأ من تعليم فك وتركيب السلاح وحركته الميكانيكية ثم قاعدة التصويب الخاصة به.. الخ.

ويواصل البطل سرد ذكرياته: بعد ثلاثة أيام من التدريب النظري وقبل أن يبدأ التدريب العملي وصل الملازم/ تحسين عبد القادر في العاشرة من صباح اليوم الرابع وطلب مني جمع الجنود المتواجدين في المدرسة من أي فئة بعد أن وصلت معلومات بأن اليهود في طريقهم إلى مدينة بورفؤاد الواقعة في مواجهة بورسعيد على الضفة الشرقية للقناة.

وبالفعل جمعنا كل من وجدناه فكنا حوالي 18 مجندًا إضافة إلى ضابط واحد برتبة ملازم ويدعى فتحي علي عبد الله، وكل منا حمل ما استطاع من أسلحة وذخائر واستقللنا عربة عسكرية وسلكنا طريق المعاهدة بورسعيد- الإسماعيلية حتى وصلنا إلى نقطة إرشاد السفن المسماة برأس العش وترجلنا حتى شاطئ القناة وتولى نقلنا للضفة الشرقية أحد اللنشات الصغيرة الخاصة بهيئة قناة السويس.

وكانت المهمة واضحة تمامًا وهي منع اليهود من دخول بورفؤاد إلا فوق أجسادنا، وكانت بورفؤاد خلفنا بحوالي 8 كم بينما أمامنا على بعد 2 كم تقريبا كنا نرى اليهود بالعين المجردة يتحركون بين مجنزراتهم وكأنهم ذاهبون إلى نزهة بينما نحن بإمكانيات شبه منعدمة بمعداتنا الخفيفة، بدون أدوات حفر، أو وسائل إعاشة أو حتى باقي معدات القتال وطبيعة الأرض التي جرت عليها المعركة كانت غاية في الصعوبة فهي عبارة عن لسان من الأرض موازٍ للقناة وسط المياه لا يزيد عرضه على 60 أو 70 مترًا على يمينه قناة السويس وعلى يساره منطقة ملاحات يصعب الخوض فيها، وكان هذا اللسان هو الطريق الوحيد للوصول إلى بورفؤاد وهو ما يعني أنه لكي يحتل اليهود المدينة يجب أن يمروا من هذا الطريق، وعلى الأخص الجانب الأقرب للقناة لأنه الجزء الأصلب من الأرض.

ويضيف حسني: بحكم دراستي للفنون العسكرية كنت على يقين أن اليهود يستخدمون دائما أسلوب “الالتفاف والتطويق” لمحاصرة العدو بدلا من المواجهة المباشرة التي يخشونها، ولذلك وعند توزيع الأفراد على الموقع وضعت فردين في المؤخرة بمدافع رشاشة خفيفة تحسبا لتطويقنا من الخلف.

كان ينبغي علينا أن نمهد الأرض عسكريا استعدادا لملاقاة العدو فكان على كل جندي أن يحفر لنفسه ما يسمى "الحفرة البرميلية" وهي حفرة مستديرة قطرها نحو 80 سنتيمترًا بعمق يسمح للجندي بالنزول فيها بحيث لا يظهر منه إلا رأسه وأكتافه، ونظرًا لغياب أدوات الحفر كان الجنود يحفرون بأيديهم حقيقة لا مجازا في الأرض الصلبة وبسونكي البندقية والدبشك الحديدي لتكوين الحفر البرميلية والسواتر الترابية، وتم حفر حفرة برميلية أكبر قليلًا للملازم فتحي عبد الله في المؤخرة ومعه جندي الاتصال ليبقى على صلة بالقيادة طوال الوقت، وبحلول الساعة الرابعة عصرا كان قد وصل إلينا دعم ممثل في مدفع من طراز 10ـ المضاد للدبابات عديم الارتداد بطاقم مكون من 3 أفراد، وهو مدفع أكبر حجما وأبعد مدى ويعمل عليه فردان، فرد للتعمير وفرد للضرب وهو يطلق صوتا مرعبا لذا ينبغي لمن يعمل عليه أن يرتدي كاتم للصوت لحماية أذنيه.

كما وصل التالي:

- 4 رشاش خفيف + أربعة أفراد

- 1 جهاز إشارة R105 من فصيلة الإشارة بفرد يحمله

- مدفع رشاش متوسط (يعمل بشريط طلقات بعدد 250 طلقة) بعدد فردين من سرية المعاونة

وهكذا أصبح عدد القوة بالضفة الشرقية 24 مقاتلا بقيادة الملازم/ فتحي عبد الله وهو ضابط حديث التخرج قليل الخبرة لم يشترك من قبل في أعمال قتالية، حيث تم دفعه إلى الجبهة في نهاية شهر مايو 1967 أي قبل النكسة بأيام.

وتم الدفع بجماعة من المهندسين العسكريين في منتصف المسافة بيننا وبين اليهود لزراعة الألغام المضادة للدبابات والأفراد في عجالة.. كل هذا تحت سمع وبصر اليهود.

كما احتلت فصيلة هاون بقيادة الملازم/ نادر عبد الله خلف نقطة الإرشاد على الضفة المقابلة وصعد أحد أفراد الاستطلاع إلى صهريج المياه الخرساني لتوجيه النيران متى بدأ الاشتباك.

 

طائرة الاستطلاع الإسرائيلية ترصد كل حركة على الأرض

كذلك احتلت فصيلة قوامها 26 مقاتلا بقيادة النقيب سيد إسماعيل إمبابي خلف أعواد البوص على طريق معاهدة القناة بالمنطقة المقابلة لبداية تقدم اليهود.

بالطبع كل هذه التحركات كانت مكشوفة وبالعين المجردة لليهود لكنهم برغم ذلك أرسلوا طائرة استطلاع صغيرة (سوبر بكب) حلقت فوق مواقعنا على ارتفاع منخفض جدا حتى إنني رأيت من موقعي قائد الطائرة وهو ينظر لنا ويضحك ولا بد أنه أحصانا كلنا فردا فردا وعرف ما نحمله من معدات، فضلا عن بث الرعب في نفوسنا.. هذا الطيار لا بد أنه أبلغهم على الجانب الآخر ألا يقيموا لنا أي حساب فلا بد أننا سنفر عند أول مواجهة!

في هذه الأثناء رأيت بالعين المجردة على خط الأفق في الجانب الآخر من الملاحات جنودا إسرائيليين، وهم ينفخون أحد القوارب المطاطية في حركة يعرفها جيدا أفراد الصاعقة حيث يتم نفخ هذا النوع من القوارب عن طريق جهاز يعمل بالقدم فيقوم فرد بالارتكاز على أكتاف فردين آخرين ويبدأ في الصعود والهبوط في حركة ميكانيكية حتى ينتهي من مهمته، هنا تأكد لدي حدسي بأنهم يستعدون لعملية تطويق من الخلف في حالة تعذر الاقتحام من الأمام، فقمت بلفت نظر قائد الفصيلة الذي بادر إلى وضع فردين في المؤخرة تحسبا لهذا الاحتمال، لكن أحد قادة العمليات لقيادة مجموعة الصاعقة عبر إلى القناة للاطمئنان على أوضاع الفصيلة ورفض فكرة أن يقوم اليهود بالالتفاف على الموقع عبر الملاحات فقام بتعديل وضع الأفراد قبل أن يعود إلى الضفة الأخرى، فراجعت الملازم/ فتحي عبد الله في أن يعود الفردان إلى مؤخرة الموقع لكنه رفض الفكرة تماما، وكان هذا خطأ جسيما دفعت الفصيلة ثمنه غاليا.

وانقضت الساعات الأخيرة من النهار في تحسين الأوضاع واستكمال الذخائر دون راحة أو طعام أو شراب، برغم توافر هذا كله، لكن التركيز كان من الجميع على المعركة وحدها.

 

 

 

العرق والجهد يحقق الانتصار

ومع آخر ضوء، تحديدا قبل المغرب بنحو 10 دقائق بدأت القوات الإسرائيلية في فتح نيرانها علينا على سبيل اكتشاف المدى الذي ستصل إليه لتحديد موقعنا بدقة، ثم وجهت نيران دباباتها نحو فصيلة النقيب سيد إسماعيل إمبابي الذي كان يشكل خطرا أكبر على اليهود، لكن هذه المجموعة الصغيرة التي لا يتعدى قوامها 26 مقاتلا نجحت في تعطيل اليهود لنحو ثلاث ساعات كاملة إلى أن سكتت نيرانهم فبدأ في التقدم وتوجيه نيرانه لضرب صهريج المياه على الضفة الأخرى لإسقاط نقط توجيه النيران وضرب المنطقة المحيطة به المنتشر بها مدافع الهاون، وبالفعل تمكن من ضرب الصهريج الخرساني وإسكات مدافع الهاون ولم يبق أمامه غيرنا.

بدأ العدو في التقدم نحونا وفتح نيرانه علينا في الوقت الذي لم نكن نملك فيه أي أسلحة يمكنها أن تصل إليه لذا لم يكن أمامنا إلا أن ندخر الذخيرة حتى يتقدم العدو أكثر، وبالفعل اقترب العدو أكثر وأكثر حتى وصل إلى منطقة الألغام وانفجر بعدها بالفعل بالرغم من انه كان يرى زرعها بعينيه لكن تفاديها كان صعبا.

في وسط هذا الصخب، كان الملازم فتحي عبد الله يرقد في حفرته خلف الحفرة، وبسبب حداثته بالمعارك كان ينادي عليّ كلما سمع صوتا ليسأل “إيه ده يا حسني يا سلامة؟!..” فأجيب: ”5 دانات هاون جايين في السكة.. وطي دماغك.. “.

بعد أن تخطى العدو منطقة الألغام ليصل إلى نحو 800 متر منا أصبح في مدى نيران المدفع ب10 الذي وصل إلينا بعد أن غادرت طائرة الاستطلاع الخاصة بهم بمعنى أنهم لم يكونوا على علم بوجوده، وبالفعل شكل هذا المدفع مفاجأة لهم قبل أن يركزوا نيرانهم عليه ليصيبوا طاقمه المكون من فردين ويحطموا تلسكوب التنشين الخاص به، وحينما وصلت لموقع المدفع لم أجد طاقمه ويبدو أنهم انسحبوا إلى الخلف ووجدت الذخيرة الخاصة به لكن جهاز التنشين كان معطلا فلجأت إلى التصويب عن طريق ماسورة المدفع بشكل تقريبي، بحيث كنت أستعين بفتح كتلة المدفع من الخلف وأوجه الماسورة قبل التعمير ثم أعمر المدفع وأطلقه، كل هذا بدون كاتم صوت.

قبل النكسة كنت قد قضيت 3 سنوات كاملة في اليمن فاكتسبت خبرات أهلتني لاستخدام معظم أنواع الأسلحة، وكان عليّ في هذه المعركة أن أتولى استخدام 9 مدافع RBJ لأن الجنود لم يتموا بعد تدريبهم عليها فكنت أطلق القذيفة وأترك السلاح لحامله ليتولى إعادة تعميره وأذهب للآخر بنفس الطريقة، وهكذا.. وقد أصاب ذلك العدو بالتخبط وعطله عن التقدم لنحو ساعتين.

وكان أن بدأ العدو في استعمال القذائف الفسفورية لإضاءة أرض المعركة وهي طلقات حارقة إذا سقطت على الجلد تصيب المقاتل بحروق بالغة من الدرجة الأولى، أما إذا أصابت الثياب فهي تجعل المقاتل هدفا سهلا للإصابة لأنها تجعله مميزا وواضحا وسط الظلام، لذلك أمرت المقاتلين بأن يخلعوا ملابسهم ويلقوها على الناحية العكسية إذا أصابتهم أي قذيفة من هذا النوع.

 

 

جمال عبد الناصر يجري اتصالًا تليفونيًا بالأبطال

وفي الساعة الثانية صباحا أجرى الرئيس عبد الناصر اتصالا تليفونيا مباشرا بالموقع، حيث أبلغ القائد بترقية جميع المقاتلين في الضفة الشرقية للدرجة الأعلى ومنحهم نوط الشجاعة، وحثنا على ألا نسمح لليهود بالمرور إلى بورفؤاد إلا فوق جثثنا.

وفي هذه الأثناء بدا أن العدو أدرك صعوبة المرور بشكل مباشر فلجأ للخداع، فأولا تقدم أحد أفراد استطلاع العدو ووضع جهازا صوتيا بين أشجار عشبية قريبة لكي نصوب أسلحتنا الصغيرة إليه وبما انه من المستحيل أن تصل إمدادات إلينا فتوقع أن نفر هاربين بعد أن تنفد ذخيرتنا لكنني أدركت الخدعة بفضل من الله فمنعت الجنود من إطلاق أي طلقة على الأشجار وتقدمت قرابة المائة ياردة وبأحد مدافع RBJ وبغريزة التوجيه على الصوت أطلقت إحدى الدانات ليصمت الصوت إلى الأبد.

وخلال التبادل النيراني الكثيف وفي لحظة شديدة الغرابة توقفت القوات المعادية عن الضرب فجأة وأسكتت كافة نيرانها وكان لهذا معنى واحد هو أن العدو له قوات خلفنا يخشى إصابتها وأنه قام بتطويقنا بالفعل كما كنت أخشى، فنبهت الملازم فتحي عبد الله وأشرت عليه بإرسال حاملي الرشاشات الخفيفة لتأمين المؤرخة لكنه رفض! وخلال هذا الجدل رأيت 7 أفراد على خط الأفق خلف الموقع موجهين نيران أسلحة صغيرة علينا، وقال صوت ينطق بعربية سليمة "ارمي السلاح، كل واحد يسلم نفسه ويرفع إيديه فوق!" فتأكدت أن الواقعة وقعت وتم تطويقنا.. كان الأقرب إلى المهاجمين من الخلف بالطبع هو ضابط الموقع/ فتحي عبد الله وفرد الإشارة الملازم له في الحفرة، وسمعت صوتا يسأل: "انتو مين؟.. انتو يهود والا سودانيين!" فصرخت بأعلى صوتي "انزل يا فتحي دول يهود" في الوقت ذاته تحركت بسرعة ووجهت رشاشا خفيفا "جرينوف" إلى اتجاه الملاحات لضرب أي شيء يتحرك مهما كان، وضغطت على زناد المدفع موجها إياه إلى الجميع ولم أتوقف إلا بعد انتهاء شريط الرصاص المكون من 250 طلقة، ولم أتحقق من مقتل المهاجمين إلا بعد أن سمعت أصوات الدبابات والمجنزرات تتقدم من جديد، لقد فشل التطويق ولم يعد أمامهم إلا الهجوم من الأمام..

ويكمل سلامة شهادته عن معركة البطولة والفداء قائلا: بدون لحظة تفكير وجهت الرشاش إلى القوات المهاجمة وصرخت في الجنود للاشتباك مع المجنزرات التي كانت عديمة الفائدة في الحقيقة مع هذا المدى القريب، لكن العدو كان يستخدمها لبث الرعب في الجنود، ومع ذلك دمرنا دبابة وعربتين مجنزرتين على بعد 80 إلى 100 متر واشتعلت النيران ودوت الانفجارات وأنا أتنقل وثبا من موقع إلى موقع مثل الكنغر، وعاقت هذه المركبات المحترقة تقدم من خلفها واستمر التراشق قرابة نصف الساعة قبل أن يفر اليهود هاربين!

بعدها ساد صمت طويل.. لا صوت بشري واحد من الطرفين.. لا أصوات رصاص.. لا أصوات قنابل.. أو محركات.. ليس سوى صوت النيران المشتعلة هنا وهناك.

لا أعرف ماذا حدث بعد ذلك، لكنني أفقت مع أول ضوء لاكتشف أنني الحي الوحيد في هذا المكان وأن المهمة نُفذت بنجاح، وأن العدو فر هاربًا.

ويضيف حسني: أفقت على صوت الرائد السيد الشرقاوي قائد كتيبتي وهو يناديني من الضفة الغربية للقناة ويأمرني بالعبور إليه سباحة قبل أن يجذبني من يدي ويخرجني من مياه القناة إلى سيارته الجيب التي كانت تختبئ خلف الأحراش، متجهين إلى بورسعيد.

 

عبد الناصر لم ينم ليلته لمتابعة سير القتال

وفي اليوم التالي وجدت طلبا لمقابلتي من النقيب أشرف مروان، صهر الرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله، وما إن رآني حتى احتضنني بقوة وعرفت أنه كان مع الرئيس جمال عبد الناصر في مكتبه يتابعان المعركة مباشرة، واتضح أن خط اللاسلكي كان مفتوحًا طوال الوقت وموصلا بنقطة الإرشاد ومنها بشكل مباشر إلى الرئيس جمال عبد الناصر شخصيًا في مكتبه حيث ظل مستيقظا طوال الليل يتابع المعركة ويخط على الورق تصوراته حول سير المعركة، وعلمت أنه خط اسمي حوالي 12 مرة، فلما سأله من هذا قال: “في واحد هناك اسمه حسني سلامة، هو اللي شايل المعركة على أكتافه".

 

الكتيبة 103 تظهر في معركة رأس العش

كان هذا هو الجندي المصري الذي لم يتملكه الشعور بالهزيمة في عام 1967 لأنه لم يقاتل فعلًا في هذه الحرب بل فرض عليه موقف الانسحاب في معركة لم يدخلها..

فلما سنحت له فرصة القتال لم يتردد..

واستخدم أسلحة لم يتدرب عليها..

وحفر الأرض بيديه..

بدون طعام..

بدون شراب..

بدون خطة مسبقة..

لكن اليهود فشلوا في تخطيهم حتى ولو على جثثهم..

وخلال الليل قمنا بإخلاء الجرحى والمصابين، ولا أعلم إن كان العدو قد أخلى جرحاه وقتلاه أم لا، لكنه حاول تعديل أوضاعه والهجوم في اليوم التالي في مواجهة منطقة التبين فتصدت له إحدى وحدات الصاعقة من الكتيبة 103 وهرب العدو مرة أخرى بالقرب من قطاع القنطرة شرق وفي داخل عمق سيناء.





 

تم نسخ الرابط