إحسان والعمالقة.. تطاول وعتاب وخذلان
كتب - عبد الحليم حفينة
إحسان عبد القدوس، اسم له وقعٌ خاص، قد يثير شهيتك للأدب وفن القصة، أو يدفعك للغوص في تفاصيل حكايات عالم الصحافة التي انهمك فيه بقلمه وإنسانيته، لكن يبقى أهم ما يميز حياة الكاتب الكبير علاقاته الممتدة بكبار الكتاب والمبدعين، ومعاركه الفكرية وربما الشخصية، التي لم يختر خوض غمارها في أحيانٍ كثيرة، في هذا التقرير نسلط الضوء على علاقة إحسان عبد القدوس بثلاثة من كبار كتاب ومفكري مصر؛ العقاد الذي تناوله بالنقد والتجريح، وطه حسين الذي آلمه انتقاده لجيله، فعاتبه عتابًا رقيقًا، وتوفيق الحكيم الذي أصابه موقفه من أزمة رواية "أنفة وثلاثة عيون" باليأس والإحباط، وشعوره بالخذلان بعد أن التجأ إليه.
.jpg)
تطاول العقاد
نشرت مجلة "روز اليوسف" عام 1956 حوارًا مع الكاتب الكبير عباس العقاد، أجرته الأستاذة مديحة عزت، هاجم فيه عدد من الكتاب، جاء على رأسهم إحسان عبد القدوس، وبمجرد أن وجه السؤال للعقاد عن إحسان وأدبه، أجاب بحدته المعتادة: أدب إحسان.. أدب إيه ده، دي كتب ألف ليلة وليلة أحسن من كتبه بمراحل، أدبه ده أقدم أدب في العالم وكانت له كتب قبل الميلاد في الهند والصين ومزينة بالصور الملونة.
واستكمل العقاد هجومه على إحسان، العيال دول كل واحد منهم يخطف له كلمتين يقول "هوب" الأدب الجديد والأدب القديم، يبقى لا هو عارف جديد ولا قديم ولا قرأ شيء ويقول أدب جديد آل.. هو فيه جديد من غير قديم.
وعندما سألته مديحة عزت؛ هل قرأ له كتب، قال العقاد: "الواد ده أنا مربيه ونوبة واحدة ست شتمته في التليفون علشان خاطري، وأنا لم أقرأ له أي كتاب، أبص في الصور بس".
.jpg)
عتاب العميد
لم يختلف رأي الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى عن رأي العقاد كثيرًا في جيل الكتاب الجدد آنذاك، فقد كان يرى في كتابات الشباب سطحية واستسهال، فكان رد إحسان عليه في مقال ُنشر بمجلة "روز اليوسف" عام 1958 بمثابة عتاب التلميذ للأستاذ، فيقول: "الأستاذ العميد الدكتور طه حسين لا يزال يصّر على اتهام الأدباء الشبان بالخطف والسطحية، أي إنهم يخطفون الثقافة خطفًا دون تعمق ولا تأمل، وأخشى أن أقول أن الأستاذ العميد يحيط في حكمه على الشبان بين الثقافة وبين وسيلة تحصيل الثقافة.
وفي إشارة للاختلاف بين عصر تكوين طه حسين وأبناء جيله والعصر الذي شهد ميلاد موهبة إحسان ورفاقه يقول: "لقد تغيرت وسيلة الثقافة وأصبح الشاب الذي يواظب على قراءة مجلة محترمة يستطيع أن يحصل في مدى عام من الثقافة على ضعف ما كان يحصله شاب عاش منذ ثلاثين عاماً، وقضى من عمره عشر سنوات يجرى وراء الثقافة كما أصبح الشاب الذي يدخل مكتبة يستطيع أن يخرج بعد نصف ساعة مزودا بعشرات الكتب في مختلف الفنون والذي يواظب في التردد على دور السينما يستطيع أن يعرف عن العالم قدر ما كان يعرفه أحد علماء الجيل الماضى.
ويستكمل إحسان: "إن الحواجز التي كانت تجعل من تحصيل الثقافة مهمة شاقة.. قد رفعت ولم تعد اللغة عائقا.. ولم يعد الأسلوب الجاف عائقا ولم يعد نقص الكتب وتأخر الطباعة عائقاً والذي يسافر إلى الإسكندرية بالطائرة لا يعتبر خطافاً، والذي سافر إلى الإسكندرية على ظهر حمار لا يعتبر متعمقا ولا متأملًا، لكن كلاهما يصل إلى الإسكندرية بطريقة مختلفة."
ويختتم مقاله في عتاب العميد فيقول: "وإنى أعترف أن الجهد الذي بذله الدكتور طه حسين في تحصيل ثقافته لا يمكن أن يبذله أي شاب من أدباء الجيل الجديد، ذلك لأن التقدم أغنانا عن هذا الجهد، بل أن الدكتور طه حسين نفسه كان عنصرا من عناصر التقدم الذي يقرأ كتب طه حسين يستطيع أن يستغنى عن كثير من كتب المستشرقين وكثير من كتب الأقدمين دون أن يكون قد خسر شيئا، إننا نبدأ من حيث انتهى من سبقنا، وطه حسين يريدنا أن نبدأ من حيث بدأ هو، ومعنى ذلك أنه يريد للحياة أن تقف.
.jpg)
خذلان الحكيم
كان أدب إحسان له أثر الكتابات السياسية، ففتح عليه باب الانتقاد اللاذع الذي وصل به إلى مجلس الأمة، ففي عام 1965 تقدم النائب عبد الصمد محمد عبد الصمد بسؤال للدكتور عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي آنذاك بخصوص رواية أنف وثلاثة عيون، التي وصفها بأنها جنسية هدامة.
وفي هذا الوقت كان رئيس مجلس الأمة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات الذي تحدث إلى إحسان وأخبره أن هناك سؤال موجه بخصوص روايته "أنف وثلاثة عيون"، وأنه سوف يحركه، وبطلب من مجلس الأمة انعقدت لجنة القصة بالمجلس الأعلى للآداب والفنون، التي كانت تضم في عضويتها توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ.
ويقول إحسان في هذا السياق، "فى هذا الوقت ذهبت إلى الأستاذ توفيق الحكيم وهو مجتمع بأعضاء لجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعرضت عليه الموضوع كله، وقلت له: القضية قضية أدبية وإن لجنة القصة هى صاحبة الحق فى أن تبدي رأيها فى هذا الاتجاه الأدبي، فإذا وجدت إنه اتجاه ليس من الأدب فى شيء، أو أن نشره يعارض المصلحة العامة توقفت عن السير فيه رغم إيماني به، لأن الرأي هنا سيكون رأى لجنة من المختصين، ثم إنى لا أكتب فى هذا الاتجاه فحسب، ولكن معظم قصصي بعيدة كل البعد عن هذا الاتجاه، ورغم هذا فلو كان هذا الاتجاه صالحا للنشر فإن من حقي أن أسير فيه".
ويضيف عبد القدوس في سياق تعليقه على الواقعة: "تكلمت كثيرًا وتفضل أعضاء اللجنة والأستاذ توفيق الحكيم وأيدوا هذا الاتجاه بل وهنئوني عليه فى حماس كبير فطلبت منهم أن يسجلوا رأيهم هذا فى محضر الجلسة لا للنشر فى الصحف، ولكن فقط لألجأ إليه فى حالة تقديمي للمحاكمة إذا حدث وقدمت، وهنا تراجع الأستاذ توفيق الحكيم، وفهمت منه أنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأي الأدبي المحصن إلا بعد استشارة الأستاذ يوسف السباعي، وكان يقصد استشارة الحكومة، وخرجت من اجتماع اللجنة، لست غاضبًا لكن يائسًا وأرسلت خطابا إلى الأستاذ توفيق الحكيم أعتذر له عن التجائي للجنة.
وفي رسالة عتابه للحكيم، عبَّر إحسان عن مدى الخذلان الذي أصابه بعد موقف الحكيم من أزمة رواية "أنف وثلاثة عيون" فيقول للحكيم: "ولعل سيادتك تذكر أن مثل هذه الضجة أثيرت عندما كتبت قصة لا أنام والتجأت يومها إليك عندما كنت مجتمعاً بأعضاء نادى القصة، وتفضلت أيامها وأيدت موقفي وشجعتني عليه.. وكان التأييد الأدبي أيامها يكفي، ولكن فى هذه الحملة الأخيرة لم يكن التأييد الأدبي كافيًا، لأن الحملة خرجت عن النشر فى الصحف إلى العرض فى ساحة مجلس الأمة، ثم حدثت فى وسط هذه الأزمة أن أعفيت من منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة" روزاليوسف"، ورغم أن السيد الرئيس جمال عبدالناصر) أرسل إليّ متفضلًا من يقول لى إن أعفائي ليس متعلقًا بشخصي ولا يمس ثقته بي، إنما هو متعلق بظروف بعيدة عنه كل البعد، إلا أننى ظللت مقتنعًا بأن موقفي من الاتجاهات الأدبية كان له دخل فى إعفائي، ولم يكن الإعفاء في حد ذاته يهمني، فقد كنت أسعى منذ وقت طويل لإعفاء نفسى من كل المسؤوليات الإدارية، ولكن كان كل ما يهمني هو ألا يكون لإنتاجي الأدبي دخل في هذا الإعفاء".
لم تنفد معارك إحسان بالقطع، بل إنها طويلة وممتدة، ولا تتسع المساحة الصغيرة التي نكتب فيها لسرد كل الحكايات، لكن كانت هذه مشاهد صغيرة من صورة أكبر، لما كانت عليه المعارك الأدبية قبل خمسين عامً، التي لم تغب عنها الانطباعات والأهواء الشخصية.



