رمضان زين الزمان (13)
كتبت - د. عزة بدر
تمر ولله الأمر
لرمضان في حي روض الفرج ملامح فريدة، ليس فقط لأن البيوت فيه تتواصل فيما بينها بعقود مزينة، وأوراق مفضضة قد سهر عليها أبناء الحي ليعلقوها قبل رمضان بأسابيع، وتسمع صوتها وهي تصدر لحنها الخاص عندما تداعبها نسمات الهواء في العصاري، موسيقات تجمع ما بين حفيف أوراق الشجر، وهسهسة رق إذا ما هززته بين يديك في رفق، ويعلقون فيما بين حبال الأوراق المفضضة والمذهبة فوانيس يبتكرها أبناء الحي من القماش الملون ومن الورق المزين، وحيث تضوئ لمباتها للسائرين في الليل، في حي لا ينام في رمضان ولا في غير رمضان، فهو حي تجاري بامتياز، من دوران روض الفرج، مرورا بشارع أبي الفرج حتى دوران شبرا، بل لأنه الحي الذي أحببته وسكنت فيه لعدة سنوات، وكل تفاصيله أعشقها، رائحة السمك المشوي في حارة الخضراوي، أفراح لياليه، وأعراسه الساهرة حتى الصباح، ملامح سوق روض الفرج الذي كان أشهر سوق للخضار والفاكهة في زمانه، وفي مكانه الآن قصر ثقافة روض الفرج، لكن بقيت أبواب السوق بنوافذها ذات الطراز المميز، وعقوده الجميلة التي لا تزال تحمل ملامح السوق القديمة، سكنت في هذا الحي بعد ارتحالي من دمياط في ثمانينيات القرن الماضي.
ورأيت السوق الشهيرة، وعالمها، مزادات الخضر والفاكهة، طقوس الشراء والبيع، لحظات إعداد أوراق التسعيرة، ورقها المقوى، وما كان يُكتب فوقه من عبارات بألوان زاهية "الصبر جميل"، و"يا رب سترك"، وبائعو البطاطا الساخنة يتجولون بعربات اليد الصغيرة في السوق ويلبون حاجة الباعة وزائري السوق من البطاطا فيشقون ريقهم بالمعسلة أوى يا بطاطا- حسب نداء بائعها- وقد كان حقا وصدقا، خاصة عندما تأخذ نصيبك منها على ورقة مطبوعة، تجرى عيناك على المكتوب فيها، وأنت تلتذ بطعمها الساخن، وقد قسمها البائع إلى قطع، فلا يمكنك الصبر حتى تبترد، لكنك قد ترفع الورقة بالبطاطا ساخنة إلى فمك، وتلتذ بطعمها.
وأتذكر أتوبيس 32 الذي كان يقلني من روض الفرج إلى التحرير، فإذا ما رأيته تهللت، وأذكر أنني كتبت عنه صورة قلمية في مجلة صباح الخير بعنوان "وسع يا عسل 32 وصل"، أما التورماي الذي كان يتحرك من دوران روض الفرج إلى باب اللوق، في رحلة جميلة أقطعها جالسة وبين يدي كتاب وعائدة وبين يدي ما تبقى من صفحاته أكملها في اليوم التالي، رحلة التورماي ورحلتي مع الكتاب، كم رحلة وكم كتاب، كان زمنا ممتعا.
وكالات البلح
فإذا هلّ رمضان ازدانت وكالات بيع البلح الإبريمي في منطقة ساحل روض الفرج وهي أشهر سوق رمضانية في مصر لبيع أجود أنواع البلح ولا تزال، ومنها يتم شراء البلح على مستوى الجمهورية.. تتألق هذه السوق في رمضان فقط فإذا هل هلال الشهر الكريم تفرغ تجار الحبوب والغلال في ساحل روض الفرج لبلح رمضان، يهجرون تجارة الحبوب ويتفرغون للبلح الذي لا يقبل معه أي شريك! تمتد الوكالات والشوادر، وتضيء المصابيح، وتتلألأ الكهارب وتلتمع فوانيس رمضان وضاءة، وكان يستمر العمل في هذه الوكالات من الثامنة صباحًا حتى فجر اليوم التالي.
البلح مصائر الناس
بخيوط السهر وثمار التمر تتعلق الأعين تترقب حركة البيع والشراء، تخفق القلوب وتتقلب بين خوف ورجاء فموسم بيع البلح الإبريمي في رمضان القاهرة يعني أفراحا في كل أرجاء الصعيد، والرواج معناه تجهيز "شوار الصبايا" وزواج الفتيات والشبان فتمتد الأفراح من أسوان إلى شلاتين– بالقرب من حدود السودان– كل النجوع والقري في الصعيد تنتظر نتيجة سوق البلح في القاهرة في شهر رمضان، البلح مصائر الناس، موسم رزق، ودموع فرح، توق وصال وأشواق وداد تنتظر الارتواء، بحبات التمر تتعلق الأبصار فلا تعجب إذا قال البائع بصوت يتراوح بين التسليم والإشفاق: "تمر ولله الأمر"! فحكاية التمر موصولة بالفرح والشجن، موصولة باللقاء والفراق، لقاء الأحبة وفراقهم وبين هذا وذاك، بين تسليم ووداع ترتفع الأيدي وتخفق القلوب، ويبتهل المبتهلون أن يجمعهم الله على خير في رمضان وأن يجمع شملهم ويبارك لهم في رزقهم ويبلغون آمالهم، ومعهم نبتهل أن يرزقهم الله الرزق الوفير.
الغالي
"أكل البلح حلو لكن النخل في العالي– وإيدي مش طايلة البلح– ليه يا رب خليت النخل في العالي" يتردد السؤال الحائر في عيني، وسألت حينذاك بدر زين رياض من دير مواس بالمنيا وكنت قد قابلته أمام شوادر البلح في سوق روض الفرج يقلب تمره بين يديه يحتضن بكفه حباته يبتهل إلى الله أن يكرم غربته ويعز أوبته فقد جاء إلى القاهرة في موسم البلح في رمضان واشترى جوالين من التمر ليبيعهما بالقطاعي يقول: "علشان ربنا يكرمنا بلقمة عيش للأولاد، نكسب في بيع الكيلو الواحد ربع جنيه، في بلدنا النخل كثير ولكن موسم بيع البلح في رمضان دائما في القاهرة، ننام تحت الكوبري، نصوم ونفطر تحت الكوبري "كوبري الساحل" ونرجع بلدنا على العيد مجبورين إن شاء الله، ومثل بدر زين رياض مئات المزارعين الذين تركوا زراعاتهم لذويهم في الصعيد وأتوا للقاهرة يرون في موسم بيع البلح للقاهرة، ووجه بحري موسم رزق فهم يأتون في منتصف شهر شعبان ويمكثون في القاهرة طوال شهر رمضان يتكسبون ربحهم البسيط ويعودون بفرحة العيد لأهلهم وأولادهم الذين ينتظرون على أحر من الجمر.
أصحاب النخل
أما أصحاب النخل فهم أيضا يمضون شهر رمضان في القاهرة ومعهم حصادهم من البلح فموسم بيعه في الصعيد ثاني مواسم الرواج والربح بعد موسم القصب في أسوان والصعيد، وبيعه يعني الزواج والشوار "الجهاز" والنعمة والرزق في بيوت الصعيد، والحكاية ليست السفر بالبلح للقاهرة فقط وإنما حكاية عشق طويلة بين صاحب النخل وبلحه، ذاك الذي نشتهيه تمرا وخشافا ونأكله في يسر وبساطة في ليالي رمضان فهو رحلة تعب وشقاء، وقال لي أشرف سعدي بكري من الأقصر أن رحلة البلحة من صعيد مصر إلى أهل القاهرة رحلة شاقة، فطول العام تتم رعاية البلح على نخله عن طريق خبراء تلقيح النخل وحيث تسمى هذه العملية "التلقاح"، والذي يلقح النخل هو كالطبيب له أجر خاص حيث يتم تلقيح النخل من الذكر للأنثى، ومن أشهر من كان يلقح النخل في الأقصر في ذلك الوقت عبد الفضيل الطيري، وفي موسم الحصاد تكون هناك مجموعات من الرجال من ذوي البأس أولي القوة يصعدون النخل ويجمعون البلح حيث يُحمل في سيارات ويُفرش على تربة الجبل في مناطق شديدة الحرارة نقية الرمال، وهنا تبدأ رحلة الرجال في الصعيد إلى الجبال حيث يمكثون من أواخر شهر أغسطس إلى أواخر شهر أكتوبر فيقومون بإكمال رحلة البلحة لكي تصبح تمرة صالحة للأكل فهي بين حرارة وصيانة وتبخير وفرز وتنقية حتى يتم تغليفها وتشوينها في أجولة محكمة لتسافر إلى القاهرة.
قدسية وطقوس خاصة
ولعملية تعبئة البلح طقوس خاصة فقد حكى لي عنها حينذاك "محمد محمود" من الأقصر فقال: "إنه بعد فرز البلح يتم إلقاء البلح الضعيف ويسمى "خوش" للبهائم تلك التي يأتي بها الرجال إلى الجبل للذبح فهم في العادة لا يأخذون في طلوعهم إلى الجبل سوى العدس والفول والمش الفلاحي والقراقيش، وهي الأطعمة التي لا يصيبها الفساد مع حرارة الجو أما إذا أخذوا لحومًا فإنهم يأخذون بعض الماشية الحية فتأكل البلح "الخوش" حتى يحين ذبحها، أما البلح الجيد فيتم تحويله إلى أكوام تبدأ من السفح إلى القمة فيكون أجودها أعلاها في الذري وهو البلح السكوتي ويليه البلح الفواخر، والعينات ثم الفايرة والشامية، وبعد تصبير البلح بهذه الطريقة- أي تحويله إلى أكوام- تتم تعبئة كل نوع وفصله عن الآخر في أجولة خاصة، وتعبئة أجولة البلح لها قدسية خاصة، فطوال هذه العملية لا يتحدثون فهذه لحظات مباركة فيقومون بالصلاة لله قبل تعبئة البلح والدعاء بأن يبارك الله في أرزاقهم ويزيدها ويطعم إخوانهم وأولادهم وأسرهم وأن يفيض الله عليهم بنعمته، ثم تتم تعبئة البلح في الأجولة في صمت مقدس مبتهل، وعندما يشعر أحدهم بأن التعب قد بلغ بالرجال ذروته فإنه يرفع يده مشيرا إلى التوقف للراحة ثم يستأنفون العمل بعد الراحة وذلك من المغرب حتى أذان الفجر أما بالنهار فهم يخيطون الأجولة فقط.
أغنيات الرحيل
والرجال لا يبدؤون الغناء إلا أثناء تحميل أجولة البلح على ظهور السيارات وهم معها مسافرون إلى القاهرة، فهنا تبدأ أغنياتهم فقال لي أحدهم "أغني للبلحة السكوتي" وهي أغلى أنواع البلح "يا بلح سكوتي جلى رقبتك" أي ارفعي رقبتك فأنت أغلى أنواع البلح، أما أشرف بكري فقد كان يغنى أثناء تحميل بلحه فيقول "سيدي مرسي يا أبو العباس، فصّل لي قميص ولباس، فصلته وقع وانداس يا خسارة يا ولاد الناس، في الغربة تقع تنداس، سيدي مرسي يا أبو العباس"! فلما سألت أشرف بكري عن سر هذا الغناء الحزين قال إنه يعبر عن الخوف من السفر، الخوف من الرحيل إلى القاهرة وخشية السوق وتقلباته والخوف من الخسارة والخذلان أما مناجاة المرسي أبو العباس فهو غناء يعتمد على مناجاة الأقطاب المباركين فقد يتوجه المغني بمناجاته لسيدي أبو القمصان أيضا وهو شيخ له مقام في القرنة في البر الغربي من الأقصر أو تتم مناجاة غيره من الأقطاب والصالحين.
الخوف من الحسد
أما محمد محمود من "الأقصر" فقد كان يغني أثناء تحميل محصوله من البلح في السيارات الذاهبة إلى القاهرة فيقول خوفا من الحسد عينك.. عينك.. الورد كان شوك من عرق النبي فتح.. سعيد يا نبي سعيد، من صلى عليه يسعد".
وهكذا أثناء تحميل البلح تصدح الأصوات بالأغنيات، فمن مشفق من مشقة الرحلة، ومن محب عاشق يتمنى الوصل بالحلال، وينتظر جبر خاطره في رحلة البلح إلى القاهرة فيقول المحب "صابح مسافر جاي يودعني/ بكى وبل المحارم أنا قلت ليش يعني؟! الأصل اللي خلا البكا صنعتك يا جميل ولا هو دلع يعني؟".
قال "البكا ماهوش صنعتي ولا دلع يعني إلا كلام العوازل مر يوجعني!"، هكذا تتعلل الحبيبة يوم الفراق وربما نظرت إلى الأعالي إلى نخل البلح فغنت من قلبها "يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا!" فالبلح فعلا وبحق هو دواء العليل المحب الذي أرقه الهوى والصب، فإذا تم بيع البلح تم الوصال والقرب بالزواج ولم الشمل، أما أغنيات السفر والرحيل إلى القاهرة فكثيرة، قال لي نصر سوريال إبراهيم، وهو من نجع النصارى بمركز إدفو: أرتجل أشعارا كثيرة تعبر عن المناسبات المختلفة خاصة أثناء تحميل البلح ليسافر إلى القاهرة، ومنها "قول يا حمام يا طاير خد الجواب وديه لنور العين وان قالك يا طير الجواب ده منين؟ قل له من اللي هلك جسمه علشانك، من قلة الحبر كتبهولك بدمع العين".
وقال لي نصر سوريال: إن أجمل أشعاره تواتيه وهو مرتحل إلى القاهرة وينتظر بشوق نجاح الرحلة والفوز ببيع البلح ولذا فهو يغني بين إشفاق الخائف ورجاء المرتجى فيقول: "روح يا زمن وسبنا في غلابتنا، إحنا السباع الكواسر جت الأيام وغلبتنا، والله إن سعدنا يا زمن يكون السعد عادتنا، وان ما سعدنا يا زمن بتكون عين وصابتنا".
أغاني الأفراح
وتأتي سيرة البلح وذكره على رأس كلمات أغاني الأفراح في الصعيد فهو سبب السعد والهناء ورواج بيعه يعني المزيد من الأفراح والأعراس، ويبدو أن ارتباط الأعراس بموسم بيع البلح كان منذ سنوات طويلة فقد سجلت أقلام الدارسين هذا الارتباط فها هو الفرنسي جاستون ماسبيرو يذكر بعض الأغاني التي جمعها من صعيد مصر في الفترة من "1910– 1914م" ومنها "يا مين يجيب لي حبيبي على القصور عندي، ياكل من التمر ويتقلب على الهندي، يا مين يجيب لي حبيبي على القصور يرتاح، ياكل التمر ويتقلب على التفاح".
في الوكالة
وفي وكالات بيع البلح الإبريمي يتم البيع والشراء نظير عمولة يأخذها صاحب الوكالة، فإليه يفد المشترون من شتى أنحاء الجمهورية وبعد بيع البلح يتم إيتاء صاحب الوكالة حقه وقال لي ناشد معوض يوسف "تاجر غلال" من خمسين سنة وأنا أتفرغ لبيع البلح الإبريمي في شهر رمضان من كل عام، مهنة ورثتها عن الأجداد وشهر رمضان شهر مبروك وخيره وفير ورغم أن المحصول في ذلك العام قد تضرر من الحر في شهر أغسطس إلا أن المحصول وفير وأسعاره في متناول الجميع فهنا البلح البلدي والسكوتي والعينات والفواخر أيضا، أما أحلى أنواع البلح فهو البرتمودة والسكوتي وهذا الأخير فيه نسبة عالية من السكر".
وقال لي منير صموئيل: "البلح البرتمودة هو أكل الباشوات، فالبلحة منه مثل الوجبة الدسمة!، وبعض التجار يطلقون على البلح الفواخر بعض الأسماء المستحدثة مثل بلح عيون ليلى علوي أو بلح شيرين أي على أسماء الجميلات".
حركة البيع والشراء كانت على أشدها، سيارات تحمل البلح إلى وجه بحري ومحافظات مصر المختلفة حيث يتم التسجيل بالوكالات في سجلات خاصة بكل وكالة الكمية المباعة واسم صاحب البلح والسعر الذي بيع به الجوال فالبيع هنا بالجملة فقط.
الإمبراطورة
وأجريت حوارا مع أول سيدة تعمل في تجارة البلح، في ساحل روض الفرج حينذاك، ويلقبونها بالإمبراطورة فقد نجحت في تجارة البلح، وصارت لها شهرتها في هذا المجال وهي "ليلى النحاس" تاجرة الحبوب والغلال، وتقول عن تجربتها في وكالتها "نجحت في هذه التجارة لأنني لم أكتف بمجرد استقبال وصول أجولة البلح من الصعيد بل سافرت إلى قرية لأختار البلح الذي أقوم ببيعه، في الصعيد الدنيا لسه فيها خير والناس على الفطرة، كرماء يستقبلوننا بكل مودة، ويقدمون لنا كل ما لديهم حتى ولو كان طعام عيالهم، أعيش شهرين في الجبل على العدس والفول، وأراهم وهم يفرزون البلح، أحضر أفراحهم وأشهد مقدار سعادتهم فأبتهج، الدنيا ليست مالا فقط، وإنما الرضا النفسي والسعادة بتحقيق الذات مسألة مهمة لأي تاجر يعمل في السوق ونجاحي في تجارتي هو حصاد تعاون وتفاهم بيني وبين زوجي وهو تاجر أيضا وكذلك اقتناع أولادي ومحبتهم لي".
تتواتر الأجولة وصورها في كل أركان الوكالة عن طريق دائرة تليفزيونية مغلقة، عبارات وآيات منقوشة على جدران الوكالة "سبحان الله"، "الله جل جلاله"، وآيات من سورة الناس، وآيات من سورة الفلق، رسومات بسيطة لنخيلات صغيرة خضراء باسقة ذات فروع وجذور، نخيلات تتعانق كما تتعانق الأيدي وهي تحتضن التمر، الأجولة بزادها الوفير، الأعين تترقب تحول البلحة إلى مية! (إلى مال) الأعين المشفقة والقلوب التي أرهفها الشوق والانتظار، والصبر الذي لم يعد في قوسه منزع، تتعالى نداءاتهم "حياني يا بلح.. شارب من مية النيل لما ضاقت أخلاقك!"، "سكوتي يا بلح جلي رقبتك"، "جاني الطبيب وجالي مالك ومال انشغال بالك؟ يا ميت ندامة على اللي حب ولا طالشي".
أتأملهم.. شوقهم وإشفاقهم، رحلة الرجاء والخوف في أعينهم، رائحة الفراق ورجاء الوصل بالزواج وجمع الشمل، أرقب ذلك التمر الذي ألتهمه بكل بساطة وأشرب ماءه دفعة واحدة، لا أتريث ولا أصبر عنه بعد انطلاق مدفع الإفطار، الأذان الساحر.. الله أكبر.. الله أكبر"، والتمر بين يدي أتأمله.. أتريث.. "اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت.. أقلب بين يدي التمر الصغير الذي لا يعرف نخلته إلا صاحبها كما قال لي الحاج محمود إمام "من الكوامل" بمحافظة سوهاج، أتذكر عربي بهنسي مرعي وهو يعطيني تمرة ويقول "شوفي قلبها.. شوفي لحمها.. بلحة سمينة كويسة"، في خاطري ما زالت أصوات الباعة حول الشوادر على أبواب الوكالات وتحت كوبري ساحل روض الفرج تتردد في سمعي: "شامية.. شامية"، "بجنيه ونص" يابا " من "غير فلوس"! "خلي عنك خالص"، أتذكر الذين تركوا أولادهم وقراهم من أجل لقمة العيش، من أجل موسم الرزق، موسم بيع البلح في القاهرة فأدعو الله أن يرد غربتهم وأن يكرم أوبتهم، وأن يعودوا إلى قراهم مجبورين فإذا قالوا بين التسليم والرضا وهم يبتسمون بين إشفاق ورجاء "تمر ولله الأمر" فقد صدقوا فسبحان مقسم الأرزاق وسبحانه الرزاق الكريم الفتاح العليم.
وإلى حلقة قادمة



