قبل أن نخوض في هذا المجال علينا التعرف على فن التفاوض، الذي تعرفه أغلب المدارس بأنه: هو الحوار والمناقشة بين طرفين (شخصين أو مجموعتين) حول موضوع محدد للوصول إلى اتفاق نهائي أو مبدئي على عدة مراحل يتفق عليه الطرفان، وكذلك فإن التفاوض هو عرض مطالب كل طرف وتبادل الآراء، تقريب وجهات النظر، الوصول إلى الحلول المقترحة، تكييف الاتفاق واللجوء إلى كافة أساليب الإقناع المتاحة لكل طرف لإجبار الطرف الآخر على القبول بما يقدمه الأول من وجهات نظر أو مقترحات تنتهي باتفاق يتبادل بموجبه الأطراف الوثائق المطلوبة ويكون ملزما تجاه أنفسهم أولا وتجاه الطرف الثاني (فردًا أو مجموعة).
"فن المفاوضات" هو عالم كبير وشاسع في العصر الحديث وهناك مدارس خاصة لصقل هذه الصفة لدى المفاوضين خاصة الدبلوماسيين ورجال الدولة. وأنا شخصيا أعتبر أهم سمات نجاح الدبلوماسي هي (العلاقات العامة وفن التفاوض) لكونها هي حجر الأساس بالحياة اليومية والعملية.
إن أهم سمات التفاوض؛ هو التميز في الأداء والطرح، لغة الجسد، نبرة الصوت وهدوء الأعصاب، الحنكة الكلامية، بعد النظر للموضوع، احتواء المقابلة والمطاولة والصبر في النقاش في الاجتماعات، القدرة على إخفاء الحقائق والمطالب والشروط دون اللجوء إلى الكذب، الإلمام الكامل بكل مفردات الموضوع من ناحية علم اللغة القانوني العام وعلم الكلمة وعلم المعنى، لباقة اللسان والتوقف في الكلام عند نقاط القوة في المفاوضات، الاستمرار بالتفاوض ضمن أدلة حقيقة واقعية ملموسة، أن تكون لدى المفاوض القدرة الكافية على تحليل الطرف الثاني والربط بين المواضيع المطروحة للمناقشة، أن يكون المفاوض ذا عقلية لماحة وأن يكون سلسًا مرنًا ومع ذلك حاسما عند اللزوم، وقبل كل هذه السمات يجب أن يكون لدى المفاوض تخطيط ودارسة مسبقة للموضوع وتحليل جيد لنقاط النقاش (قوتها وضعفها) مبني على التحليل المنطقي لغرض تحقيق أعلى المعايير والوصول إلى هرم المهارات لسمات التفاوض. كل هذه السمات تعتمد اعتمادا كليًا على أصول واستراتيجية الدبلوماسية التي يجب اتباعها لغرض معرفة قدرة وشخصية الطرف الثاني.
إن من صفات المفاوض المحترف هي؛ القدرة على التحليل وتصور المشاكل والسلبيات والإيجابيات، القدرة على الحكم الصائب على الأمور القاصرة أو المجزئة والغير واضحة المعالم، القدرة الكاملة في التلاعب بمفردات اللغة من ناحية الكلمات والمعنى، القدرة على أتخاذ القرارات وحسن التصرف في الوقت المناسب وعدم التعصب أو إبداء عدم الرضا لأن ذلك من نقاط ضعف المفاوض، المرونة في تقبل آراء الطرف الثاني والاستعداد التام للتفاوض معه استنادا للهدف المرسوم، الاتزان النفسي والنضج العاطفي والابتعاد عن المشاعر والأحاسيس، المعرفة الكاملة بالجوانب القانونية والاقتصادية واللغوية خاصة المترجمة إلى لغة أخرى وكذلك الانتباه إلى (فقرة التنقيط) بين الجمل اللغوية سواء باللغة العربية أم الإنجليزية أو الأخرى، الانتباه واليقظة الدائمة من كافة الاحتمالات، وضع خطة بديلة أولى وثانية أو بالأحرى احتمالات أولى وثانية.
إن سمات الشخصية التفاوضية الدبلوماسية لا تأتي من قراءة كتاب أو الاطلاع على النظريات الحديثة، وإنما تأتي من خلال الورش التدريبية والعمر الطويل في هذا المجال الاحترافي والخبرة المتنوعة في مواضيع مختلفة ومستمرة وأماكن مختلفة معتمدا على المعرفة والمهارة وتحسين القدرات الدبلوماسية وخاصة في موضوع البروتوكول والإتيكيت التي تدخل ضمن شخصية المفاوض، (يقال إن الرئيس الراحل عبد الناصر طلب من معاونيه معلومات دقيقة عن الرئيس الأمريكي واهتماماته وصفاته الشخصية قبل الجلوس والتفاوض معه، فأحضر له مجموعة من الصور تبين الرئيس الأمريكي وهو يضع قدميه على سطح مكتبه، مما دفع عبد الناصر للقول" هذا الرجل مغرور ويبدو أنني سأصطدم به" ولكن بعد التوضيح من مدير المراسم والتشريفات بأن هذه عادة عند الأمريكان لغرض الاسترخاء) أي بمعنى على المفاوض معرفة سلوك وثقافة الطرف الثاني المقابل والتي تعد أساسية قبل اللقاء وإلا سيكون تعسرا في عملية التفاوض، على المفاوض قبل الدخول إلى المفاوضات يجب التحري وجمع المعلومات عن سمعة وشخصية الطرف الآخر من مهارات وخبرات وثقافة.
إن الحنكة الدبلوماسية لدى المفاوض تجعله يفكر بدل الخصم ويقوم بتحليل أفكاره والتنبؤ بما يريده الخصم، والتنبؤ بما يعتقد أن الخصم يريده منا، وبهذا توضع التصورات لأهداف الطرف الثاني لكل سيناريوهات الحوار ووضع كافة البدائل المتاحة من أجل الوصول إلى الهدف بأقل الخسائر المحسوبة.
الحكمة الدبلوماسية في المفاوضات وهي استراتيجية مهمة في النجاح دائما تقال وتردد وهي (خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام) ما يعني أننا قد خضنا المفاوضات بنجاح وعرفنا عقلية خصمنا وما يريده منا أن يحقق، وتبقى بأيدينا الحجج والبراهين والبدائل لغرض المناورة والوصول إلى أهدافنا بعيدا عن الكذب وعدم المصداقية بالوعود لأن ذلك يهز الثقة المتبادلة ونخسر كل المفاوضات.
إن المفاوضات تبنى على قوة الشخصية واحترام الذات والمقابل والثقة بالنفس وتقسيم مصادر القوة إلى مصادر داخلية وأخرى خارجية ومعتمدين على عناصر القيادة والبروتوكول والإتكيت لأنها أساس المواجهة والمناقشة.
* دبلوماسي سابق



