الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي
بوابة روز اليوسف

عن الشفاهية المعاصرة وحضور السرد في المسرح والسينما، بل وفي الأغنيات المصورة، والتقارير الإخبارية الاحترافية، يمكنني تأمل ذلك الحضور بشكل خاص في الفنون التعبيرية المصرية وزميلاتها في الصور السردية الإعلامية، ولأن السينما في مصر أخذت عن المسرح، ولأن المسرحية المصرية الحديثة تأثرت بالظواهر الشعبية التمثيلية، وفي القلب منها الراوي الشعبي، فقد عثرت على قطعة نادرة تمزج السرد الشعبي بأطياف ألف ليلة وليلة، هي بمثابة قطعة نادرة في علاقة ما هو شفاهي بما هو كتابي في الفنون الدرامية المصرية.  

هذا وفي عصر المعلومات، أصبح النوع الروائي لصيقاً بمبدأ تداخل الأنواع. 

فالسرد الروائي لا يمكن فصله عن الشفاهية المعاصرة، التي ظهرت بشكل واضح في تكاثر العناصر المسموعة المرئية عبر البث الرقمي الفضائي اللانهائي، وعبر الشبكة الدولية للمعلومات، مما جعل السرد المكتوب في حالة تفاعل واضح معها، في ظل حضور حاد للصور الكثيفة. 

وهو الأمر الذي أدى إلى خلط الأدبي بالفني، مما يجعل التأمل التاريخي للإبداع المعاصر في الدراما المصرية ضرورة تبدأ من رصد المزج بين التداولي الشفاهي والكتابي المدون، والتراثي المحلي بالتراثي العالمي. 

إنها إذن لغة الصورة، التي تتجاوز الشفاهية اللفظية بشفاهية جديدة. 

إنه إذن حال السرد المعاصر في علاقته بالفعل المسرحي. 

وامتزاج المسرح كفعل درامي يحدث ولا يروى عنه بالسرد الروائي، له تاريخه في الذائقة المصرية، فهو يعود إلى الظواهر الشعبية التمثيلية. 

وفي القلب منها شاعر الربابة أو الراوي الشعبي أو الحكواتي، وهى أسماء لذلك السارد الشفاهي الذي يحكى تراثًا تناقلته الأجيال ويضيف ويحذف ما يريد، ويصوغ ما هو موروث بصياغة مخيلته الخاصة التي يعرف كيف يتقبلها جمهوره. 

وهو أثناء التجسيد الحي باستخدام الإيحاء الصوتي وألوان الصوت الموحي بالحزن أو الغضب أو الاستنكار، مع لغة الجسد الدالة على ذلك المعنى يحمل رؤيته العاطفية والإنسانية والفكرية للرواية التي يرويها، وكما يرى الناقد الشهير باختين صاحب نظرية الاحتفال الشعبي أن الراوي هو "الموجه الأول لأيديولوجيا النص، والقناة الواعية التي تسرب الأحداث وتحرك الشخوص، وتؤسس الفضاءات، وفق استراتيجية سردية مبيتة، وعادة ما يكون أداة إجرائية منتجة وكاشفة في المتون السردية المكتوبة، بينما يعري الخطاب النقدى الراوي الشعبي من الوعي الفكري، مسلمًا بخياره نافيًا عنه أي وعي أيديولوجي". 

بينما يمكن مناقشة رأي باختين عبر فكرة أساسية مهمة يعرفها من تعامل بشكل مباشر مع الرواة الشعبيين، وهي قدرتهم على الحذف والإضافة وإعادة صياغة المفردات واختيار المتن الملائم لكل جمهور بمعنى قدرتهم على الملائمة بين ما يسرد، وبين وعيهم بأفق توقع وترقب الجمهور المجتمع حول الراوي وما يناسب المناسبة، التي يتم عقد جلسة الحكي بسببها.

إن الراوي يصدر عن وعي بالجمهور وبالموضوع المروي عليه، وهو يقوم بالفعل التجسيدي عبر التشخيص المتخيل للأحداث المروية.

وهو الأمر الذي لا يخلو من مهارة خاصة ذات طابع خلاق في التعبير بملامح الوجه، وأوضاع الجسد ولغته، ونبرات الصوت. مما يجعل الراوي الشعبي المصري صاحب تأثير واضح في السرد الدرامي المدون في المسرح والرواية المصرية الحديثة. 

ويمكن رؤية مصدره الشعبي من ظاهرة الراوي التي يعتبرها الكثيرون من النقاد من أبرز الظواهر الشعبية التمثيلية. 

وبالتالي يحسب هذا النوع من السرد التمثيلي كنوع من أنواع فنون الأداء، وهو الأمر الذي تدرسه بعض مقتربات الأنثروبولوجيا المعاصرة على أنه يقع على هذه المواقف التي تتحقق فيها العلاقة بين المتكلمين والسامعين، ومن خلال تحليل العوامل المكونة لهذه العلاقة وفي إطار هذا الفهم، وبالعودة إلى التراث الروائي المصري المستند بوضوح لأداء الراوي الشعبي، وبعيداً عن تجارب الآباء المؤسسين للمسرح والرواية، يمكن التوقف عند قطعة فنية نادرة هي حكاية تودد الجارية وما حصل لهما مع العلماء والمهندسين والقراء والمنجمين في حضرة أمير المؤمنين هارون الرشيد.

وسر ندرتها أنها أول رواية مطبوعة مجهولة المؤلف، وهي موثقة ومنشورة نشراً عاماً من مكتبة أسعد محمد سعيد الحبال وأولاده، جدة/ الحجاز، مطابع الشمرلي، القاهرة.

وهى بلا تاريخ نشر دقيق، ولكن إيداعها بدار الكتب المصرية يعود بها على وجه التقريب إلى منتصف الستينيات من القرن الماضي.

وفي تلك الرواية التي تعبر عن الطباعة واستمرار تداول الرواية الشفاهية للجارية تودد عبر أجيال جديدة، حاول الراوي الشعبي عبرها تقديم تجربة نادرة في عالم السرد، ألا وهى استمرار سرد الحكاية الشعبية عبر الكتاب المطبوع، ولم يشأ الناشر وهو هنا الراوي الغائب، أن ينسب الأثر الفني المتداول شفاهياً إلى شخص بعينه.

وهو بتغييبه للمؤلف وحضور دور الناشر يقوم بعمل غير منظم في مجال دراسة وتحقيق التراث، وإن لم يذكر ذلك بوضوح علمي.

لحضور فكرة السرد المطبوع عن الروي والسرد الشفهي الأصلي، وهو يشمل الراوي في رواية حكاية الجارية تودد، بالاستقلال الراسخ في أداء الراوي الشعبي بالسلام على الجمهور والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

ثم يبدأ السرد معتمداً على الخطاب المباشر للجمهور الذي يقوم على غياب للمسافة النفسية والجمالية، الحاضرة في الكتابة الروائية التقليدية، وفي الدراما المسرحية.

إن حكاية الجارية تودد تصرف عفوي تلقائي حر غير قصدي أو عمدي، وفقاً لمفهوم جمع وتحقيق وحفظ ونشر التراث الشعبي.

إنه فعل نقي لنشر الشفاهي بطريقة كتابية في تعبير واضح عن عملية التفاعل الثقافي التي تخلط الأنواع الأدبية بالفنية، والتداولي الشفاهي بالكتابي.

وربما تأتي ملاحظة الأداء العفوي لمزج ما هو شفاهي بما هو كتابي كملاحظة نقدية لأثر نادر هو حكاية الجارية تودد لدور قصدي منتظر مع تطور أدوات التواصل الاجتماعي ودمج الأدوار بين الفنون والإعلام لفرص كبيرة متاحة قادمة في سرد التراث الشعبي، وهوامش الحياة اليومية، والواقع بالمستقبل. 

مما يجعلنا نفكر تفكيراً مستقبلياً بإمكانية وجود تطبيقات واسعة الانتشار تحمل فرصاً كبيرة لمزج ما هو شفاهي بما هو مكتوب بعالم جديد تحكمه قواعد جديدة في التلقي تعتمد على المسموع المرئي. 

أنواع جديدة متوقعة قادمة من فنون السرد تتجاوز مزج السينما بالمسرح والسينما بالرواية إلى مزج جديد بفنون التكنولوجيا وإمكانياتها اللامحدودة. 

تم نسخ الرابط