"التجارة الصامتة" في إفريقيا
تحدثت عن "التجارة الصامتة" في إفريقيا العديد من المصادر التاريخية، فقد كـان لطبقة التجار من السكان المحليين في غرب إفريقيا بصفة عامة طريقة فريدة في مقايضـة معدن الـذهب بـ"الملح" بين التجار من أهل السودان والتجـار القادمين من بلاد شمال إفريقيا الذين كان أكثرهم من العرب والبربر، وهؤلاء كانوا يأتون محملين بألواح "الملح" سواءً من مناجم "أوليل" الذي يقع عند مصب "نهر السنغال" عند الحدود فيما بين كل من موريتانيا والسنغال، أو محملين بالملح المستخرج من مناجم منطقة تغازي (تقع أطلالُها في موريتانيا).
وكان التجُار العرب (أو البربر) القادمون من أسواق الشمال (أي شمال إفريقيا) يضعون ألواح الملح في منطقة متعارف عليها فيما بين الطرفين ثم يـذهبون، وعندئذ يأتي التجار المحليون (الأفارقة) ويقومون بوضع قطع الذهب في مقـابل ألواح الملح الموجودة، فإذا أخذ التجار العرب الـذهب، ويتم ذلك دون كلام أو حديث.
أما لو حدث العكـس ولـم يأخذ تجار الملح (العرب) ما يقابل ذلك من مثقال الـذهب، فإن ذلك يعنى أنهم ليسوا راضين عن "المُقـايضة" أو معترضين على الوزن، وهو ما يعني أنهم يريدون كميات أكبر من الذهب في مقابل ألواح الملح التي وضعوها، وعندئذ كان التجار الأفارقة يعودون بكمية أكبر من الذهب إذا وجدوا أن ذلك أمرًا مقنعًا، وتُعرف تلك المقايضة في روايات المصادر التاريخية باسم: "التجارة الصامتة" Silent Trade.
ولا ريب أن "التجارة الصامتة" نوع غريب من التجـارة الذي كان ذائعًا في بلاد السودان الغربي إبان مرحلة مبكرة من تاريخهم القديم، والمؤكد أنها طريقة لم تدم وقتًا طويلًا.
وكانت سلعة "الملح" نـادرة في أسواق بلاد "غرب إفريقيا"، ومن ثم كان الناس يضطرون إلى أن يقايضوا الـذهب بألواح الملح رغم اختلاف قيمة السلعتين السوقية خارج نطاق الصحراء الكبرى، وذلك بسبب ندرة وجود الملح، ولهذا فإن بعض المصادر الكلاسيكية تقول: "والملح معدوم في كل بلاد السودان (وهي بلاد غرب إفريقيا)...". ومن ثمة كان الأفارقة في ممالك الجنوب في مسيس الحاجة للحصول على الملح القادم من الشمال مع التجار العرب والبربر بأي ثمن، حتى لو أخذوا الملح بذات الوزن من الذهب.
ومن اللافت أن التجار الأفارقة كـانوا فيما تذكر المصادر "يبذلـون في ذلك كـل صُبرة ملح مثلها من الـذهب"، أي أن كل كمية من الملح تساوي وزنها من الذهب.
ويبدو أن "التجارة الصامتة" كانت معروفة فحسب إبان البواكير الأولى لنشاط "التجارة الصحراوية" بين الشمال والجنوب، ولاريب أنه بمرور الوقت تغيرت طُرق التبادل التجاري وتجاوز التجار من الجانبين هذا "النمط البدائي" من "المقايضة"، وهو الأمر الذي تؤكده الرواياتُ التاريخية.
وتذكر المصادر التاريخية أن تجار الذهب الأفارقة في الجنوب كانوا يشترون لوح "الملح"، أو حمل "الملح" نظير قدر معين من الذهب، وهو قدر كان يتفاوتُ ويختلف بالطبع من مرحلة زمنية إلى أخرى أو من مكان لآخر، ويذكر الرحالة ابن حوقـل (ت: 350هـ) في كتابه المعروف "وصف الأرض" أن حمل الملح بمدينة "أودغست" في موريتانيا كان يُباع في بـلاد غرب إفريقيا في أيامه فيما بين "مائتـي" إلى "ثلاثمائة" دينار.
بينما يذكر الرحالة "ابن بطوطـة" أن حمل الملح كـان يُباع في أيامه (وهو المتوفى سنة: 779هـ) بحوالي عشرة مثاقيل إلى ثمانيـة من الذهب في مدينة ولاتة، أو "إيـوالاتن"، وهي من مدن مالي حاليًا.
أما في بعض مدن "مملكة مالي" الإسلامية التي حكم ملوكها خلال الفترة (596-874هـ) فكان الحمل من "الملح" فيما يذكر ابن بطوطة يُباع بحوالي "ثلاثين" مثقالًا من الذهب، وربما يبلغ ثمنه عشرين مثقالًا، وربما يصل في أوقات الذروة لحوالي "أربعين" مثقالًا من الذهب، وعلى هذا فإن سعر الملح كان يختلف في ذات الوقت من مدينة إلى أخرى في بلاد غرب إفريقيا، وهو ما يبدو جليًا من خلال رواية ابن بطوطة وغيره من الرحالة والمؤرخين القدامى.
أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي



