لا تهوين فى قضية النيل، لكن لا تهويل أيضًا. ثقة كاملة فى القيادة السياسية على علاج الأزمة باحترافية دول.
احترافية الدول شىء، وتهويمات مواقع التواصل، وتخرّصات فيس بوك وتويتر شىء آخر.
مصر قادرة، وسيظل نيلها يجرى. لدى القاهرة ما لديها من وسائل ردع. قدرة الدولة المصرية واختياراتها مُطلقة فى حماية حق تاريخى ووجودى. لذلك فالاصطفافُ الوطني خلف القيادة السياسية واجبٌ، فيما تتعامل الدولة مع الأزمة حسب المقتضى، ووفقًا لاستراتيچيات رشيدة.
الحروب فى الغالب ليست اختيارات أولى لدى الدول الرشيدة.. عدم النزوع للصدام بالقوة لا يعنى الضعف، ولا ينفي القدرة والجاهزية.
صحيح لدَى مصر القدرة الفائقة، لكنها لا تزال ترغب فى التعاون وتقديم خبراتها فى التنمية للجميع.
(1)
تعاملت دولة 30 يونيو باستراتيچيات متكاملة لإصلاح كثير من أزمات موروثة فى الداخل والخارج. لا بُدّ من تكرار الإشارة إلى أن أزمة سد النهضة واحدة من تداعيات هوجة يناير 2011.
شروع إثيوبيا فى تنفيذ سد النهضة، الذي كان مشروعها المؤجل منذ أكثر من 45 عامًا، بدأ مع بداية مرحلة الفوضَى التي دخلتها مصر بعد يناير 2011، حينما غابت الدولة، وظهر المهرّجون فى صور التقطوها فى أديس أبابا مع الرئيس الإثيوبى، معلنين نجاح ما سَمّوه وقتها بالديبلوماسية الشعبية!
استمدت إثيوبيا قوة الدفع للمُضى فى إنشاءات السد الأولية، بينما كان الإرهابى محمد مرسى، مجتمعًا ببهلوانات السياسة، وتجار الأوطان، يتكلمون أحاديث المصاطب على الهواء مباشرة من القصر الجمهورى. أزمات سنوات ما بعد يناير كبيرة وكثيرة، وآثام عام الإخوان أكبر وأكثر.
(2)
النيل قضية وجود، وهبة إلهية، وحقوق تاريخية، ومصر لن تعطش أبدًا. لا تتغاضى مصر أبدًا عن حقوق استراتيچية، ومياه النيل أمن قومى. لدى «عبدالفتاح السيسي» القدرة على الحسم بخطوط حمراء عند المقتضى.
صحيح لا يزال التعنت الإثيوبى مستمرًا، لكن تكسب مصر فى المقابل خطوات واسعة وناجحة ومؤثرة لحشد وكسب تأييد دولى وعربى وإفريقى لقضيتها العادلة. أظهرت الدبلوماسية المصرية باقتدار رغبات مصر فى التنمية والتعاون حتى مع إثيوبيا، بشرط ضمان حقوقها المشروعة، ورفض أى ما قد يؤدى إلى عدم الاستقرار فى المنطقة.. وفى إفريقيا بالذات.
أطلق «سامح شكرى» للعالم رسائل قوية من مجلس الأمن. حمل وزير خارجية مصر الملف لمجلس الأمن معنونًا ببيت شعر من نشيد القوات المسلحة المصرية.
المعنى واضح، ورغبات مصر فى حلول عادلة وقانونية للقضية واضحة هى الأخرى.
(3)
لا ترغب مصر فى اشتعال الأوضاع فى القارة الإفريقية، لذلك تمد القاهرة يد البناء والتنمية.
وضع «عبدالفتاح السيسي» التعاون والتنمية فى إفريقيا على أولوية أچندة الدولة منذ توليه المسؤولية. كانت مصر صوت إفريقيا للعالم فترة ترأسها الاتحاد الإفريقى. وفى جنوب وشرق وغرب القارة، تنتشر الأيدى المصرية والشركات المصرية والخبرات المصرية لدعم مشاريع عملاقة ببناء ونماء ودرء مخاطر الفيضان، وإصلاح وصيانة سدود، إضافة لبعثات المساعدات والخدمات الطبية.
رغبة مصر فى التعاون مؤكدة.. ورغبة القاهرة فى إقرار معاملات حُسن الجوار للأفارقة محفوظة.. لكن مصر قادرة.
تعمل القاهرة برشد وصولاً بالدبلوماسية فى مسألة السد إلى آخر مراحلها. للدبلوماسية حدود.. ومصر لن تتفاوض إلى الأبد. النجاح فى الوصول بالقضية إلى مجلس الأمن، وإطلاع المجتمع الدولى على عدالة المطالب المصرية، وتفاصيل التعنت الإثيوبى مرحلة مهمة وناجحة فى سياسة النفَس الطويل.
قدمت مصر إلى مجلس الأمن ملفًا كاملاً (من 91 ورقة) مرفق به الخرائط والصور والمعاهدات الخاصة بالنيل، مع توضيحات فنية وقانونية بخطورة الخطوات الأحادية الإثيوبية، وخطورة إصرار أديس أبابا على التعنت رُغْمَ صبر «مصري- سودانى» لم ينفد بعد.
عدم اضطلاع مجلس الأمن بمسؤوليته فى الأزمة، لا يُصَعّد الأوضاع فى إفريقيا فقط؛ إنما يرسّخ سابقة أولى من نوعها تؤدى بالضرورة إلى اشتعال الأمور فى دول نهرية كثيرة حول العالم، مشتركة فى مصادر المياه، تنظم علاقتها معاهدات، واتفاقيات دولية، كالتي ترفضها إثيوبيا!
التغافل الدولى عن إقرار الحقوق القانونية والتاريخية لمصر فى مياه النيل، لا يمنح مصر فقط شرعية اتخاذ الوسائل التي تراها لحماية حقوقها؛ لكنها ترسّخ واقعًا دوليًا خطيرًا، يشعل الأوضاع فى كل الدول المتشاركة فى الأنهار حول العالم.
(4)
للدبلوماسية مراحل.. وحدود، وقرار القاهرة فى يدها، وفق بدائل هى الوحيدة القادرة على الاختيار منها حسب الظروف ووفقًا لما هو متوافر لدى مؤسّسات دولة من معطيات.
إذا كان الاصطفاف الوطني واجبًا خلف القيادة السياسية المصرية؛ فعدم الالتفات لمحاولات زعزعة ثقة المصريين على مواقع التواصل أكثر وجوبًا.
لا بُدّ من الإشارة هنا إلى أن النظام فى أديس أبابا يعمل على حرب نفسية من خلال «بروباجندا» كاذبة، ويتعمّد من آن لآخر تمرير إجراءات وإنشاءات وهمية تتعلق بالموقف التنفيذى للسد، فى محاولة لإرضاء جبهة داخلية منهارة، وفى محاولة لإحداث مواءمات سياسية فى الداخل الإثيوبى الذي تغتاله حالة من عدم الاستقرار، والانهيار الاقتصادى، وتأكله النزاعات العرقية.
فى مؤتمر نظمه المجلس الأعلى للإعلام برئاسة كرم جبر، حضره وزير الرى د.محمد عبدالعاطى بالقناطر الخيرية الأسبوع الماضى، عرض المهندس مصطفى السنوسى عضو فريق التفاوض المصري صورًا فوتوغرافية حديثة من داخل غرف السد الإثيوبى بدلالات مهمة.. واستخلاصات أهم.
أولاً: أشارت الصور إلى متابعة دقيقة لحظة بلحظة من مؤسّسات الدولة، وقدرتها على النفاذ إلى داخل غرف وموقع السد الإثيوبى للوقوف على آخر المعلومات ساعة بساعة.
ثانيًا : وفق التقارير المصرية؛ فإن الإعلانات الإثيوبية عن مراحل إنشاء السد، وبدء تشغيله، وقدراته، أظهرت تعمّد إثيوبيا تضخيم الأرقام، والقدرات، ونسب ارتفاعات السد، بما يؤكد أن أديس أبابا بالغت كثيرًا فى ما تم من إنشاءات حتى 5 الشهر الجارى.
ثالثًا: أشارت الصور إلى أن وحدات الكهرباء فى جسم السد غير جاهزة للتشغيل، على خلاف ما أعلنته أديس أبابا قبل أيام من أن تلك الوحدات جاهزة للتشغيل خلال شهرين.
رابعًا : سبق أن أعلنت إثيوبيا احتواء جسم السد على 8 وحدات عملاقة لتوليد الكهرباء، منذ شروعها فى بناء جدار السد، بينما أظهرت الصور الحديثة، أن أديس أبابا لم تلحق بالسد أكثر من 5 وحدات كهرباء، بلا أماكن مستقبلية، ولا قدرة على استيعاب السد على أى زيادة فى المحطات لنقص فى الأسُس الإنشائية.
خامسًا : كان مفترضًا وفق الإعلانات الإثيوبية، بدءُ تشغيل 3 محطات توليد كهرباء، منذ انتهاء الملء الأول، وهو ما أظهرت الصور من داخل السد الإثيوبى أنه لم يحدث؛ لأسباب فنية، لم تستطع إثيوبيا التعامل معها حتى الآن.
من مجلة صباح الخير



