السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

المعتوه والمانيكان

رسم: جمال هلال
رسم: جمال هلال

فى كلّ صباح يُبادرُنى بوجهه الأصفر الشاحب، ومَلامحه الساكنة كسكون البحر وقت الضباب، ينظر نحوى بصَمت عبر واجهة مَحلى الزجاجية، ثم يلتفت نحوَها ليلقى عليها تحية الصباح، تغازل أنامله اليابسة ملمسَ الزجاج الناعم بحنوّ، وعيناه تبرقان بقوة وهو يثبّت نظرَه نحوَها بفرح ونشوة، تطول به الوقفة، يستغرق فى تأمّله، يلاحظه المارّة، يضرب بعضُهم كفًا بكفّ! يسخر منه آخرون! يصوره بعضُهم بكاميرات هواتفهم النقالة! أشعر بالضجر وأخرج نحوَه؛ فينصرف قبل خروجى وهو يشعر برغبتى فى طرده من المكان. يجلس فى الناحية الأخرى من الشارع وهو ينظر نحوَها بلا انقطاع. يظل من الصباح حتى غروب الشمس جالسًا أمامَ مَحبوبته العاجيّة يشاركها الصمت والسكونَ، ثم يغيب مع الغروب.

فى يوم من أيام الشتاء هطل المَطرُ بغزارة وضرَب البرقُ بقوّة، فجرَى نحوَها ووقف أمامَها وقد أسند ظهرَه للزجاج ومَدّ ذراعَيْه، وكأنه يخشى عليها من ضربات البرق! عندما جاءت امرأة إلى المَحل وأمسكت بالفستان الذي ترتديه وتحسّسَتها، وقف بالخارج يتحرك بقلق واضطراب تمزّقه لمساتُ يد المرأة لها، وكأنه لا يريد- قط- أن يلمسَها أحدٌ أو يقتربَ منها!

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

هل ارتبط جنونُه بتلك المانيكان حقًا؟! هل صار يعشقها حَدّ الجنون الذي أَلَمَّ به؟! عجبًا لذلك المعتوه الذي يحب مانيكانَ عاجيّة ويتحاكى به المارّة والناس! هل تُذَكره بمحبوبة قديمة أو زوجة غالية؟ هل تشبه امرأةً كان يحبها ويعرفها وله معها ذكريات؟ أمْ أن هناك أمورًا أخرَى لا أعرفها؟

أحيانًا تلعب بى مخيلتى وأظن أنها تكلّمه، أو تبادله النظرات والإعجاب، أو تفرح به وتحب جلوسَه أمامَها، ربما يراها حيّة أمامَه تنبض وتشعر وتحب؟!

نَعَمْ. هذه المانيكان مميزة حقًا عن باقى قريناتها فى المَحل، فقد اشتريتها من أحد المستوردين الكبار، وملامحها الأوروبية تشبه الملامح الحقيقة كثيرًا؛ ولذلك جعلتها فى واجهة العرض الأمامية؛ وكنت أهتم بتغيير زيّها كل مدة- خصوصًا فى المناسبات والأعياد، ولكنها تبقى- فى النهاية- جمادًا ليس به حياة ولا مَشاعر!

هو أيضًا معتوه غريب، يعجبنى هندامه البالى كثيرًا، فهو نظيف دائمًا، متناسق مع قوامه الطويل الممشوق. إنه لا يضايق المارّة، ولا يطارد الصغار، ولا يُحدّث نفسَه، فقط هو هادئ كهدوء البحر العميق الذي يخفى أهوالاً من الأمواج والاضطراب... لا يعرف أحدٌ منا قصتَه، ولا من أين يأتى، ولكنه يبدو حديث عهد بما أصابه، وله ماضٍ مملوءٌ بالأعاجيب. يا له من معتوه فريد! وعاشق مجنون! ورجل مُحير ملىء بالأسرار! ما الذي ألقَى به نحوى؟! وما ذنبى فى ذلك كله حتى تطاردتنى قصة الغريبة بالليل والنهار؟! وما أكثر وجع الرأس عندما يسألنى عنه القريب والبعيد؟!

شغلنى أمْرُ ذلك المعتوه كثيرًا، صَنع حول مَحلى الكثيرَ من العبث والفوضَى، أثر على تعاملى مع الزبائن، فكرت لفترة ثم اتخذت قرارى أخيرًا بتغيير تلك المانيكان ووضع واحدة أخرى مكانها؛ لعلّى استريح من تلك الفوضَى أمامَ المَحل؛ وينصرف عنّى ذلك المعتوه ويولى بلا رجعة.

فى نهاية اليوم أغلقت أبوابَ المَحل، وأدخلتها إلى المخزن، ووضعت مكانها واحدة أخرَى، وانصرفت إلى بيتى وكلى شوق لمعرفة ما الذي سيحدث فى الغد عندما لا يجدها... ولكن ماذا لو فعل مع المانيكان الجديدة الذي كان يفعله مع المانيكان الأولى؟!

فى الصباح فتحت المَحل كعادتى وانتظرت قدومه... لم يلحظ الجيرانُ والمارةُ التغييرَ الذي حدث فى واجهة المَحل، فهل هو أيضًا سيكون مثلهم أمْ سيكون له شأن آخر؟

كانت عيناى ترقبانه وهو قادم نحوى، وقف بذهول، تحركت ملامحُه أخيرًا، بدا عليه الاضطراب، جرى نحو الزجاج يتحسَّسَه بألم وحسرة، نظر نحوى نظرة طويلة صامتة وكأنه يعاتبنى... لماذا فعلتَ بى ذلك؟! أدار لى ظهرَه ثم ذهب ببطء نحو مكانه فى الجهة الأخرى من الشارع، جلس القرفصاء ونظر بألم نحوى، ثم نكس رأسَه وجلس بجمود حتى نهاية اليوم ولم يغادر كعادته وقت الغروب. 

فى نهاية اليوم أغلقت المَحل وغادرت وهو لا يزال جالسًا على حاله، شعرت حينها بشفقة كبيرة عليه ورغبة فى مواساته والتخفيف عنه، ولكن ماذا عساى أن أفعل وقد تعدت مشاعره كل الحدود؟!

فى صباح اليوم التالى لم أجده مكانَه، انتظرته ولكنه لم يأتِ، مرّت الأيامُ ولكنه لم يَعُدْ، بدأت أشعر بمرارة كبيرة وأنا أتذكر نظرته الطويلة المعاتبة، وشعوره بالقهر والألم بعدما سلبته محبوبته الأبدية، ولكن كيف ذلك؟! هل سأجَنّ لجنونه؟!

دفعنى شعورى بالذنب أن أفتش عنه وأحاول الوصول إلى مكانه أو إلى أى شخص يعرفه، ولكن باءت محاولاتى بالفشل؛ فقد أخبرنى الجميع أنه قد اختفى فجأة؛ حتى إننى أعتقدت أنه ذهب ليبحث عنها فى مكان آخر.

سيطر علىَّ الشعورُ بالذنب، وبدأت الحقيقة تتكشف أمامى... كان يجب علىَّ أن أقدِّر مشاعره وألاّ أعامله بتلك الطريقة؛ خصوصًا أننى رأيت مدَى حبّه لها وتعلقه بها... ملأنى الشوقُ لرؤية قصة الحب الغريبة تلك، وحديث الناس عن المعتوه العاشق وتلك المانيكان... فقررت أخيرًا أن أخرجها مرّة أخرى، وأضعها مكانها فى واجهة المَحل؛ لعله يعود إليها أو ربما تناديه.  

تم نسخ الرابط