السبت 20 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

سيرة ذاتية لكرسى مُدولب

رسم: سوزى شكرى
رسم: سوزى شكرى

يَثقب رأسى لأعلى خارجًا من تحت عظام جُمجُمتى صوتٌ بهىٌّ رائعُ الجَمال، يتردد صداهُ فى أنحاء غرفتى؛ ليتراقص أمامى حاملًا إبريقًا نحاسيًا مُمْتَلِئًا ويصب كأسًا عتيقًا من نشوة أرجوانية فى أُذنى تُسكرنى، ثم يبتعد واثقًا بجماله ويتركنى!

الصوت يُلوّن حواف السقف بقبلات أنثوية حمراء، ربما يدل هذا على هوية صاحب الصوت الخارج منّى!

نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021
نقلًا من الكتاب الذهبي عدد يوليو 2021

 

هل هى فتاة؟ أيعقل؟

لكن .. لِمَ لا؟

فأنا بداخلى تحيا قبائل عِدة.. تحيا أمصارٌ عِدة وأممٌ.

قعيدًا مُنذ وُلدت، وقعيدًا حتى أموت، هكذا أنا حقًا، لكن الرَّبّ كان له رأىٌ آخر؛ حيث إنه خَلق كونًا فسيحًا جدًا بين أضلعى، كونًا يبتلع الكونَ نفسَه من شدة سِعته!

الصوتُ فاتنًا لدرجة الألم، أشعر به يداعب صوان أُذنى ثم يحدثنى همسًا ليقول:

- ما أنت إلا كتلة لحمية تجلس على كرسى مُدولب، تنظر للسماء عبر نافذة زجاجية تبدو كهوّة سحيقة طُليت جوانبُها بألوان المساء الزرقاء، وزُيّنت بفُتات النجوم.

ثم يضحك ويخفت!

آه كم هذا قاسٍ ولكنه جميل!

لم أنزعج مما سمعته؛ بل إننى وافقته فيما نطق به، ليس تلذُذًا بإهانة من نوع ما، ولكن هذا ما أنا عليه فعلًا! كتلة مترهلة ذات هوية ما غير معروفة تجلس على كرسيها دون حِراك لتنظر فى ثبات للسماء عبر نافذة زجاجها يُشبه بللور فصول مَدرستى الابتدائية، مُتعرّق شتاءً ولزج صيفًا.

هذا الصوت يُلاحِقُنى منذ أن قضيت يومى الأخير فى باحة منزلنا؛ حيث كانت تلك آخر مرّة رأيت فيها بشرًا غير أمِّى، كان ذلك منذ زمن، فكل شىء استحال دخانًا منذ تلك الظهيرة.

أعتقد أنها لعنة ما، أو ربما غواية ما، سجنتنى تدريجيًا داخل غرفتى!

أصبحت أُحب الحَملقة لساعات فى باطن السماء عبر نافذتى، وكأن بُؤبُؤ عينى اليُمنَى الأكثر حِدّة من بُؤبُؤ عينى اليُسرَى المنطفئ، يكنس الفضاءَ باحثًا عن شىء ما غيبى يصعب حتى تحديده عبر الشعور أو التخيل، لكنه شىء يستحق البحث عنه!

أكاد اُجن أحيانًا لعدم فهمى لحكمة وجودى!

لكننى أعلم أننى وطنٌ للعديد من البشر غيرى الذين يسكنونى، أنا ساحة كُبرى للاحتفالات، وميدان ضخم للإعدامات الجماعية!

لكن أتدرون، منذ آخر تواجُد لى بباحة منزلنا فى ظهَر ذلك اليوم من آذار الذي لا أعرف لأى سَنَة كان ، لم أستطع استعادة قدرتى على رؤية أى فرد من عائلتى، أو استعادة قدرتى حتى على لمسه.. عدا أمّى!

كُل ما هو بشرى استحال لدخان وذاب فى هواء غرفتى!

لا أعلم صدقًا ماذا حدث فى تلك الظهيرة، ولكن كل ما أذكره أنه بعد نهاية حفلة الشواء ظللتُ وحيدًا هناك، أُراقب المارّة عبر البوابة، وفجأة قوة ما أحكمت قبضتها على عجلات الكرسى خاصتى ومرّرَتْ أصابعها بين فتحات أسلاكها ثم حملتنى لأعلى حيث غرفتى التي لم أخرج منها حتى اليوم!

أكان هذا حُلمًا أمْ حقيقة؟ أكان هناك باحة لمنزلنا وحفلة شواء أمْ لم يكن؟

هذا كله غير مُهم، لكن المؤكد أننى أحببت نافذتى كما أحببت أمّى، وعشقت الصوت الخارج من رأسى أكثر من كلتيهما.

إن السرير الماثل أمامى الآن لم يكن سريرًا؛ بل كان أبى الذي طالما تحدثت إليه طويلًا ثم استحال دخانًا وذاب! صرختُ لأجل عودته كثيرًا فعاد واحتضننى؛ لأغفو بين ذراعيه بدموعى ومخاط أنفى المتساقط، وما إن لعقت الشمسُ جبهتى فاستيقظت، فإذ به قد أصبح سريرًا!

لن أكذب.. لستُ مُمتنًا لأحد كامتنانى لأمّى؛ لأنها الوحيدة التي لم تَذب، لأنها الوحيدة التي ظلت كما هى دون أن تستحيل دخانًا، كيف للناس أن يتحولوا لسُرُرٍ أو مَرَائِب؟

كيف يُمكن للعائلة أن تُصبح صورًا مثبتة على حوائط خربة دون سقف؟ يعلوها براز الغربان!

هذا ليس كُل شىء، فأنا لدى أيضًا زنابق نَمَتْ على كَتفى، كُنّ فى حياتِهنَ الأولى أصدقائى قبل أن يذبن ثم يستحلن زنابق!

كن فى زمنهن الأول يُحببن الاستحمام بماء بارد جدًا، وكنت أستحم معهن، نعم كن يَصببن أباريق الماء المثلج الممتلئة فوق رأسى فتغسلنى أنا والكرسى المُدولب صديقى، الذي لا أدرى أكان بشرًا هو الآخر ثم أصبح كرسيًا! أمْ هو منذ البدء كرسى؟ هذا لا يُهم، لا يُهم أبدًا، فما يُمكننى أن أفعله بصدر رحب الآن هو أن أصب الماء البارد فوق كَتفى وعلى ظهرى كى أُسعد أصدقائى الزنابق، فكم مرّة أخبرنى ذلك الصوت شتاءً بأن زنابقى يُردن الاغتسال، ولن يكن هذا مُمكنًا إلا بماء مثلج حتى وإن كانت السماء تنز بغزارة بالخارج.

كُنت كُل ليلة أطلب من أمّى دلوًا ممتلئًا بالماء، ثم أُنزل إبريقًا بلاستيكيًا فيه، ثم أُخرجه مجددًا وأصب على كَتفى بانتظام، لم أرتعش أبدًا فى أى من تلك المرّات ولكنى جُنِنت!

أسأل نفسى دومًا ماذا يُمكن أن أفعل بعد أن تُتم عينى اليُمنَى تنظيف باطن السماء من كُل الشوائب والعوالق المتشبثة بضروع السُّحُب؟

أفعل ذلك كى يحلب الناس من تلك المُزن المُتغنجات ماءً صافيًا نظيفًا دون أى شىء مريب قد يسبح فى أكوابهم الزجاجية الممتلئة، فيراقبونه باشمئزاز ثم يلتقطونه بأصابعهم قبل أن يُفرغوا ما بها فى جوفهم، ماذا يُمكننى أن أفعل حقًا حينها؟

هل سأستحيل بدوري دخانًا ثم أذوب؟ وينقضى أول نهار ثم أُصبح دَرجًا أو سقف غرفة متشققًا، أو ربما مِزرابًا تنمو عليه الطحالب من الداخل!

نَعَمْ أُحب أن أكون مِزرابًا!

ولكن ماذا عن سريرى، وزنابقى، وأمّى؟

هل سيعلمون أننى استحلت مِزرابًا؟

لا أظن.. ولكننى الآن أحب الاستمرار بالحملقة فى السماء عبر زجاج نافذتى، كما أحب أن أفعل ذلك بوجه أمّى أيضًا.

لقد قضيتُ ليالٍ كثيرة أبحث عن جنّة عدن التي حكت لى عنها جدّتى عندما كان عمرى عامين، بحثت كثيرًا ولكنى لم أجدها ولم أجد جدّتى، ونسيت خلال كُل تلك الأيام أن أحسب عمرى!

إن غرض بحثى عن تلك الجنّة ليس طمعًا فى الترف، أو رغبةً منّى فى أن أُخلق من جديد منتصب القامة دون أعطاب تكبل قدمى، لا أبدًا؛ أنا أبحث عنها لأنى سمعت ذلك الصوت يُحدثنى بأن هناك لا يذوب الناس، ولا يستحيلوا دخانًا، تمامًا كأولئك الأشخاص العابرين الذين أراهم كل صباح يمرون بمحاذاة جدار منزلنا، يبدون حقيقيين فعلًا وغير قابلين للذوبان أو التبخر!

كم هذا عجيب!

أيُعقل أن بمحاذاة منزلنا يوجد طريق ما مَن يَعبره لا يذوب؟

كم أتمنى أن أعبره يومًا حتى أتمكن من الخلود فى جسدى العاجز لأستمر فى مراقبة السماء وتقبيل خد أمّى، وحينها لن أرغب فى الذهاب لجنة عدن.  

تم نسخ الرابط