الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

مكان مختلف

رسم: احمد سميح
رسم: احمد سميح

هذا الصباح..هذا اليوم..هذه الليلة! 

لا أدرى فى أى زمان أنا ولا أى مكان! 

لم أسمع صوت المؤذن هذا الصباح وهو ينكل باللغة العربية، يحرّف كلمات الأذان يدغم ويفخم كما يحلو له، صوته أقرب ما يكون شبيهًا بصوت صفيحة غاز فارغة صدئة، أحاول أن أتحاشاه عندما يؤذن، وأركز على صوت شاب ندى قادم من الحارة المجاورة يحببك فى المسجد، عكس هذا العجوز الذي ينفرك من الصلاة أو حتى الإتيان على ذكرها!

 

 

أبحث عن ساعتى التي أضبطها كل يوم على موعد الأذان، أحس بأطرافى مشلولة لا أقوى على الحركة، ظلام دامس..بحر من الظلام!

لا أشم رائحة القهوة التي اعتدت أن أحتسيها عند عودتى من الصلاة، لم أسمع صوت زوجتى وهى تحدث جلبة وهى تتوضأ متعمدة إصدار أصوات وهى تلهج بالدعوات!

لا شىء مما دأبت عليه منذ ردح من الزمان، حتى تلك الرغبة فى التبول الصباحية لا أشعر بها!

حاولت مغادرة مكانى أحسنى مكبلا مضغوطا مشدودًا إلى فراشى، شىء ما يكتم أنفاسى، ما زلت أسبَح فى السواد!

طمأنت نفسى وأخبرتها أننى داخل حلم من تلك الأحلام التي تتنفس الصعداء وأنت تخرج منها!

قررت أن ألوذ بالصمت..عفوًا لم أعد أملك خاصية القرار! 

بل صار كل شىء يمر مَرّ السحاب.

 تحسّست صوتا.. بعيدًا جدًا..كأنه صوت أحد أبنائى..بكاء.. نحيب.

صوت زوجتى تخنقها الدموع، تولول أحيانًا وصوت إحداهن تحثها على الصبر!

أعرف هذا الصوت!

اااه إنها زوجة القصاب جارنا، تلك النحيفة التي كلما رأيتها خارجًا إلا وعلمت أن هناك مصابًا جللاً!

رددت فى أعماقى قائلا:

أأكون قد فارقت الحياة؟

 لهذا لم أستيقظ هذا الصباح على صوت ذلك النغل الذي يدّعى أنه مؤذن؟

سيتحمل وزر كل أولئك الذين لا يصلون، أو حتى من يصلى مكتفيًا بالصلاة ببيته.

صوته ذلك لا يحفز.. لا يحبب.. لا يُرغب فى الصلاة.. ينفرك يجعلك تضع أصابعك فى أذنيك وتستغشى ثيابك حتى لا تسمع تلك.. (أشهدونا لا إيلاهايلالاه)..

 يا إلاهى؛ ماذا حل بى؟

قد أكون ميتًا حقًا؟ 

هناك العديد من الأمور لا تزال عالقة!

العديد من الأشياء كنت أؤجلها كل يوم.. سداد دين.. صلة رحم.. جبر خاطر.. والعديد من الأشياء.

ورغم موتى، إلا أن غدقًا من السعادة يغمرنى، كونى لن أرى وجه ذلك المشئوم رب عملى وزملائى فى العمل، زمرة من المتنمرين، منافقين مغفلين لاعقى أحذية رب العمل!

سمعت صوت جارى، فرزته من بين كل هذه الأصوات وهو يحث الجميع فى إعداد ماء الغسل، الوغد لم يشر إلىّ بالاسم؛ بل كان ينعتنى بالميت أحيانًا وبالجثة أحيانًا أخرى.

اااه من ذلك النذل لقد شكته لى زوجتى مرارًا، كان يتلصص عليها وهى تنشر الغسيل بسطح البيت، هاهى الفرصة الآن أمامه كى يظفر بها، ما عليه سوى الإسراع بطمرى وضغطى بالتراب ومن فوق التراب حجارة ثقيلة لعلمه اليقين أننى بسبع أرواح كما سبق له ونعتنى عندما انقلبت سيارة الأجرة وكنت بداخلها عائدًا من وسط المدينة، حتى إن أغلب الناس قالوا إن السبب هو عباس الحداد الذي أصابنا بعينه حتى انحرفت السيارة عن مسارها دون سابق إنذار! 

بالمناسبة؛ ألم يحضر عباس؟

لم أسمع صوته.. لكن هناك صوت فكين تلوكان الطعام، قد يكون هو!

أعلم أنه شغوف بالطعام، عجيب أمره.. كيف يحلو له المضغ دون الاكتراث لمن جاء لهذه الدنيا أو غادرها!

تحسّست أيادى تجردنى من ثيابى.. هذا الصوت أعرفه له نبرة خاصة..

صوت فهد بلال؟

 لا لا ليس هو إنه صوت.. صوت.. صوت المؤذن!

 يا لسخرية الأقدار؛ هاهو يجردنى من ثيابى يتكلم وصوته يصيبنى بالغثيان رغم موتى، لماذا يحب هذا القزم أن يفسد علىّ أجمل لحظاتى.. يزعجنى بصوته عندما يؤذن، وأغادر الفراش كل يوم ألعن الذي باعنى هذا البيت المتاخم لهذا المسجد الذي يؤذن به هذا الغراب، هاهو يفسد علىّ لحظاتى الأخيرة التي تربطنى بالدنيا.. تبًا له!

يغسلنى بماء لا أحس به، ساخن.. بارد لا أحس بشىء، يعبث بأشيائى بأصابعه الخشنة، علمت أنه لا يضع قفازات، تراه الآن يسخر من أشيائى الصغيرة أعلم ذلك، ويرسم على وجهه القمحى ابتسامة ساخرة وكأنه يقول فى قرارة نفسه:

- أ بهذه العدة الصغيرة كنت تزاول مهامك هناك.. بذلك النفق؟

الوغد لا يعلم أن السر لا يكمن فى ضخامة العدة أو ضآلتها ولا حتى طولها أو قصرها!

 وما أدراه النغل يبقى نغلا مَهما بلغ من العمر!

دلف الحلاق الذي كنت أحسبه صديقًا مقربًا، كثيرًا ما كنت أركن إليه أقص عليه كل ما كان يخالجنى.. لواعجى..أفراحى..أتراحى، حسبته سيبكى بحرقة، حسبته سيتألم لفراقى، لم ينبس ببنت شفة، واكتفى بمد ثوب أبيض مكون من ثلاث قطع، تسلمها المؤذن صاحب الصوت الحمارى وبدأ يحدّق فيها حسبته يحسدنى على هذا الثوب الجديد، سيحين دورك أيها النغل لا تتعجل!

لفنى بذلك الثوب كمن يلف قالب السكر، وبقطعة أصغر لف رأسى وأحكم الوثاق، شده جيدًا كأنه يود خنقى أكثر، لطالما تمنّى الوغد أن يفعلها، هاهى إذن الفرصة!

شممت رائحة.. كم أكرهها يا ربى ما هدا العذاب؟

رائحة عطر رخيص من نوع (réve d' or )، زوجتى تعلم أننى أكره هذا العطر النتن، تعلم أننى أتحاشى السلام على من يضع ولو القليل منه، وما أدراك بسكب نصف قارورة منه على جسدى، هل بدأ القصاص؟!

ماذا عن العطر الفرنسى المفضل لدى  (Yves Saint Laurent) أمْ أن هذا الوغد لا علم له بأنواع العطور؟

قريبًا سأرتاح من كل هؤلاء الرعاع، سأرتاح من ضجيج العالم الكئيب، سأرتاح من نظرات الجيران ودسائس الزملاء بالعمل ونكد رب العمل، قريبًا؛ بل فى بضع دقائق فقط سأكون خليلا للديدان والحشرات بعيدًا عن الحشرات الآدمية، سأرتاح من قال هذا وقال ذاك من حسدهم ونفاقهم الذي لم أعد أطيقه، إلى الجحيم إذن!

 لقد بت متشوقًا أكثر منهم لمغادرتهم، أعلم أنهم يرغبون فى التخلص منّى بأسرع وقت لكن رغبتى أكبر فى التخلص منهم أيضًا! على باب البيت وقف العديد من الأشخاص، منهم من لم يُلق علىّ السلام من قبل، ومنهم من كان يرمقنى بنظرات شزراء، ومنهم من كنت اقرأ على وجهه الحقد والحسد اتجاهى، هاهم الآن قد اصطفوا وكأن حال لسانهم يقول: - إلى الجحيم أيها الوغد بلغ تحايانا لذوينا الموتى ولا تنسَ أن تبعث لنا رسالة لنطمئن عليك!

كل هذا أدركه، حتى صاحب الدكان الذي أقتنى منه حاجياتى لمحته واقفًا يلقى بقب جلبابه على رأسه ينظر إلى الصندوق الذي سأحشر فيه وأعلم مايدور فى رأسه لعله يقول أثناء هذه اللحظة:

- من سيدفع ما تدين لى به؟

الوغد كان يمتص نصف مرتبى طوال سنوات حياتى!

لا يدرى أن الكفن لا جيوب له!

لم أكتب وصية لأهلى أتمنى أن يتعاملوا مع الوضع ويدفعوا عنّى كل درهم لأصحاب الحقوق، وما أكثرهم!

التأمت الجموع، تقدّم شاب مفتول العضلات ودفع تلك العربة التي حشرت فيها جثتى، بالأمس القريب كانت هذه العربة وكلما رأيتها قبالة المسجد تبدو لى غريبة، ها أنا بداخلها الآن تبدو عادية صندوق بعجلات لا محرك لها، لا شىء يزعجنى فيها سوى هذا العطر النثن!

إقترب الجمع من المقبرة، أعلم ذلك من خلال ما يرددونه وأسرعت الخطى يرددون:

- يا رحمان يا رحيم جُدْ علينا بالغفران…

توقفت العربة، سكت الجميع، فتح الغطاء، الإمام على القبر، أدرك انه سيستعرض عضلاته الدينية هنا وسينكح اللغة العربية هنا لا شك فى ذلك!

تحَلق الجميع حول القبر، هناك من ينظر داخله، هناك من ابتعد بعض الأمتار لا رغبة له فى النظر إلى ما ينتظره، مأواه الأخير! سلت جثتى برفق وضعت على جنب، لا يزال الإمام ينكح لغة الضاد، المؤذن يطوف علىّ ليتأكد أننى ووريت الثرى بالشكل اللائق لمتعجرف مثلى، الحلاق صديقى لا مَظهر حزن على وجهه، جارى يلم يديه إلى صدره يفرك قفاه أحيانا ويهرش مؤخرته أحيانًا أخرى ينتظر بفارغ الصبر متى تنتهى هذه المراسيم الثقيلة على قلبه، أعلم أنه سيعود إلى زوجتى ليواسيها بالطريقة المثلى.. الوغد.. لا حيلة لى!

الحداد يتتبعنى بعينيه الجاحظتين ..حتى هنا يابن العاهرة!

 أترقب متى أرتاح من هؤلاء، كل وهمه!

شاب بيده رفش يطمرنى بالتراب..

أحسَسْته باردًا.. قفزت من مكانى فتحت عينى التفت يمنة ويسرة، لا أثر للجموع.. لا حداد لا مؤذن لا إمام لا حلاق ولا جارى!

فقط كنت نائمًا بمرآب به تبن متعفن بقرية مسقط رأسى!   

 

تم نسخ الرابط