يعد التفاوض من مرتكزات الحياة البشرية، التي ينقلها من حال إلى أحسن الأحوال، والتَّفاوض الناجح يعتمد على الإقناع وعلى اللباقة وحسن الحوار، ويستند على معلومات مهمة، كما يحتاج إلى الفراسة وسرعة البديهة، وحسن الكلام، والمنطق، والتَّلاعب بالكلمات بما يتناسب مع الموقف، والتشاور مع المختصين.
والكثيرون منا قد يقعون في مواقف صعبة إذا لم يمتلكوا مهارات التَّفاوض، وإذا تحققت المشورة على وجهها الصحيح فإن لها من الآثار الإيجابية ما لا يخفى، والتفاوض المتميز أساسه التشاور قبل المباحثات لغرض القضاء على الفردية والديكتاتورية والارتجال، وتجنيب الأمة آثار المواقف والقرارات الفردية.
والتفاوض لا ينطبق على الدبلوماسيين أو السياسيين أو رجال الدولة فقط، وإنما يبدأ من العائلة، لأن أي انهيار- لا سمح الله- في مناقشة موضوع ما قد يؤدي إلى تشتت العائلة والطلاق، بسبب انهيار مرتكزات التفاوض بين الزوجين حول نقطة معينة أو عدة نقاط.
ورسولنا الكريم قدوتنا في فن التفاوض، وعلينا الاقتداء به والتعلم منه، حيث أثبت في كل المواقف مدى براعته في التَّفاوض، ونذكر هنا صلح الحديبية وقدرته العالية على التَّفاوض مع أهل قريش، حيث أفصح عن دبلوماسية عالية جدًا، فعندما بدأ بالتفاوض على شروط الحديبية لم يتنازل عن الهدف الاستراتيجي، بل مجرد رتوش وصغائر لم تغير الثوابت، فلم يرَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أي مشكلة في كتابة "بسمك اللهم" بدلًا من "بسم الله الرحمن الرحيم"، كما أنه لم يجد أي مشكلة في كتابة "محمد بن عبد الله" بدلًا من "محمد رسول الله"، وهنا تبرز القيادة والكفاءة في اتخاذ القرار المناسب حيث ركز على جوهر التفاوض وأهدافه الاستراتيجية وجعل الطرف الآخر يشعر بأنه شريك له وليس ندًا.
هذه العناصر الثلاثة "الدبلوماسية والقيادة والكفاءة" لا يمكنُ الاستغناءُ عنها إذا أردنا أن نبنيَ مجتمعًا راقيًا بكل معنى الكلمة، وهي مثل الماء الذي يتكون من اتحاد ذرّة من الأوكسجين وذرتين من الهيدروجين، وصيغته الكيميائية تكتب على شكل (H2O)، والذي لا يمكن الاستغناء عنه في حياتنا اليومية.
والقيادة عبارة عن قيام الشخص بعملية إقناع لآخرين في مجموعة معينة، ضمن صلاحيات كبيرة تكاد تكون مطلقة للوصول إلى الأهداف التي يسعى إليها، ضمن جدول زمني معين وبأدوات معلومة القيمة، ويلعب القائد دور القدوة الايجابية المركزية، وهنا تبرز صلاحياته وشخصيته بفنون القيادة وآدابها من خلال إقناعه للأشخاص، والوصول إلى تحقيق الأهداف المنشودة مستندًا على الأهداف الايجابية المرجوه للجميع، وحتى تكون القيادة ناجحة عليه باقناع جميع الأفراد الذين تحت مظلته باتباع تعليماته بدون أدنى شك أو تردد، وأن يتحمل المسؤولية كاملة حال النجاح أو الفشل.
ومصطلح القيادة يمكن أن يكون قدرة الشخص على التأثير أو فرض رأي أو قوانين معينة بالإقناع، وليس بالقوة.
أما الكفاءة، فهى ليست في الشهادة ولا الدورات التدريبية ولا ورش العمل ولا طول الفترة المهنية، لكنها تعتمد بالأساس على الأخلاق الحميدة، وما يحمله الشخص من صفات الصدق والأمانة وحب الخير للآخرين والتضحية والوفاء، فالموظف الأناني سوف يحرم زملاءه من أبسط حقوقهم، والدبلوماسي المتكبر لن يخدم إلا نفسه، والمعلم إذا لم يصبر على مشاكسة الطلبة لن يكون ناجحًا في عمله، حتى لو كانت لديه شهادة دكتوراه، وكم من أُناس لديهم شهادات كثيرة ومتعددة، لكنهم غير أكفاء بسبب حبهم لأنفسهم.
ومن أهم أعمدة وجوانب الكفاءة هي الثقافة والخبرة، فهى الأساس المعتمد في اختيار المديرين والقادة لشغل منصب مهم، مع التأكيد على الأخلاق الحميدة الحسنة المعروفة لدى جميع المجتمعات.
والكفاءة أنواع، منها الفردية وهي عبارة عن المهارات والمؤهلات والأخلاق العالية التي يمتلكها الشخص من خلال التجارب الشخصيّة والمهنيّة، بحيث يستخدمها في تحقيق أهداف معيَّنة وبشكل فعال.
والكفاءة الجماعية هي تضافُر جهود الكفاءات الفرديّة بعضها مع البعض وتعاونها من خلال التواصل الفعال بروح الأخوة والمحبة، بحيث يتشكل فريق مهنيّ واحد كأنه رجل واحد قادر على تحقيق الأهداف المطلوبة بكفاءة ومهنية عالية، وبكلمة واحدة.
هذا إضافة إلى الكفاءة التكنولوجية التي تستند إلى العبقرية والذكاء الخارق في ابتكار النظم والبرامج، وهي تضاف إلى الكفاءة الإدارية والمهنية لأنها ترتبط بسوق العمل، وغالبًا ما تسمى الكفاءة الاستراتيجية العلمية الأكاديمية.
بقلم: د. سعدون بن حسين الحمداني / دبلوماسي سابق كلية عُمان للإدارة والتكنولوجيا



