مازال الوعى إحدى قضايانا الرئيسية. الوعى مجتمع.. والمجتمع الواعى مكمل لجهود دولة استعادت نفسها بقوة.. وبقدرة.. وبسرعة.
المجتمع شريك.. والمجتمع أفراد. وعى المجتمع ترسيخ لجهود التنمية. فالتنمية معادلة لها طرفان.
الأول دولة مؤسسية لديها الرغبة فى النحت فى الصخر.. فى الطريق للمستقبل. على الجانب الآخر يبقى مجتمع لا بد أن تتواكب مسؤوليته فى تقدير نفسه، وتطوير نفسه.. وتعديل نفسه.. مع تطويرات وتطورات المؤسسة لأجله.
(1)
للأسئلة الغريبة على مواقع التواصل وعلى صفحات دار الإفتاء دلالة، كما أن للإجابات على تلك الأسئلة الغريبة دلالات هى الأخرى.
الأسئلة فى أمور الدين عينة. والعينة بينة عن معنى الدين ومفاهيمه فى سرائر المؤمنين.. وفى دواخل المتدينين.
الأصل فى الإفتاء البيان. والبيان هو التوضيح. والبيان فى الاصطلاح أوسع من مجرد إجابة على السؤال.. وأشمل.
الأصل فى الإفتاء هو لفت نظر السائل لمقاصد الدين الأساسية، ومستهدفات الشريعة العامة. الإفتاء ليس مجرد إجابة عن تساؤلات، ولا هو بيان حالة مجرد لا علاقة له بالمضمون وما وراء الفكرة.
شرع الله الدين لصلاح المجتمعات. وفى التعريف أن الدين معاملات تصح بها الدنيا.. وعبادات تصح بها الآخرة. لو غابت المفاهيم الكبرى عن معنى الدين أو اختلت النظرة إلى مقاصد الشريعة الأساسية.. ضاع الدين، وضاعت الدنيا.
تعارض الوضوء مع أكل لحم الجمل من عدمه مطلب فتوى غريب. ورد الفتوى على السائل بلا تحذير من النظر فى الصغائر هو الآخر غريب.
على مواقع طلبات الإفتاء الإليكترونى أسئلة تشير بوضوح لغياب المفهوم العام عن معانى الإسلام الحقيقية ومقاصده الأصلية عند كثيرين.
على مواقع الإفتاء أسئلة عن أحكام دخول الحمام بالقدم اليمنى، وعن مدى جواز المرور بين القبور بالأحذية، وعما هو حكم طهى الحائض والنفساء لإفطار الصائمين!
كلها تعلق بطقوس.. والتعلق بطقوس الأديان يغير الأديان، ويلونها، ويأخذها على طريق اللى يروح ما يرجعش.
تطقيس الأديان يخلع المفهوم الدينى من مقاصده العامة، و«يزنقه» فى عبادات تصبح بالزمن كأنها هى المراد من رب العباد، فتصبح الأزمة فى من حصر الدين فى عبادات، ومن اختزل العقائد فى إجراءات.
فى الفقه الإسلامى المعاملات مقدمة على العبادات. لذلك فالأصل أن حقوق الله (السهو فى العبادات) محل عفوه سبحانه، بينما لا يغفر الله فى حقوق العباد.. التي محلها القصاص.
يعفو الله عن حقوقه، بينما لا يتهاون الدين فى حقوق الغير. والغير هنا هى مجتمعات نزل الإسلام لتنظيمها وضبط مسالك أفرادها وآليات تفكيرهم.
لكننا وصلنا لدرجة اختلت فيها مفاهيم الدين، ومقاصده الأصلية لدى بعضهم. ضاقت النظرة للغرض من التشريع فاقتصرت على طقوس، وتحلل المفهوم الأصلى للإسلام فلم يبق منه غير تراث!
موضوعات وأسئلة طالبى الفتاوى الشرعية مثال واضح على اتجاهات التفكير لدى كثيرين خصوصا البسطاء. لذلك مطلوب من أهل العلم تحليل مضمون مطالب الفتوى، وتحليل ما ورائياتها.
مطلوب «قياس» السؤال.. ومن ورائه قياس «الفكر الدينى» قبل الإجابة الشرعية. مطلوب رفع السائل من حدود المسألة الصغرى، إلى مقصود الشارع الأعلى، وانتشاله من طقوس الدين إلى معاملاته.
لكن على مواقع الإفتاء كثيرًا من إجابات داعمة لمزيد من فكر طقسى يتوغل بامتياز، بلا تنبيه ولا تحذير، وبلا مجرد لفت نظر إلى أن الإسلام ليس مقصورا على «كيفية دخول الخلاء».. ولا هو مجرد الاطمئنان إلى أن لحم الإبل لا يفسد الوضوء!
الطقوس يا عزيزى.. تميت قلب الدين.
الاحتفال بطقوس الدين أكثر من الدين آفة اجتماعية. تحويل الدين إلى تراث.. والتراث إلى مقدس.. والمقدس إلى طقوس هى معضلتنا التاريخية.
لا تتقدم المجتمعات بطقوس الدين.
(2)
ظهر التغير على الشارع المصري بشدة بداية الثمانينيات.. أدمنا إغلاق الشوارع بالحصير الأخضر، وتكدست الميادين بمصلى التراويح، بينما تكدست المحاكم فى الوقت نفسه بدعاوى ومنازعات أكل الحقوق وأموال اليتامى، والجور على الأرامل والمطلقات.
من لم تنههِ صلاته فلا صلاة له، لكن بعضنا يصلون ويصومون.. ثم يأكلون الحقوق.. ويقذفون المحصنات.. أيضًا.
ازدواجية معروفة.. وللإنصاف بقى لها زمن وسنوات وعقود فى الشارع. فى روايات «نجيب محفوظ» كان «السيد أحمد عبدالجواد» ملكًا للهلس والليل والرقص مع العوالم.. هو نفسه الذي انزعج من رغبة أحدهم طلب يد واحدة من بناته بالاسم للزواج.
كل خوف السيد أحمد عبدالجواد وأول ما سأل عنه: هل فتحت ابنته الشباك.. لتمكن أحدهم من رؤيتها؟
ارتفعت نسبة الحجاب فى الشارع أضعافا مضاعفة مقارنة بما قبل 30 عامًا.. لكن فى المقابل، لم تنخفض نسبة التقاضى فى الحقوق أمام المحاكم.. ولا توازت الزيادة فى ظاهرة الحجاب مع انخفاضات كانت واجبة فى أعداد قضايا نزاعات الأحوال الشخصية فى زنانيرى.
القصد أنه لو كان التدين ظاهرة.. فالظاهرة لا بد أن تقابلها أرقام. أرقام تدل على قدرة المجتمع على ضبط نفسه.. وصيانة حقوقه.. بالتزام أخلاقى نابع من الدين.
مازال الشارع المصري يغوص فى التناقضات والمتناقضات.
لماذا التناقض؟
لأننا نميل عادة إلى الطقس أكثر من المضمون.. الاحتفال باللفظ أكثر من المعنى عادة مصرية.. ففى حلقات الذكر مثلًا.. غالبًا ما تتصاعد الأصوات بالأغانى حبًا فى النبى، وجمال النبى، وكمال النبى.. بينما تندر قراءة القرآن فى خيم المتصوفة.. ولا تسمعهم يتجاذبون أطراف الحديث فى تفسيرات آياته فى الأحكام!
بالفم المليان تستطيع أن تقول وتؤكد.. وتصر على أننا ملكنا سمات الدين؛ لكننا لم نملك الدين. فلو كانت زيادة نسبة حرص الشباب على تراويح الشهر الكريم مؤشرًا على زيادة النزعة الدينية فى الشارع؛ فإن وجه العملة الآخر كان يجب أن يقابله استقرار اجتماعى من نوعٍ ما.. فتنحسر نزاعات الجيرة.. وتختفى مشاحنات الطريق.. وتقل الجرائم.. وتتداول حقوق العشرة.. فتصبح الأموال والأعراض والأنفس مصونة بإلزام المجتمع المتدين.. لا جبرًا بقوة القضاء.
لكن هذا لم يحدث، لذلك زادت أعداد المتهجدين فى العشر الأواخر، بينما زادت فى الوقت نفسه جرائم القتل والسرقة وقطع الطريق.. وتضخمت صفحات الحوادث بقصص وتفاصيل عن اعتداء الأبناء على الآباء، وقتل بعضنا بعضًا داخل المساجد.. خلال صلاة الجماعة!
قبل وفاته؛ همس لى عالم الاجتماع الفذ «د.أحمد المجدوب» أن خبرة 70 عامًا أتاحت له استخلاص نتيجة مؤكدة: «المصريون عندهم برد».. الشارع المصري أصابته أعراض الإنفلونزا.
تبدأ الإنفلونزا بتكسير فى الجسم واحمرار فى العين واضطراب فى الرؤية.. واضطراب فى السلوك.. وبالتالى اضطراب فى محتوى التفكير عند بعضنا. المجتمعات تمرض أيضًا. للمجتمعات «إنفلونزا» مثل «إنفلونزا البنى آدم». وللأزمات الاجتماعية أعراضها.
أعراض إنفلونزا المصريين ظهرت على الشارع المصري من أكثر من 30 عاما. ظهرت فى وقوف الموظف دقائق بين يدى الله فى صلاة قصيرة، قبل عودته لمواربة درج المكتب للإكراميات والرشاوى.
المجتمع الوحيد الذي أضاف أسماء حركية لـ«الرشوة».. فسماها «إكرامية».. وسماها «تفتيح مخ».
قلنا عليها مرة «مفهومية» ومرة «ميه».. من يجرى الماء جريانًا.. قبل أن نسميها «شاى».
الوحيدون الذين سموا الرشوة «شاى» هم نحن.. لذلك؛ عادة ما يتلذذ بعض الموظفين «المؤمنون» باحتساء الشاى بعد كل صلاة.. غريبة قصة مجتمع مؤمن.. بيموت فى الشاى.
(3)
تحولنا للتدين الشكلى على مراحل ممتدة. بدأت القصة بتداعيات انفتاح استهلاكى فى السبعينيات، ثم ظهور تيارات الإسلام السياسى.. وجاءت أحداث 25 يناير وصولًا إلى تولى الإخوان الإرهابيين لتزيد الطينة الاجتماعية بلة.
كلها كانت تراتبيات تاريخية أدت إلى مزيد من تنامى أفكار التطرف فى الشارع المصري. صدرت جماعات الإرهاب أن الالتزام الدينى يبدأ من الطقس. والطقس يبدأ من اللبس وشكل الهدوم.. الحرص على الصلاة على النبى كل يوم.. وبس.
بدأت محاولات استقطاب المواطن المصري بشائعة أن الدين يبدأ من الطقس، تمهيدًا لمرحلة أخرى صدرت فيها جماعات التطرف وجوب مشاركة أصحاب الزى الواحد.. فى الأيديولوجية الواحدة.
كانت أيديولوجيات التطرف فخا وقع فيه بعضنا.. وآمن به آخرون، وكانت بداية لمزيد من محاولات الاستيلاء على عقول الشباب التي لم تلتفت إليها دولة السبعينيات ولا الثمانينيات.
أغلق التطرف الدين على طقوسه. كان الغرض الفصل الاجتماعى بين فئة بتاعة ربنا.. وأخرى ما تعرفش ربنا!
فكرة الفصل الاجتماعى بين الملتزمين طقوسيا بالدين.. وبين المسلمين الباقين غير المتلزمين بطقوس الدين واحدة من تمهيدات تكفير المجتمع التي ظهرت وجلجلت.. وتنامت.. وتضخمت فى الثمانينيات.
أدت أفكار التطرف إلى انغلاق جمعى شديد، أغلقت فيه كل فئة على نفسها مع غياب التسامح، ورفض فكرة قبول الآخر.. ثم تطورت معادلة رفض الآخر، بمزيد من أفكار التطرف لمحاولة نفيه.. واستئصاله.. وصولا إلى محاولة الاستحواذ على السلطة.. لتنفيذ أوامر الله.
لم يأمر الله بقتل.. ولا بقنابل مفخخة فى الشوارع. لم يأمر الله ببيع أسرار الدولة لقطر، ولا أمر بالتحالف مع تركيا، دعما لمخططها فى إعادة ما يسمى بالخلافة الإسلامية.. وتحقيق أرباح من غاز مسروق فى شرق المتوسط.
قصر الدين على الطقوس كمعيار وحيد للرضا الإلهى، هو الذي خوف المسلمين من عذاب القبر.. لكنهم لم يلقوا بالا لجزاء إهمال العمل.. وسوء عاقبة عدم قبول الآخر واستيعاب المختلف.



