بعمر 77 عامًا، و79 عامًا رحل الأيام الأخيرة عن عالمنا رجلان من خيرة الرجال المؤمنين بالدولة المصرية، وقيمتها الحضارية وقوتها الناعمة، هما جابر عصفور، وإبراهيم حجازي، وقد أثار الاثنان حالة من الحزن الحقيقي بعد رحيلهما، خاصة أن كل واحد منهما خاض معارك كثيرة لصالح الوطن، وقيمة هذه الدولة، ووقف كلاهما ضد الأفكار المتطرفة والهدامة، وكانا يسعيان دائمًا للتأكيد على الهوية المصرية، من خلال أفكارهما التنويرية المهمة، التي ظلا يقدمانها طيلة سنوات عديدة في مختلف المواقع التي عملا لها.
إن الخيط الفكري الذي يربط عصفور، وحجازي، أنهما من جيل عرف قيمة مصر القوية بتاريخها ورجالها، وثقافتها وصحافتها أيضًا، ونهل كلٌ منهما من القيم والأفكار التنويرية التي قدمتها ثورة 1919، واستفاد كل منهما أيضًا من المكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لثورة 1952.
وكان هذا هو الشغل الشاغل في كتابتهما دائمًا، ولهذا لم يكن غريبًا أنهما كانا في طليعة من وقف ضد جماعة الإخوان الإرهابية، عندما وثبت على حكم مصر في غفلة من الزمن بعد 2011، وخاضا معارك ضارية ضد من حاولوا تغيير هوية الدولة لصالح أفكار رجعية تنتقص من فكرة الوطن وضرورة الدولة المصرية العصية على الانقسام أو الهزيمة.
وإذا كان دور جابر عصفور قد بدا واضحًا وجليًا منظّرًا ومفكرًا لفكرة الدولة وإعلاء العقل وقضايا التنوير من الناحية الثقافية والفكرية، ومهاجمًا لكل الأفكار الهدامة والمتطرفة، سواء في عمله داخل الجامعة كأستاذ بكلية آداب القاهرة، أو اشتغاله بالعمل العام في المجلس الأعلى للثقافة، وتأسيسه المركز القومي للترجمة، وانتهاء بتوليه وزارة الثقافة، فإن حجازي الذي بدأ ناقدًا رياضيًا كان مشغولًا أيضًا بفكرة الوطن، وكان حريصًا على تقديم الاقتراحات والأفكار التي تصب لصالح الدولة المصرية، وتسعى لقوتها ونهضتها، سواء عندما عمل مذيعًا أو حتى أثناء وجوده في مجلس نقابة الصحفيين لسنوات، وانتهاءً بوجوده رئيسًا للجنة الشباب والرياضة بمجلس الشيوخ.
والحقيقة أن أفكار الرجلين في حاجة إلى تأكيدها باستمرار، خاصة عند الشباب والأجيال الجديدة، إذا أردنا أن نعرف قيمة هذا الوطن، وأهم هذه الأفكار مثلًا عند جابر عصفور هو: إشاعة قيم الاستنارة والعقلانية، إقرار ثقافة التسامح وترسيخ مفهوم الحوار في كل مستوياته، وتأكيد دور العقل وانتصار قيم التنوير التي استلهمها عصفور من أستاذيه طه حسين، وسهير القلماوي، وسعى إلى استمرار تلك الأفكار في عمله الجامعي، وعمله العام أيضًا.
بينما نجد حجازي- الذي حارب في حرب أكتوبر، وكان يرى أنها أعظم شيء في تاريخ الأمة العربية، وعرف معنى الدفاع عن قيمة الوطن- يجسد ذلك في كل أفكاره وآرائه، وفي كل المواقع التي تولاها، واشترك كل واحد منهما في الاستمرار في العمل والقدرة على الإتقان والإخلاص فيه مهما كانت الظروف، وظلت إسهاماتهما حاضرة حتى أيامهما الأخيرة، وكأنها رسالة للأجيال التالية على فكرة الإخلاص لهذا الوطن، الذي كانا يعتقدان أنه يستحق الكثير من التضحية من أجله.
وهكذا نجد أن كلًا من الراحلين العظيمين أخلص في عمله، وكانا من القلائل الذين أشاعوا التنوير والوعي لسنوات عديدة، وكانا بحق صاحبي مواقف، خاصة في الأوقات الصعبة، ولهذا فإن أمثال هؤلاء قيمتهما أكبر من تخصصهما لأنهما باختصار رجلا دولة يعرفان قيمة الوطن، ودائمًا في صف الدولة المصرية.
ولهذا أدعو لهما بالرحمة بقدر ما قدم كلٌ منهما، من أجل رفعة هذا الوطن، الذي يستحق منا الكثير.



