رسالة "ابن الزمن" إلي "رمضان.. الشهر الحرام"
بتوقيع "ابن الزمن"، نشرت مجلة "روزاليوسف" منذ 74عامًا، رسالة تحت عنوان”رمضان.. الشهر الحرام”، إلى شهر رمضان المبارك، قد تتفق مع ما جاء في الرسالة أو تختلف ولكنها رسالة موجهة لأكرم أشهر السنة.
تقول الرسالة: عزيزي رمضان، سمها "جليطة" إذا شئت، تأتى إليك من كائن بشرى يسألك في استخفاف لماذا جئت؟ سؤال بارد ولا شك.
فيه من عدم اللياقة ما يكفي، وفيه من قلة الذوق ما فوق الكفاية، وقد يتمادى بعض المتزمتين فيرون في هذا السؤال كفرا أو إلحادا أو شرا مبنيا، ومع هذا فأنا أسألك إياه، ولست بكافر أو ملحد أو شرير مبين!..المهم.. لماذا جئت؟ وما الذي أغراك بالعودة إلى طيات هذه الأرض الشقية؟ هل رأيت فيها ما يغر"؟.. هل أعجبك حالها أو حال سكانها؟.
كم أشفق عليك من عودتك لأنك سوف ترى بين ظهرانينا مسلمين أشد من الأعراب كفرا ونفاقا!
أتذكر يا رمضان؟
أتذكر يا رمضان ذلك العام الذي جئتنا فيه، ونحن في حرب مع اليهود فوق رمال النقب؟ تذكره ولا شك فهو عام لن ينسى.
كانت حربا على طريقة ؟؟
كان زبرز صفاتها العمى الكامل في جميع الجهات، عمى في السياسة، وعمى في أبصار الساسة.
كانت رواية لم تتم فصولا، ومازال أحد فصولها يمثل على مسرح الشقيقة سوريا، كانت رواية كتبها قلم إنجليزي بارع وأخرجها مخرج أمريكاني عربيد.
أما نحن فلقد كان دورنا في الرواية دور الزوج المخدوع!
وحاربنا يا رمضان. ومن لغو الحديث أن أحدثك عن معارك هذه الحرب فلقد عشتها معنا، وعشنا فترة منها معك، وكان قرآننا الكريم في جيوبنا نتحسسه في إيمان، وتربت على كلماته الطاهرة يد كل شهيد.
لقد تكشفت هذه الحرب عن أكثر من مهزلة من النوع الحامي، إننا تفانينا جدا في تكريم شهدائنا.. الأحياء منهم والأموات!
وتركنا الموتى غرباء فيما وراء سينا، وتركنا مشوهي الحرب -الفقراء منهم يتضررون جوعا على أبواب الصحف والمجلات ويسألون الله والناس، لقمة العيش، بين شوارع قاهرة المعز.
وسوف تراهم حتما يا رمضان، ترى الذي حارب في معركة "دير سنيد" جالسا في ذلك على باب "السيدة" والذي قاتل في معركة نيتساليم راقدافي العراء على باب سيدنا "الحسين" لأننا نعرف جيدا كيف نكرم أبطالنا الفقراء!
وتكشفت هذه الحرب أيضا عن مهزلة أراها كجثة أحاطت بها الأكفان، فامتد إليها قلم شاب جريء لم يلوثه الزمن بعد، وأزال الأكفان، وكشف الغطاء، ووضع يديه بين أشلائها ثم صرخ قائلا: هاكم جثة مصري ذبح لوم يستشهد، ذبح بأيد مصرية خائنة، قتلته مع سبق الإصرار والترصد، قتلته لتعيش في عز ورفاهية بأموال مسروقة ملوثة بالدماء.
ومن ثم يا رمضان انطلقت بين أرجاء الوادي، قضية الأسلحة الفاسدة، قضية لو قامت في بلد غير مصر، لاهتزت لها عجائب العالم السبع، ولكننا هنا في مصر أم العجائب، وبلد خوفو وخفرع ومن سرق.
قضية الأسلحة الفاسدة في حرب 1948
ماذا أقول لك عنها أيا الشهر المبارك؟ لن أقول لك شيئا، ويكفي أن تعلم أننا كنا قد أوشكنا أن نقيم للجثة مقبرة متواضعة ونكتب عليها.. هنا مقبرة الحرامي المجهول. في العام الماضي، وفي العام الذي قبله، والذي قبل العام الذي قبله، جئتنا أيضا، جئتنا بنورك القدسي الهادئ الذي يشرق على المسلمين جميعا، أغنياء وفقراء، ويعطى أغنيائنا العظة، ويسبل على فقرائنا العظة، ويسبل على فقرائنا أثوابا أخرى من الصبر الجميل. أصارحك يا رمضان أن الحال قد تغير كثيرا ولكنه تغير من سيء إلى أسوأ.
إن أغنيائنا في واد، وفقراؤنا في نفس الوادي، ومع هذا فأنات الفقراء المحتاجين لا تؤثر في قلوب أغنيائنا الطيبين.
أغنياؤنا لايصومونك، وفقراؤنا يصومونك بأكملك.. ومعك أحد عشر شهرا.. هي بقية السنة.
إن العدالة الاجتماعية بيننا مفقودة تماما، وشريعتنا السمحة أهملت إهمالا تاما،وعندنا مشايخ وعلماء كبار، كل منهم تميزه عمامة جميلة، ولحية مسترسلة في نعومة جلود الثعابين، هؤلاء الناس لا يؤدون رسالاتهم كما يجب، فقد اكتفوا من تعاليم الدين بأنه عز وجل، يرزقهم من حيث لا يعلمون.
لايجاهدون كما جاهد علماء الدين الأوائل.. لايكافحون في رفع الظلم عن عاتق أخوانهم في الإسلام .. لايتكملون ولا يصلحون.. لايفتحون أفواههم بكلمة حق أو بكلمة عدل أو بكلمة لوم يؤنبون بها كبيرا أخطأ أو عظيما ضل السبيل. وإذا تكلموا يا رمضان. سمعتهم ينافقون.
لا تجد بينهم من يزود عن حوض عقيدة، أو يدافع عن قطرة مبدأ. أين محمد عبده وأين جمال الدين الأفغاني، وأين أئمة الدين، وبائعو الدنيا ومشترو الآخرة التي هي خير وأبق؟.
لقد ساءت القيم الدينية وساهمت القيم التربوية وانحلت الأخلاق، وفاضت الرذيلة، وانهدم في هذا الركن من العالم كل صرح شريف، ليقوم مقامه تمثال لمجرم مرتش أو خائن محظوظ، لا يتقى الله في دينه، ويعيش لدنياه كأنه يعيش أبدا.
نسينا أو تناسينا -أغنياء وفقراء، إن في السماء منتقما جبارًا، وأن الذي أخطأهم حساب الدنيا، لن يخطئهم حساب الآخرة، يوم يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه.. ولا واسطة تغنيه، ولا محسوبية.
لماذا جئت أيها الشهر الكريم؟
هل أعجبتك كل هذه الصور أو بعضها، فعدت إليها لتراها مرة أخرى، وقد ازدادت ضغثا على إبالة؟
أن العودة إلى الشيء فيها اعتراف بالشوق إليه أو الشوق إلى رؤيته إن لم يكن الأمر عادة. ..فهل هو شوق إلى رؤية ضلالنا وضياعنا، أم أن الأمر عادة لا حيلة لك فيها؟. سيدى رمضان..
أتذكر أن لنا قضية وطنية مع الإنجليز مضى عليها جيل وأجيال؟.. تذكرها طبعا، بل لقد رأينا فعلا وأنت في إحدى دوراتك المباركة في أرض الكنانة.
إن القضية مازالت على الرف، تتناولها أيدي الزعماء، ورؤساء الحكومات حكومة أثر حكومة، فتزيل من فوقها الأتربة، ثم يتحدثون عنها فترة من الوقت، ويصرخون و"يهرجون" ثم يضعونها مرة ثانية على الرف الخالد.
كلهم ذلك الرجل.. لهم في خارج الحكم رأى، وفي الحكم رأى مخالف يتخذون من السياسة مهنة رابحة، وتجارة تنتج الذهب ورأس المال هو تلك القضية الوطنية الرائجة التي أكل عليها الدهر وشرب.
أيها الشهر الكريم كم أنا حزين من أجلك.. حزين لأنك قد جئت إلى أرض أتربتها نفاق وسكانها قد نسوا أديانهم وأخذوا يعبدون آلهة الشهوة، والأنانية والبغضاء.
ألم تكن تستطيع أن تتأخر يا رمضان أو تعتذر؟ إننا لسنا في حاجة إليك بقدر ما نحن في حاجة ملحة إلى شهر مارس مثلاً.. إله الحرب والدمار.
إننا أناس لا نعبد إلا.. إله الذل، وإله المادة، وبين هذين الإلهين نعبد أيضًا مجموعة من الأصنام، فلماذا جئت يا رمضان؟.



