مصطلح أفريقيا.. الأصل والدلالة
اختلف الباحثون في أصل مصطلح "إفريقيا"، أو "القارة الإفريقية"، وبدا خلط واضح بين كل من لفظ "إفريقية" وهي المدينة القديمة التي تقع في غرب مصر في بلاد شمال إفريقيا من ناحية، وتسمية "إفريقيا" Africa التي تشير للقارة ذاتها. ويُشير لفظُ أو مصطلح "إفريقية"، وتكتب بـ"ألف" أسفلها "همزة"، وآخرها "تاء مربوطة، في المصادر العربية إلى مدينة تقع في شمال إفريقيا حاليًا، وبحسب بعض المصادر تقع فيما بين مدينة برقة (في ليبيا حاليًا) وما بين مدينة القيروان (في تونس)، بينما يحددها البعض بمدينة القيروان، أو تونس حاليًا..الخ.
وعن موقع مدينة "إفريقية"، يقول ابن الفقيه: "ومن برقة إلى القيروان مدينة إفريقية ستمائة وثمانية وثلاثون ميلاً". وقد جعل المؤرخ المصري ابن عبدالحكم (ت: سنة 257هـ) أحد الأبواب في كتابه "فتوح مصر وأخبارها"، بعنوان: "ذكر فتح إفريقية" إشارة لأهمية فتح إفريقية في شمال إفريقيا للمسلمين في ذلك الوقت. وتجعل بعضُ المصادر "تاهرت" (الجزائر حاليًا) جزءً من مدينة "إفريقية"، يقول الإصطخري: "ويقال إن كورة تاهرت بأسرها من إفريقيا، إلا أنها مفردة بالاسم والعمل في الدواوين". ومن اللافت أن الإصطخري يذكرها: "إفريقيا"، ولعل هذا، في الغالب، خطأٌ من ناسخ المخطوط الأصلي للكتاب، فهذا الشكل للتسمية، أي "إفريقيا"، لم يكن يُعرف بتلك الطريقة أيام المؤرخ والجغرافي الإصطخري، حوالي القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. بينما بحسب ياقوت الحموي، فإن "إفريقية" اسم لبلاد واسعة ومملكة كبيرة تقع قبالة صقلية، وينتهي آخرها في مقابل جزيرة الأندلس. بينما يجعل المقدسي إفريقية الكورة (أو الإقليم) الذي يلي برقة من كور المغرب، ثم تاهرت. ثم يقول عنها: "أما إفريقية، فقصبتها القيروان، ومن مدنها: صبرة، أسفاقس، المهدية، سوسة، تونس، بنزرد". وعلى هذا كان مصطلح "إفريقية" في رأي المؤلف خلال العصر الوسيط يبدأ من مدينة برقة أو طرابلس غربًا، وحتى ما بعد تاهرت في المغرب الأوسط في أقصى الشرق. وبحسب روايات أُخرى، فإن المسافة فيما بين كل من إفريقية وتاهرت تبلغ مسيرة شهر على الإبل، أي أن المسافة تبلغ حوالي 1200 كم، فاليوم أو المرحلة بحسب المصادر العربية يبلغ حوالي 40كم.
ومما يلفت الانتباه فيما ورد حول مدينة "إفريقية" في المصادر العربية أن الخليفة عمر بن الخطاب كان يرفض فتح المسلمين لـ"إفريقية"، وقال عنها لعمر بن بن العاص حول هذا الأمر: "لا، إنها ليست بإفريقية، بل إنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لايغزوها أحد ما بقيت".
أما مصطلح "إفريقيا السوداء" بحسب الكتابات الغربية، فإنه يشير في أيامنا، للبلاد أو الممالك الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء الكبرى، حيث تسكن بها الشعوب الإفريقية (ذات البشرة السوداء)، وهم الذين تطلق عليهم المصادر العربية: "أمم السودان"، أو "شعوب السودان"، أو "بلاد السودان"، بحسب مصادر أخرى. يقول أبوالفداء: "ذكر أمم السودان، وهم من ولد حام بن نوح عليه السلام". وعن حام وانتساب شعوب السودان له، يذكر القضاعي (ت: 454هـ): "فالسودان كلهم على اختلاف أجناسهم من ولده، والقبط، والأفارقة الذين نسبت إليهم إفريقية من ولده". كما تشير العديد من المصادر للفظ "الأفارقة"، إما إشارة لسكان مدينة "إفريقية"، أو ربما إشارة إلى سكان شمال إفريقيا بصفة عامة.
كما يشار إليها في روايات بعض المصادر بتسمية: "بلاد السودان"، أو "أرض السودان". ويطلق عليهم آخرون: "الجنس السوداني"، Sudanic Race أي: ذوي البشرة السوداء. وعلى هذا، فلفظ "أمم السودان" (أو شعوب السودان) يشير للسكان القاطنين في هذه البلاد، أما "بلاد السودان"، يُقصد بها الآراضي التي تسكن بها هذه الشعوب الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى من سواحل المحيط الأطلنطي غرب وحتى سواحل البحر الأحمر، وبلاد القرن الإفريقي، وكذلك سواحل شرق إفريقيا على المحيط الهندي في أقصى الشرق.
كما أن لفظ "السودان" يشير بدوره إما إلى الأرض ذاتها من ناحية، أو إلى الشعوب الإفريقية التي استقرت جنوب الصحراء من ناحية أخرى. وبحسب روايات أخرى، تشير إلى أن شعوب "إفريقيا السوداء"، أو "شعوب السودان" بأنهم من أبناء سودان بن كنعان، وهي تسمية لجد الشعوب السودانية لم نر ذكر لها إلا فيما يذكره المسعودي في "أخبار الزمان"، ويعتقد المؤلف أنها رواية لا أصل لها. ويقال إن المدعو "سودان" كان له عدد من الأولاد، وكان من بينهم شعوب الزنج، وكذلك أجناس وعرقيات أخرى كثيرة، كانت قد استقرت في بلاد المغرب بحسب ذات الرواية.
ومن جانب آخر، اختلفت الآراءُ حول أصل اسم "إفريقيا"، أو "إفريقية"، وجذور التسمية الأولى لكل منهما، وكذلك دلالتهما، حيث يرى البعض أن أقدم الأسماء أو التسميات التي ارتبطت بالقارة اسم: "كيبو– لان" (أو الكيبولان) al – kebu- lan، ويقال إنه ذاعت تلك التسمية قبل اسم "إفريقيا"، أو Africa. ويشير "شيخ أنتا ديوب" إلى أن اسم (al – kebu- lan) يُقصد بها "أم البشر"، أو ما يقال لها "جنة عدن"، وهذه الكلمة كانت تستخدمها شعوب إفريقيا القديمة: النوميديون Numedians، والنوبيون Nubians، والمورز Moors، والقرطاجيون Carthagians .
وتذكر بعض المصادر العربية أن اسم إفريقية (وهي المدينة الإسلامية، وليست القارة بالطبع)- فيما يقال- نسبة لشخصيةٍ مجهولة، تذكرها تلك الروايات باسم: إفريقش بن أبرهة، ويقال إنه هو الذي بنى مدينة "إفريقية" في شمال إفريقيا. وقيل بحسب روايات أخرى: كان اسمه: إفريقيس بن أبرهة، وقيل غير ذلك من روايات أكثرها منتحلة. وأورد النسابة ابن الكلبي (ت: 204هـ) اسم الشخص الذي تنتسب له إفريقية: "إفريقيس بن صيفين سبأ"، وهو الذي ينتهي نسبه إلى: يشجب بن يعرب بن قحطان، أي أنه كان في الأصل من عرب اليمن. وتذكر بعض المصادر، أن "إفريقيس" هذا لما غزا بلاد المغرب، قام ببناء تلك المدينة (أي إفريقية)، ثم أطلق عليها اسمه بعد ذلك. بينما تذكر روايات أخرى أن تسمية "إفريقية" نسبة لشخص كان اسمه فيما يقال: "فارق" الذي تنسب له الشعوب التي تدعى "الأفارقة". وفي رواية: إنه لم سكن مصر بن بيصر بن حام أرض مصر، حملت تلك البلاد اسمه، ثم سكن أخوه (ويدعى: فارق) في الآراضي التي تقع في غرب مصر، وتحديدا في إفريقية، وهي التي حملت اسمه بعدئذ.
وقيل: سميت إفريقية بذلك، لأنها التي فرقت بينآراضي مصر من ناحية، وبلاد المغرب من ناحية أخرى. ويذكر القضاعي: "والقبط والأفارقة الذين نسبت إليهم إفريقية من ولده (أي من أبناء حام بن نوح)، وفارق وقبط أخوان ابنا مصر بن بيصر بن حام بن نوح. وقيل غير ذلك من روايات، غير أن أكثرها كما نلحظ يحمل طرافة غرابة تبعدها عن المنطق والسياق التاريخي، وأكثرها متأثر بما ورد في الأسفار التوراتية.
أما كلمة "إفريقيا" الحديثة Africa، فقد أطلقت للمرة الأولى في الغالب في روايات المؤرخين اليونان والرومان القدامى على آراضي هذه القارة. وأشار المؤرخ هيرودوت الهاليكارناسي Herodout- الذي زار أرض مصر منتصف القرن 5 ق.م- إلى آراضي مصر وليبيا وإثيوبيا وكذلك الشعوب التي تقطن هذه البلاد باسم: "إفريقيا". ويُرجح المؤلفُ أن لفظ "إفريقيا" أو "إفريقية" مشتق من الكلمة اللاتينية "أفريكا" Africa، وبحسب البعض فإن لفظ "أفريكا" (أو "إفريقيا")، وغيرها من الصياغات اللغوية الأخرى، مأخوذة من الجذر اللغوي: "آفر" Afer، وجمعها: "أفري"، ولقد وردت تلك الصيغ في بعض المصادر اللاتينية القديمة، وكان ذلك قبل سقوط قرطاج في شمال إفريقيا بوقت طويل.
ويذهب البعض إلى أن لفظ "إفريقيا" ربما يكون مشتقًا لغويًا من أصل فينيقي، وهي كلمة ربما تعني: "الغبار"، وذلك ربما إشارة إلى رمال الصحراء الكبرى التي يعيش فيها هؤلاء، والتي تتميز بقوة عواصفها، وغبارها الشديد. بينما يذهب آخرون إلى أن تسمية "إفريقيا" ربما تكون مشتقة من اسم "العفر" أو "الأفار" Afar، وهي مجموعة إثنية أو عرقية صغيرة كانت قد عاشت في آراضي تونس، وفيما يعتقد أنهم كانوا أول "الأفارقة" الذين واجههم الرومان في بلاد شمال إفريقيا، وفيما يبدو جاء اسم "العفر" مجازيًا إشارة لجميع سكان شمال إفريقيا.
بينما يشير الكتاب الرومان لأرض "ليبيا" (أو أرض اللوبيين) باسم "إفريقيا"، وينتسب لها عدد من الشخصيات والأعلام القدامى وحتى العصر الوسيط من المؤرخين والفلاسفة، فقد حمل لقب "الإفريقي"، أو الإفريقي، أحد مشاهير المؤرخين، المدعو: "يوليوس أفريكانوس"، أو "يوليوس الإفريقي" Julius Africanus، ويعتقد أنه نشأ في ليبيا، ثم عاش في عدد من الدول فيما بعد، مثل: مصر وفلسطين، وغيرهما.
ويُعد "أفريكانوس" (أو: الإفريقي) مؤرخًا، ولاهوتيًا مسيحيًا بارزًا، عاش في القرنين الثاني والثالث الميلاديين، ويعده بعض المُحدثين من آباء الكنيسة المسيحية في القرن الثالث الميلادي. كما حمل لقب "الإفريقي" عدد من الشخصيات المهمة في العصر الوسيط، ومنهم اللغوي المصري المعروف "ابن منظور"، الذي عاش في القرن 7هـ/13م، وهو يحمل أيضا لقب "المصري" لأنه ولد وعاش بمصر، ومات بها، لكن أجداده الأقدمين كانوا من "إفريقية"، ومن ثم كان من ألقابه: الإفريقي.
كما حمل لقب "الإفريقي" (أو الإفريقي)، والأصح اللفظ الأول، الرحالة المعروف باسم: ليو الإفريقي، أو ليون الإفريقي" (أو الحسن الوزان) الذي عاش في القرن 10 الهجري/القرن 16 الميلادي، و"ليو الإفريقي" هو رحالة مغربي، وليس من مدينة "إفريقية"، ولقد حمل لقب "الإفريقي" لما عاش في آراضي إيطاليا بعد أن وقع في الأسر، وصار مقربًا من البابا في روما، وهو صاحب الكتاب المشهور، والموسوم بـ"وصف إفريقيا" الذي يعد أحد أهم المصادر الجغرافية في التاريخ الإفريقي خلال القرن 10ه/16م.
ومن ناحية أخرى، فمن الواضح أن الإغريق والرومان كانوا قد استخدموا كلمات أخرى لتعيين بعض المجموعات الإثنية التي كانوا قد واجهوها عبر تاريخهم فيما يمكن أن نسميها باسم: إفريقيا، الإضافة إلى ليبيا ومصر وإثيوبيا. وفيما يبدو أن النصوص اليونانية المبكرة عن إفريقيا كانت تشير أيضًا إلى آراضي موريتانيا وشعب المورز (حاليًا شمال غرب تونس وشمال شرق الجزائر)، وكذا نوميديا والمناطق التي تسكن فيها شعوب البربر.
وتذكر المصادر أن أحد أباطرة روما منح بعد انتصاره على ملك قرطاج "هانيبال" (حنبعل، أو حنا– بعل) في "معركة زاما" حوالي سنة 202 ق.م لقب "الإفريقي" Africanus، ولقد ورد ذكر الصفة "إفريقي" Africus عدّة مرات قبل سقوط قرطاج في حوالي سنة 146 قبل الميلاد، وألحقت روما بعد ذلك أراضي قرطاج، ومن ثمة أطلقت عليها المصادر الرومانية: "المقاطعة الإفريقية" Provincia Africa، ثم صارت تعرف فيما بعد باسم: "إفريقيا" Africa. ويُعتقد أن تلك "المقاطعة الإفريقية" (ويقصد بها: قرطاج) موطن "الأفارقة" Afri، وفيما يبدو فإن تلك التسمية كانت مقصورة في بداية الأمر على السكان الأصليين الموجودين في قرطاج، وحصل أحيانا الفصل والمقابلة بين هذه التسمية وتسمية "البونيين" Poeni، وهم القرطاجيون، أو سكان قرطاج (Cathaginiense) وذلك قبل أن تشمل أيضا في خاتمة الأمر "القرطاجيين" أنفسهم.
وفي الخاتمة.. يبدو من الأهمية بمكان أن نوضح الفرق اللغوي والاصطلاحي بين كل من مصطلح "إفريقية" أو "إفريقيا" من جانب، ومصطلح "إفريقيا" من جانب آخر، خاصة مع وجود شيء من الخلط لدى بعض الباحثين عن الفرق بين المصطلحين، ودلالة كل منهما. حيث إن المصطلح الأول يشير لقارة إفريقيا قديما، أو إلى بعض الأقاليم منها لاسيما في شمال إفريقيا، وعلى وجه التحديد تلك المناطق التي تمتد من آراضي ليبيا وحتى آراضي تونس، وهذا الاسم (إفريقية) ورد هكذا في المصادر العربية والإسلامية التي تؤرخ لحقبة العصر الوسيط، ويقصد بها في الغالب مدينة "القيروان" (تقع في تونس حاليا).
أما المصطلح الثاني- وهو إفريقيا- وهو الذي يكتب بالهمزة أعلى حرف الألف، فإنه يشير إلى تسمية قارة "إفريقيا" ذاتها في العصر الحديث. وعلى هذا، فإن اللفظ الأدق، أو بمعنى آخر الأصح، عندما نتحدث عن القارة الإفريقية حاليًا يجب أن نكتب الاسم الثاني: (إفريقيا)، أي بوضع الهمزة فوق الألف، وليس تحت الألف لنكون أكثر دقة في الحديث عن القارة السمراء.
ولعل هذا يتشابه بشكل أو بآخر في حديثنا عن بعض الدول، ولعل منها غانا، فهذا الاسم يشير لدولة غانا الحالية، أما تسمية "غانة" (بوضع تاء مربوطة بدلا من الألف) فإنها تشير إلى مملكة غانة القديمة التي تحدثت عنها العديد من المصادر العربية والإسلامية الكلاسيكية القديمة التي تؤرخ إلى حقبة العصر الوسيط، فلكل شكل لغوي معنى ودلالة يختلف عن الآخر.
أستاذ جامعي وباحث في التاريخ الإفريقي



