الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

موعد مع الحياة .. قصة قصيرة

لقاء في المقهى -
لقاء في المقهى - ارشيفية

لم تكن تدرى ماذا تفعل لكى تصل إليه فى موعده، كأن لم يكن مترو الأنفاق أسرع وسيلة تحت الأرض للوصول إلى بُستانه.

 

تطلعت إلى سقف المترو، كانت الشمس فى أوجها فى المسافة بين مروحتين، وكانت نجوم الليل تبرق بشكل ما عند باب الطوارئ، استندت إلى كرسيها خلف كابينة القيادة.. وفكرت أن تدق دقات ثلاث كى ينتبه السائق إلى بدء معزوفتها الخاصة من قلق وأشواق ومشاعر تفتح بابها الآن برفق، تركت خلفها أهرامات من الملابس، تحيَّرت فى ألوانها ومدى مناسبتها لأنوار لقائه، الأسود الساطع، والأبيض المحايد، والرمادى الذي اكتفى بابتسامة خفيفة ساخرة، الأحمر لونها الدافئ المفضل، كان قلبها يخفق بشدة ويتأنى قبل أن يقفز فى مساحة كبيرة من اللون البرتقالى.. 

 

استكانت البرتقالات فى مكانها هذا الصباح على شجرتها، تذكرت مشهدا من فيلم سينمائى، البرتقالتين مثمرتين على أغصان شجرة، وتقدم منهما رجل ما وبكلتا يديه اعتصرهما، ومرغ وجهه فى رائحة البرتقال..

 

توترت، انتابها خجل شفيف، غيًّرت الفستان، وقررت أن تقابله بفستان أزرق بلون البحر، وبلون عينيه، كانت مسابحهما تنفرط ببطء على تفاصيلها عندما رآها لأول مرة، تجمع حياتهما بهُدبها، وتستعيد عناقيد المسابح بزُرقتها، وتهمس: لك.. لك.. لك كل، عناقيد العنب وحب التوت.. تركت خلفها دولابا مفتوحا على عالم مغلق: فساتين بأكمام، وتنورات بسلاسل وسراويل بأقفال، وعطورا بمغالق، تركت خلفها أسوار صباح، وأياما لم تذق فيها سوى انتظار القادم..، وضعت شطيرة انتظارها فى صحنها، مع قطعة كبيرة من القشدة قالت: ستبتسم أيامى يومًا ما، وأعانق طعم العسل..

 

قيظ شمس المترو لا يمكن احتماله، المحطات التي يقف فيها تستغرق زمنًا كأنه عمرها ينفرط منها فى كل محطة. تراقب عقرب الثوانى قبل عقرب الدقائق، يخفق قلبها بشدة، تراه سينتظر؟ متأخرةً ساعة عن موعدها معه.. فهل ينتظر ... تتخفف من توترها وقد تسلل إليها غناء عذب "وليلى شمعة شايلاها لليلة حُب، وقلبى حنين .. حنين شايلك مطرحك فى القلب".

 

تستدفئ بالصوت الحنون، ما باليد حيلة؟.. ماذا تقول له عن تأخرها.. هل تكشف عن سر أهرامات الملابس، عن حيرة الألوان، عن الآنية الكانوبية التي حنطت فيها قلبها من آلاف الأعوام، هل تقرأ عليه نقوش قلبها: "من قبل ولادة أول زهرة فى العالم كنت أنت لى البرعم الذي اخترق فؤادى ذات ليل، سقيته دمعا وماء سماء، وفكرت طويلا كيف كانت السماء رتقا فلما جئت أنت إلى العالم قد التئمت.. تبسمت وأمطرت شوقا إليك"..

 

من قبل أن يتضوع عطرك فى الكون ويعرف الخَلْق أن هناك برعما نبت، وزهرة تفتحت قبل أن يحتاروا ويستقروا على اسم لك..

 

أخبرتهم أنك ماء الزهر وروح الورد، وكان لابد أن تمر آلاف السنوات حتى أقنع هؤلاء النائمين أمام الأضواء الزرقاء والشاشات الضوئية أن الورد الذي يشبه علامات الترقيم، مهما كثرت باقاته، وتعددت أشكاله فهو ورد افتراضى، الحقيقة وحدها بُستانك والورد كله أصوله من فرعك.

 

ووقفتُ على كرسىّ، وحلَّقتُ بجناحين فهل أصل إليك، وأعتذر عن ساعة تأخير واحدة."

 

حانت محطتها، وكان عليها أن تغذ السير بعد نزولها من المترو حوالى ربع ساعة..

 

خمسة عشرة دقيقة تحمل احتمالات كثيرة، أن يرتشف آخر رشفة من فنجان قهوته ويمضى، أن يحاُسب النادل وهو شارد الذهن ويحتدم قلبه بغضب غامض، أن ينظر إلى الكرسى الخالى، ويُدير ظهره إليه، أن يُحدق فى العابرات.. ويضرب المنضدة بكفه .. لماذا أنت؟!.. لماذا انتظرك أنت بالذات كل هذا الوقت؟ دلفت إلى المقهى، رأته جالسا من خلال الزجاج المصقول، يبدو المقهى كصوبة زجاجية لزهر تم استنبات بذوره ولم ينم، استرقت النظر إلى ما يحيط المقهى من أشجار، لفت نظرها أنه ليس هناك على فروعها أي برتقال!.

 

صافحته بيد مرتجفة، نظر فى عمق عينيها، وأشار إلى ساعته، جلست مرتبكة كتلميذ وصل متأخرا إلى الفصل، عادت صبية بمريول أزرق، تحسست ضفيرتيها القديمتين، حقيبتها القماش، شطيرة انتظارها الطويل، اعتذرت .. رن هاتفه المحمول.. استأذن، وخرج من المقهى، رأته وهو يدور حول المقهى الصوبة، كان يتكلم ويبتسم، يتكلم ويحرك يديه فى لطف، يقترب ويبتعد، يدور حول جدران المقهى الزجاجية كأنه حائر لا يعرف الطريق الدخول إليه كان يسير ببطء ثم يتوقف، ينظر إلى السماء ويُقسم.. ثم يبتسم، يستعيد دورانه حول المقهى، وعيناها تدوران حوله كنحلة خشبية ترقص حول محورها ولا تريد أن تتوقف بعد دفعة قوية من يده طالت غيبته وطال انتظارها، كان يملأ كيانها بغيابه، 

 

استعادت نقوشها : كم انتظرتك، من ألف عام وأكثر، عندما رأيتك أول مرة فى زمانى القديم قلتُ: أنت لى، صافحتك عندما عرفتنى بك صديقتى، وسرقت قبسًا من عينيك أزرق

 

ورقرقت هذا البحر الواسع على شاطي، أخذت ولونت فساتينى قبست وسبقتُ السماء إلى حجرتى كنت قادما من باريس أو عائدا إليها لا أدرى ماذا قالت عنك صديقتى..

 

لقاء واحد خارج عن نواميس الكون، أحدث زلزالا صغيرا من حولى لم يشعر به سواىّ، رصده قلبى فقط، مرقت كشهاب لاهب مضئ، وما كان باستطاعتى أن أسأل صديقتى.. هل عُدت؟.. هل سافرت؟، هل ضمتك مجرات النجوم؟.. هل سطعت ذات ليلة ثم غبت وبقيت وحدى على ظهر هذا الكوكب؟! والآن عُدت فى ظروف غامضة .. لأذكرك بنفسى، بصديقتى، باللقاء الفريد الوحيد، فاقتطفت لى موعدًا جديدا بعد غياب طويل قلت: تذكرت.. تذكرت..

 

تميدُ بها الأرض، وهو يدور حولها برفق، يتأنى فى مشيته، ويتوقف، يتابعها بعينيه من بعيد ويُمعن فى التأخير، تنظر حولها فى ارتباك وضجر، طالت مكالمته.. وغلبها حرجها، كان النادل يتأملها ثم يُغضى .. وأخيرا عاد .. استعادت نقوش قلبها:

 

صافحتنى من جديد كأنك لم ترنى إلا هذه اللحظة، وكأنك ما صافحتنى من قبل أبدًا، تركت هاتفك جانبا..

 

وقفتُ وقد احتملت يدك القوية الجاذبة، تأملتنى وأنت تُديرنى فى وسط المقهى مثل راقصة باليه أوشكت أن تؤدى رقصتها الأولى دُرت حول محور يدك، ورقص فستانى من حولى، تأملتَ ذيله الحريرى بشغف، ولم تحفل بالنادل ولا برواد المقهى، ولا بالداخلين إليه، ولا الخارجين منه، أدرتنى بكفك دورة واحدة مُدوخَّة، وأغمضت عينيك بعد تأمل طويل، دار بى العالم، واستدار المقهى على محوره على بحر أزرق، ارتجف جسدى كله بين يديك، صرت أرتجى دوام اللحظة، غياب العالم وحضورك.. سألها

-    ساعة وربع تأخير؟

همست بشغف أنثى: سامحنى!

ابتردت، قالت: التكييف عال جدا فى هذا الموضع.. نجلس فى ركن آخر؟

تأملها قليلا: لا .. سأتركك فى هذا الموضع بالذات ساعة وربع!!

أغضت .. ونظرت إلى المطفأة التي امتلأت بالعديد من أعقاب سجائره، ورمادها، أدركت زمن غيابها أنهضها فجأة آخذا بيدها..

-    تعالىّ…

اختار ركنا دافئا فى المقهى، وصار يحمل إليه أشياءها اختلجت دمعاتها المحبوسة، وذرت عليها هُدبها، نهض وخلع جاكت بذلته، احتواها به، ووضعه على كتفها، طلب من النادل شيئا من القهوة، سكب بعضها فى صحن فنجانها ودس فيها قالبا من سُكّر ثم صار يقربه من فمها، كنات تترشفه فيضوعُ فى فمها العنبر..

يَهمس لها:

-    هل استدفئتِ..

فيقول نقش قلبها: 

أنت رجلى.. أنت لى .. لى 

استأذنها وقد استشعر غياب النادل، قال لحظةً واحدة.. سأطلب منه شراب التوت لنا معا ابتسمت، قالت : لا تتأخر  نظر إليها مبتسما نصف ابتسامة 

 

كانت تنصت رغم انغلاق الصوبة الزجاجية عليها إلى موسيقات بعيدة، طيور تحلـﱢق ثم تختفى فى أسرابها فجأة، سحابات تغطى السماء مثقلة بدموع لا تنفثها، فناجين قهوة بالعنبر تمتلئ حتى حافتها لا أحد منها ينهل..

 

رن هاتفه أمامها على المنضدة، وأضاءت شاشته.. توقد اسم المتصل مُسجلا على هاتفه: حبيبتى!..

 

خفق قلبها بعنف.. وظل هاتفه يرن..

حبيبتى!.. حبيبتى!

جاء مسرعا من حيث لا تدرى، أخذ هاتفه من أمامها، وخرج من المقهى

-    لحظة .. لحظة واحدة 

 

صار يدور حول المقهى، يُغضى، ويضحك، يأمل، يحكى، ويشرح، ينظر إلى السماء فكأنه امتلك العالم، يدور من حولها، وبصره عليَّها، يتابعها برعم نبت فى هذه اللحظة للتو فى قلب الصوبة الزجاجية، يدور من حولها، وتتناثر كلماته على الشجر...تحاول أن تستقرئ شفتيه من بعيد…

 

أن تترجم انطباقهما، وهمسهما، وصياحهما، حبيبتى.. حبيبتى.. كان عالمها يرتج، ونقوشها تهتف بها من قلب مفعم بالدمع:

 

"كنت لى من أزل، واسأل نقش قلبى، أنت علمتنى أول رقصة مع الحياة، أن أبدأ مرتى الأولى.. أن لا أعبأ بالنادل ولا بالناس ولا بالجدران ولا بالأسوار ولا بالحواجز.. وأن أدور هكذا من حول نفسى، أحـﱢدث هذا التغيير فى العالم، أزلزل هذا الصمت المخيف، وأثقب جدار شرنقتى الموحشة وأنفث الحرير من حولك وحولى ألفك بشالى، وأنت تمسك بذيل فستانى، وتقطف لى نبتة ذيل القط وتمررها على خدى وتهمس لى.. فأغمرك بطفولتى، وبماء من البحر الذي قبسته من عينيك والمسابح الزرقاء التي تنفرط حباتها الآن وتغمر عالمى بالحب وبالغياب.

 

كان لا يزال يدور حول المقهى كوكبا حائرا، وكانت تلتمس سترته التي لا تزال حول كتفيها دافئة تسجل نقوشها على قلب صغير من الجعران الأزرق 

... اقتربت منها لا أكاد أخفى فضولى.

قلت لها: رأيتك ورأيته فى زمن ما فعرفتكما من أول وهلة، وأنتما تتقاسمان الانتظار والوحشة

انتبهت .. ربما فزعتْ قليلا، قلتُ طالعنى بعينين واسعتين، استدار انسانهما فى قلق

 معذرة، قضمتُ قضمة من شطيرة انتظاره فى غيابك

كان يدق المنضدة بقبضة يده، كان يهتف بلوعة: لماذا أنت؟.. لماذا أنتظرك بالذات طوال هذا الوقت؟ فغالبتنى غيرتى، وغلبنى فضولى فقبست من مسابح زرقة عينيه، ودرت حوله، وحول المقهى الزجاجى، وحول العالم، كنحلة خشبية أدارتها كفه القوية الجاذبة فلم تتوقف أبدا فتذوقت مرتى الأولى، أحسست بأشواق عارمة تتدفق فى كيانى، بكل تفاصيلى تختلج، أشتهى أن يضمنى فستانك الأزرق، أن يمسك بذيل فستانى، وأن يُديرنى فأدور وأن يمسسنى بنبتة ذيل القط، وأن يمررها على خدى فأستعيد طفولتى..

أنا التي لا أعرف سوى بياض الورق، وسطور الورق، وموت الورق..

والآن قد استيقظتُ بين سطرين ..

أشتهى مرتى الأولى، كراقصة باليه مَسَّها السحر، لترقص رقصتها الأولى مع الحياة.   

تم نسخ الرابط