"لما الشتا يدق البيبان" لم أكن أقصد من خلال هذه العبارة الإشارة إلى كلمات أغنية الفنان علي الحجار، بل كنت أتساءل عما سيحدث في الإسكندرية عندما يودعها فصل الصيف ويأتي فصل الشتاء بنواته المختلفة وأمطاره الشديدة التي يصاحبها البرق والرعد والرياح العاتية.
في الماضي كانت الإسكندرية مقصد الرحلات على مدار فصول العام الأربعة، حيث كان لكل فصل متعته الخاصة وجوه الفريد الذي تتميز به عروس البحر عن باقي المحافظات المصرية، تجدها في الصيف واجهة المصطافين من كل أنحاء مصر والدول العربية والأجنبية، فهناك من يعشق الشمس وجمال البحر والكورنيش والنسمات المبهجة التي تشتهر بها شواطئها الممتدة من أبو قير إلى العجمي، في حين وقتها لم يكن يوجد الساحل الشمالي أو أي من القرى السياحية المنتشرة حاليا.
أما بالنسبة لفصل أشهر المطر والرياح "الشتاء"، فكان يتميز بالهدوء والسكون الذي لا يقاطعه شيء سوى صوت تلاطم أمواج البحر التي تفوح منها رائحة اليود، كما كانت الأمطار تتساقط في مشهد ساحر وجذاب يخطف القلوب. مظاهر عديدة رسمت لوحة فنية لفصل الشتاء، الأمر الذي جعل له مذاقا خاصا لمحبيه وعشاقه من داخل مصر وخارجها.
أتذكر في الماضي أثناء عودتنا من المدارس في فصل الشتاء، كنا نلعب ونلهو ونتغنى للأمطار أثناء هطولها، وبرغم غزارة مياه الشتاء إلا أنها لم تكن حائلا في حركة البيع والشراء أو ذهاب وعودة الطلبة من المدارس والموظفين من عملهم، نظرا لاختفاء تجمعات وبرك المياه والتي كان يتم تصريفها تلقائيا، وفي دقائق معدودة نجد الشوارع خالية من تجمعات المياه. أما الآن فقد أصبح هطول تلك الأمطار الغزيرة مشكلة كبيرة أثرت بشكل واضح ومباشر وتسببت في توقف وتعطل العديد من الخدمات الحيوية بالثغر، كما أدت تلك المعاناة إلى حدوث عملية شلل مروري نتج عنه فصل كافة أحياء المدينة عن بعضها. كما كان لمشكلة انسداد المجاري ومواسير الصرف الصحي "الشنايش" بالغ الأثر في ارتفاع منسوب المياه بالشوارع والأنفاق، وكان سببا رئيسيا في إقالة ونقل رؤساء أحياء وإقالة محافظين فشلوا في إدارة الأزمة.
وينبغي الإشارة إلى أن هناك عوامل كثيرة لعبت دورا مهما في انهيار البنية التحتية، منها زيادة نسبة معدلات الاستهلاك، وزيادة الضغط على شبكة الخدمات والمرافق العامة، بالإضافة إلى عدم قدرتها على استيعاب هذه الضغوط والاستهلاك المتضاعف والذي أصبح حملا زائدا على كافة الشبكات، فضلا على تردي شبكات الصرف وتهالكها لمرور أعوام طويلة على إنشائها.
كما ساهم التوسع في البناء العشوائي والمخالف الذي تفشى خلال احداث عام ٢٠١١ خاصة في فترة حكم أهل الشر في تآكل الشبكات الخدمية، فضلا على تجاهل المسؤولين لعملية إحلال وتجديد شبكات الخدمات "مياه، صرف صحي، كهرباء".
لذلك في السنوات الأخيرة شهدت وسائل الإعلام المختلفة عناوين تتكرر مع بداية كل شتاء، ساهمت في رسوخ صورة سوداوية بذهن الجمهور السكندري، وأصبح القارئ أو المهتم بأخبار الثغر يتوقع هذه العناوين وينتظر رد فعل المسؤولين لمواجهة الأزمة التي تحولت إلى فيلم هندي يندهش المشاهد من أحداثه ويتوقع نهايته.
وفيما يخص تعامل المسؤولين بشأن حركة استعدادات المحافظة بأحيائها وشركة الصرف الصحي لموسم الأمطار نجد الخطة الموضوعة لا تختلف كثير عن مثيلاتها في السنوات الماضية وتتمثل في ظهور تصريحات تتصدر وسائل الإعلام عن خطة الاستعدادات والتجهيزات للنوات، بينما الأمر على أرض الواقع لا يتخطى سوى الدفع بسيارة الكسح، التي تعد من الأساليب البدائية التي عفى عليها الزمن، بالإضافة إلى تسليك الشنايش. فضلا على تنفيذ محاكاة لمواجهة تجمعات الأمطار بالميادين والمناطق الحيوية، وعندما يأتي موسم الأمطار الغزيرة تتضح الحقائق، ونجد جهات كثيرة تمد يد العون لمساندة الجهات المعنية في مواجهة أزمة غرق الشوارع وسقوط بعض المنازل المتهالكة التي صدر لها قرارات ترميم أو هدم ولم تنفذ.
مواقف استفذتني ودفعتني إلى طرح عدد من الأسئلة.
هل ستصبح الصورة التشاؤمية السنوية لفصل الشتاء مظهرا يتعود عليه المواطن السكندري كل عام وسيصبح مشهدا راسخا في الأذهان؟
هل المحافظة ستتخلى عن أسلوب المسكن الموضعي لحل أزمة الأمطار التي تملأ الأحياء، وتتبنى أسلوب الحل الجذري؟
هل يأتي اليوم وتتغير عناوين الصحف من "الإسكندرية تغرق في شبر مية" إلى "تحديث البنية التحية بالإسكندرية"؟
هل ستعود الصورة الساحرة لفصل الشتاء بالإسكندرية مرة أخرى؟
نتفق أو نختلف حول حبنا وعشقنا لفصل الشتاء لكن لابد من وجود حل جذري للمشكلة، لذلك اتمنى أن تعود الإسكندرية إلى سابق عهدها، وتعود لها ألقابها التي افتقدتها لقبا تلو الآخر، وأن تصبح عروس البحر الأبيض المتوسط مقصد وواجهة لكل محبيها من شتى دول العالم مرة أخرى.



