الإثنين 22 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

قلعة عسكرية تقاوم دائما!

بوابة روز اليوسف

فى سوريا.. من خلال فيلم أطلق عليه «أهداف استراتيجية» .. يعتمد على نص حديث المتحدث العسكرى الإسرائيلى يوم ضرب دمشق وحمص.. وهو يقول إن الطائرات الإسرائيلية ضربت أهدافا استراتيجية.. هذا الصوت سيظهر على خلفية مشاهد تبين الحقيقة وهو أن القصف كان على مساكن المدنيين، ودار للصم والبكم، ودار المعلمين.. وهى كلها أهداف مدنية.. ولكن المتحدث العسكرى الإسرائيلى له رأى آخر!

دائما ينظرون للسماء:

والزائر لدمشق هذه الأيام.. يفاجأ بظاهرة. . أن السوريين ما أن يسمعوا صوت محركات طائرة تعبر سماءهم.. حتى يرفعوا رءوسهم ويتوقفوا عن السير ويتابعوا صوت الطائرة حتى يلمحوها بعيونهم.

عادة أصبحت تحدث تلقائيا.. فبعد أن استمتعوا بمشاهد من حرب الذباب - كما أطلقت عليها الصحافة الفرنسية تعليقا على تساقط الطائرات الإسرائيلية كالذباب على الجبهات المصرية والسورية - أصبح نوعا من التعود أن يرفع السورى رأسا بحثا عن مشهد جديد فى الحرب.. بالرغم من أنه يعرف أن مطار دمشق قد أعيد فتحه وأن الطائرات المارة فى سماء سوريا.. ما هى إلا طائرات مدنية.. إلا أنه حكم التعود.. أو بمعنى أصبح حكم التمنى.. أن تتكرر المشاهد.. وتتساقط الطائرات الإسرائيلية كالذباب.

وشوارع دمشق الآن.. ممتلذة باللون الأصفر.

عربات الجيش الصفراء.. وملابس العسكريين.. وأيضا ملابس شبان وفتيات المدارس الذين تطوعوا للخدمة العامة.

الوجوه كلها صلبة.. متحفزة.

الحركة سريعة.. كأنها إيقاعات على مارش عسكرى.

الذين يبحثون عن الجاز.. أو الذين يقضون أمسياتهم على ضوء الشموع.. مشاهد قد تستوقف الزائر لسوريا.. ولكنهم هنا لا يتكلمون عنها.. إنما يقولون لك.. هل نحكى لك حكاية من بطولات رجالنا.

 

 

 

 

بورسعيد بعد 6 أيام غارات متواصلة

بورسعيد من كريمة كمال:

فى الطريق إلى بورسعيد.. وعلى شاطئ البحر كانت هناك منطقة عمل صغيرة.. أكوام من الرمال والحصى ترفعها الأوناش لتبنى حاجزا لاتقاء عدوان المياه على الأرض.. وبعيدا عن هذه النقطة بحوالى خمسين كيلو كانت هناك وفى بورسعيد منطقة عمل كبيرة.. تلال مرتفعة.. مدافع ورجال وبنادق ودشم لتبنى حاجزا لاتقاء عدوان أعداء السلام على أرضنا فى بورسعيد..!

وعند مدخل بورسعيد تبدأ أول صورة لوحشية العدو وبطش يده اليائسة.. فبلغ من مدى هذا اليأس أنه قصف مدافن الموتى الموجودة عند مدخل المدينة.. المبانى فى كل حى تحمل على جدرانها ذكرى ما حدث فى الأيام الماضية الخالدة التي تعرضت فيها بورسعيد فى بعض الأحيان إلى القصف المركز عليها هى بالذات.. وقد وصف هذا «فؤاد محيى الدين».. وزير الإدارة المحلية عند زيارته للمدينة الخالدة بقوله: «.. لقد تعرضت بورسعيد فى حوالى ستة أيام متفرقة لقصف مركز فكانت الغارات لا تنقطع عنها أبدا..»، وهنا داخل المدينة التي تحولت إلى ثكنة عسكرية يبدو إحساس الألفة بين الجندى وبين شوارع المدينة.. ففى «بواكى» بورسعيد المعروفة يجلس الجنود وتأوى إليها سياراتهم المدرعة.. وفى كل مكان فى المدينة لا أرى سوى اللون «الكاكى» على الأجساد فالكل هنا جنود لم يبق من المدنيين سوى عدد قليل بقى ليساهم فى صمود المدينة رغم الغارات الشديدة التي تعرضت لها المدينة، كل شىء هنا يأخذ موضع الاستعداد ضد أى خطر.. المحلات مغلقة فيما عدا النادر القليل لم يبق فى المدينة من المدنيين إلا من تحتاجه بورسعيد فعلا من العاملين فى المياه والكهرباء وفى المحافظة وداخل المستشفيات.. الموضة الوحيدة التي وجدتها هنا على أجساد الفتيات والسيدات اللاتى قابلتهن كانت البالطو الأبيض ، فالنساء اللاتى يقمن فى بورسعيد هن فقط الممرضات العاملات داخل مستشفياتها.. وقد عاش هؤلاء المدنيون ساعات نضال صعبة من أجل أن يستمر نضال الجنود ودفاعهم المستميت عن المدينة التي شهدت فى كل حرب أقسى الأيام وسجلت أروع صفحات التاريخ بصمودها.

لكن البلد جميل جدا

وفى لقاء مع الرجل الذي يعبر وجهه عن عراقة بورسعيد ويحمل آثار صمودها وتصميمها.. مع محافظ بورسعيد الذي جلس مرتديا الملابس العسكرية قال لى اللواء «عبدالتواب هديب»: «.. أنا رجل عسكرى عشت اثنين وثلاثين عاما فى الجيش.. ولذلك فقد علت حسابا لكل شىء.. المياه لم تنقطع عنها.. حتى مواد التموين التي خزنتها لم أسحب منها أى شىء.. فأى طريق كان يتعرض للقصف كان يتم إصلاحه فورا وفى الظلام.. ولذلك استمرت مواد التموين فى وصولها إلى المدينة عن طريق «دمياط» و«المطرية».. الكهرباء لم تنقطع لحظة.. وتحت القصف والطيران كان العمال يعملون فى إصلاح أى عطل يحدث.. الترع تعرضت للضرب سبع مرات وكان يتم إصلاحها فى نفس اليوم ويستمر قائلا: «لم نفقد الاتصال بالقاهرة دقيقة واحدة.. كل المرافق اشتغلت بدقة شديدة.. وكان إصلاح كل شىء يتم فى الليل كل المرافق، محطة الكهرباء والمياه والمطافئ لم تختل السيطرة عليها وكافحت تحت صعوبة القنابل.. وعن طريق البحر حاول العدو أن يغزو البلاد ثلاث مرات وفشل.. تصدت له مدفعيتنا الساحلية ومدفعية الميدان والقوات البحرية.. ولهذا من شدة يأسه ضرب الأهداف المدنية.. تعرضت المدينة لاثنى عشر حريقا فى وقت واحد.

أبطال غرف العمليات

فى مواقع القتال كانت هناك صور عديدة للبطولة.. وفى داخل المستشفيات كانت هناك بطولات أخرى سطرها الأطباء والممرضات ورجال الإسعاف وحتى سائقى سيارات الإسعاف قاموا بأكبر دور.. كل هؤلاء كانوا كالفدائيين يعملون فى أقسى الظروف.. وبعد دورة قام بها الدكتور «محمود محفوظ» وزير الصحة داخل مستشفيات مدينة بورسعيد.. سألته عن الذين عملوا هنا على أرض بورسعيد وتحت أقسى الظروف فی إسعاف الجرحى قال: كانت الكفادة ممتازة من المستشفيات التيز على مستوى خط النار حتى المستشفى التخصصى.

الكل قام بواجبه وذلك بشهادة رجال الصليب الأحمر أنفسهم.. الكل قام بعمله الأطباء والممرضات ومعاون المستشفى والمخزنجى وسائق السيارة وبواب المستشفى.. وسائق الإسعاف على سبيل المثال كان يعمل أربعا وعشرين ساعة.

وفى داخل هذه المستشفيات تسمع الحكايات من كل جانب.. وفى وسط مجموعة من الممرضات فى أحد مستشفيات بورسعيد استطعت أن أحصل على جزء من الصورة «زبيدة» ممرضة قالت: «كان شغل على طول، حتى وقت الضرب»، أمينة إسماعيل زميلة لها ترد.. : وسط الغارات كان الشغل ماشى المصابون يصلون.. والطائرات فوق المستشفى، وترد بديعة : «حتى اللى كان عايز يمشى قبل كله مارضاش.. كل واحدة لها واحد فى الجبهة.. الكل قطع إجازاته.. فيه واحدة قطعت أجازة الوضع بتاعتها وجت وقفت معانا».. وتمتد الصورة من حجرة إلى أخرى ومن فرد لآخر.. ويقول الدكتور حسن عبدالعزيز مدير مستشفى بورسعيد الأميرى الذي عاش هذه اللحظات كطبيب يرتدى الزى العسكرى فى مدينة حمل كل جزء منها الرمز العسكرى فى كل شىء دلالة على الاستعداد والصمود..:«الكل هنا قام بمجهود عنيف خاصة عندما كان يتم إجراء العمليات فى وقت الضرب وعلى ضوء البطاريات.. الكل كان يعمل وخاصة رجال سيارات الإسعاف.. أحدهم رجل عجوز وله سبعة أولاد ولم يتأخر عن أداء أى مهمة أثناء الضرب الراهبات أدين عملهن بصورة رائعة داخل حجرات المستشفيات.. ورغم كل هذا فلم يصب أى فرد من المستشفى ما عدا ممرضة واحدة وإصابتها ليست خطيرة.. وفى ردهات المستشفى تسمع الحكايات عما حدث هنا داخل هذه الجدران أثناء اشتعال المعارك.. طبيب كان يعمل فى حجرة العمليات أثناء الضرب وانهال الزجاج على ظهره ومع ذلك استمر فى عمله حتى انتهى من أداء العملية.. والتقى بالطبيب بطل هذه الحادثة الدكتور «نبيل عبدالعظيم أمين» يقول: يوم أن ضربت حجرة العمليات كنا بنشتغل.. انكسر الزجاج وانقطعت الكهرباء والمياه واستمررنا فى العملية على ضوء البطاريات.. وفى يوم وقف إطلاق النار كان تركيز الطيران شديدا علينا.. ومع ذلك استمررنا نعمل لأنه إما نحن أو الجريح.. هذه ليست جسارة أو بطولة، ولذلك لم يلجأ أحد منا إلى المخابئ، وينتقل الطبيب من حديثه عن الذين يعملون فى المستشفى إلى هؤلاء الجنود الذين التقى بهم وأسعف جروحهم وتأثر بهم كثيرا، «عبدالمنعم، أحد المقاتلين أصيب فى أول يوم ولم يكتشفوه إلا بعد خمسة أيام ومع ذلك كانت نفسيته غاية فى الروعة.. لم أملك سوى الإعجاب به وبعد أن تم إسعافه أرسلناه إلى مصر.. قبل أن يرحل حصل على عنوانى، وعندما أسافر إلى مصر أتوقع أن يكون فى انتظارى خطاب منه، وهناك أيضا صديقى «حمدى» كان يفضل الآخرين على نفسه، سقال لى انقذ غيرى، ولكننا أخرجنا الشظايا من صدره وأرسلناه ليستكمل علاجه فى القاهرة.

الرجال الذين كانوا يقودون سيارات الإسعاف وسط هذا كله.. والذين ينتقلون من حى لآخر تحت وابل من القنابل.. كيف كانوا يعملون.. يقول أحمد حمودة سائق سيارة إسعاف فى بورسعيد،: كنا ننقل الجرحى من المكان المصاب إلى المستشفيات، ومن الضواحى إلى داخل المدينة.. وأيضا من الجبهات إلى المستشفيات.. أثناء عملية النقل كانت الطائرات تحلق فوقنا وتقوم بالقصف.. ولذلك هناك سيارات إسعاف بها آثار الضرب ولذلك كانت كل تحركاتنا أثناء القصف عبارة عن تسلل حتى نستطيع نقل الجرحى.. وصورة أخرى لما كان يقوم به الرجال فى شوارع بورسعيد.. الحاج «عبدالمجيد الغزاوى» رجل متقدم فى السن وعلى وجهه النحيل نظارة طبية ويرتادى ملابس خاصة ويحمل على كتفه شارة.. إنه أحد رجال الإسعاف.. لكنه يقوم بكل أنواع الإسعاف، يقوم بنقل الجرحى ويقوم أيضا بإزالة الأنقاض وبإفساد القنابل الزمنية التي يلقيها العدو ويقول الرجل باعتداد يقهر التجاعيد التي تظهر على وجهه: أسقطنا عدة صواريخ لهم ووضعناها أمام المكتب التنفيذى.. لقد اشتركت فى حرب 73 وخلال الضرب كانت القنابل الزمنية كثيرة.

دبابة إسرائيلية

وأمام مبنى محافظة بورسعيد.. وضع جنود بورسعيد وأهلها إحدى الدبابات الإسرائيلية، هذه الدبابات تم الحصول عليها فى رأس العش وفوق الدبابة الخضراء كتب «البقية تأتى»، إهداء إلى شعب بورسعيد.. وهكذا فى ووسط بورسعيد تقف الدبابة الإسرائيلية لتشهد بقدرة الجندى المصري الذي قدمها هدية إلى المدينة الخالدة لتحتفظ بها فى كل موقع فى بورسعيد.. وعلى حائط كل مبنى ذكرى وأثر يبقى ليكون شاهدا على كل ما كتب فوق هذه الأرض وداخل هذه المدينة الخالدة دائما.

صباح الخير العدد 937

تم نسخ الرابط