حب.. أفراح.. أحزان.. واحد
جميع الأسماء والعلامات وأرقام الوحدات التي وردت بهذه القصة من واقع الخلق الفني
«تقرير عام عن الأعمال القتالية للمجموعة السابعة» .. من المعروف أن جميع من تحدثوا عن هذه المجموعة أطلقوا عليها اسم مجموعة القلعاوي، بل إن العسكريين المتخصصين، ومنهم بعض قادة الوحدات والقطاعات التي عملت من خلالها المجموعة، وطياري الهليكوبتر الذين اشتركوا في نقل الرجال، كلهم لم يستخدموا الاسم الرسمي عند حديثهم عنها، لذا فإننا نميل إلى الأخذ بتلك التسمية التلقائية التي رددها المواطنون أيضًا.. فأعمال المجموعة لاقت صدى من نوع خاص بينهم- بغض النظر عن الاسم الرسمي المستعمل في المكاتبات السرية وخطابات الشؤون الإدارية، وكما تفيد مصادرنا في الأرض المحتلة أن العدو أطلق عليها اسمًا رمزيًا هو «الفرقة الخاصة» ومن الثابت أن معلوماته حول المجموعة مضطربة جدًا، لم ترق إلى مستوى اليقين من وجهة نظره، ويرجع هذا إلى أسباب عديدة ليس هذا مجال تفصيلها، لقد اتسمت الأعمال القتالية بملامح خاصة، وحتى نستطيع الإلمام بطبيعتها لا بد من إشارة أولية إلى مسرح العمليات.
(1) نطاق العمليات جرت العادة والقواعد العسكرية على تكليف كل وحدة مقاتلة بمهمة معينة يحدد لها إطار معين يضم أهدافًا منتقاة للتعامل معها، ينطبق هذا على كافة التشكيلات بدءًا من السرية إلى الفرقة إلى الجيش، لكنا لا نجد هذا منطبقًا على مهام مجموعة القلعاوي، يبدو قولنا واضحًا من الخريطة الضخمة لمصر والبلاد المحيطة بها والتي تحتل- حتى الآن- جدارًا بأكمله في غرفة القلعاوي، صنعت هذه الخريطة من الجبس البارز الملون، حملت دبابيس حمراء صغيرة فوق أسماء بعض المناطق بسيناء، كل دبوس يعني عملية تمت ضد هدف، توجد مجموعة أخرى من الدبابيس الخضراء وهذه تعني أهدافًا سوف تهاجم، من الخريطة يتضح أن مسرح عمليات المجموعة سيناء كلها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عددًا من أبرز الخبراء العسكريين الذين زاروا البلاد بعد الحرب وتوافرت لديهم بعض المعلومات أبدوا دهشة وإعجابًا بالمجموعة، ونورد فيما يلي تلك السطور التي كتبها الجنرال هانز كريستيان، رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية، الذي زارنا خلال الفترة القصيرة الماضية. «.. يبدو واضحًا أن تلك المجموعة من الرجال قد خلقت لنفسها قوانينها الخاصة، إذ حطمت الكثير من القواعد العسكرية المتعارف عليها، وللأسف غير متاح الآن الاطلاع على ظروف تكوينها وعملها..». ونقول إن مجموعة القلعاوي هاجمت أهدافًا تقع في رأس محمد بأقصى الجنوب من سيناء، وأهدافًا أخرى في بالوظة ورمانة شمال شبه الجزيرة، في لسان التمساح ورأس العش، وسدر، وإيلات، وعلى امتداد منطقة الخليج.. ويقول الذين عملوا مع القلعاوي إن الخليج لعبته، وتتردد أقوال لم نذكرها كحقائق مفروغ منها- لأسباب عديدة- أنه قام بعديد من المهام في مناطق مختلفة من العالم ضد العدو الصهيوني، ليست بالضرورة أعمال قتال، إنما تضم مهام استطلاع وتعقب بعض العناصر المعادية، ويوجد عدد من البرقيات لدى أسرته وصلت في الأسابيع التالية ليوم الجمعة 19 أكتوبر 1973، من فدائيين فلسطينيين، ومقاتلين من جنسيات مختلفة، وقع بعضهم بالأحرف الأولى، وإذا ما أتيح للمهتمين بسريته مقابلة قادة الوحدات والتشكيلات الذين واجهوا العدو من رأس العش شمالًا حتى مواقعنا المطلة على البحر الأحمر. فإنهم سيسمعون قولًا يتردد كثيرًا «لقد مر القلعاوي من هنا»، أي أنه استخدم المنطقة التي يرابط فيها التشكيل كقاعدة انطلاق، سيجدون أنه عبر في توقيتات مختلفة، فمن نقطة معينة تقع في مواجهة لسان بحيرة التمساح عبر مع الرجال أربع مرات خلال فترة زمنية قصيرة، عبر في الصباح، في الغروب، في الظهيرة، في منتصف الليل، في أول ضوء وفي آخر ضوء، ونظرًا لأهمية شهادة هؤلاء القادة نورد فيما يلي بعضًا مما قالوه، ومعظم هذه الشهادات جمعها رجال القلعاوي على أشرطة كاسيت صغيرة بهدف الاحتفاظ بها كوثائق. يتحدث العقيد أركان حرب «م.أ.ع» قائد تشكيل مقاتل في منطقة البحر الأحمر: ... أتذكر هذا الوقت بدقة، فالثواني والدقائق ذات أهمية خاصة، بالضبط الساعة الثانية صباحًا وخمس دقائق عندما وصل القلعاوي ورجاله، الليل عندنا مختلف، لا يوجد أي مصدر ضوء صناعي على بعد عشرات الكيلومترات، لا يبدو لامعًا إلا النجوم وضوؤها الخافت وعددها الكثير، كل شيء يعمق صمت الليل حتى صوت البحر الغامض عندما يصطدم بالشاطئ الصخري ويرتد عنه، يحوي تحذيرًا، هنا يكتسب الصوت الآدمي العادي أبعادًا ودلالات أن تسعل فهذا يثير انتباه الكمائن والدوريات المتنقلة وجنود الملاحظة لهذا.. (فترة صمت).. أوشك الآن أن أستعيد الأصوات المحدودة الخافتة التي صاحبت مجيء عبد الله، عدد الرجال أكثر مما قدرت، وقف صامتًا لم يصدر أمرًا بصوت عال، يتحرك كل منهم وكأن ثمة اتصالًا خفيًا يشدهم إليه، كأنهم يقرأون في وقفته، في استدارته، في عقد يديه أمام صدره تعليمة ما أو أمرًا معينًا، أذكر وقع خطواتهم الخافتة، يمرون أمامي، لا تبدو منهم تفاصيل إلا للحظات مارقة، يتجهون إلى القوارب الراقدة في البحر والظلام، كأنهم يتجهون لقتال الليل نفسه، يدخلون فيه، سمعت الكثير عن القلعاوي، لم أره، هو أقدم منى بأربع دفعات كما أن مجال الخدمة الخاصة جعلني لا ألتقي به، لست أنا إنما معظم زملائي، حتى زملاء دفعته، إذا ذكر أحدنا أنه رآه فيقترن هذا بعمل قتالي، إذا رآه أحدنا يتبادر إلى ذهنه خاطر لا يمكن نفيه.. الله.. إن القلعاوي ما زال يعيش. في هذه الليلة وقفت على مسافة متر واحد من القلعاوي، لم أسأله عن المهمة التي سيقوم بها لأن من طبيعة أعماله السرية، أو الطرق التي يسلكها في الناحية الأخرى، مهمتي محدودة، تغطية الرجال أثناء الإبحار وتأمين عودتهم.. (صمت) أرى القلعاوي وكأنه أمامي، عيناه تنظران في خط لا يحيد، وجهه كأنه متطلع إلى أعلى باستمرار حتى لو أطرق.. يبدو كأنه يقف دائمًا في وضع صفا، حذاؤه جلدي، ثيابه مشدودة إلى جسده، سترته مليئة بجيوب عديدة، هو مصمم هذه الثياب، تتسع لأكبر عدد من القنابل والذخيرة وأدوات القتال، عندما اتجه إلى نقطة الإبحار لاحظت شابًا قصيرًا خفيف الحركة يتبعه، صوت المجاديف، هدوء السواد لا يكشف اتجاههم، ثقل الليل، لا فرق بين المياه والأرض، المادة واحدة فيما عدا رائحة البحر، أصغيت طويلًا، إبحارهم أضاف عمقًا للظلام والليل، هناك فوق نقطة معينة، في اتجاه محدد.. يتحرك القلعاوي. نص محادثة لاسلكية جرت بين القلعاوي. وأحد الضباط الكبار الذي وقف يتابع عملية للمجموعة من فوق الشاطئ الغربي للخليج، تم تسجيل هذه المحادثة في ديسمبر 69.. فكت رموزها فيما بعد». القلعاوي: مستمر. الضابط: نشاط الطيران فوق مكان الإبحار. القلعاوي: استطلاع الهدف ضروري الضابط: أنهِ العملية. القلعاوي: «صمت». الضابط: عد يا عبد الله... عبد الله.. سامح وليلى في انتظارك. (القلعاوي يغلق الجهاز...) يتحدث المقاتل (ل) أحد رجال المجموعة: بعد أن اختارني للعمل معه. وفي أول لقاء به، قال إن هذه المجموعة سوف تحارب عدو مصر في كل مكان، وتلاحقه وتضربه، الجميع هنا يقضون أيامهم إما استعدادًا للقتال أو في حالة قتال فعلي، كل منهم جاء إلى الحياة ليقاتل، طلب مني أن أحدثه عن نفسي، في البداية ظننت أنه يريد الإلمام بالمعارك التي خضتها لكنه رفع ملفًا أزرق، قال إنه يضم أكثر مما سأقول، فهمت، حدثته عن والدي، عن الخطابات التي أرسلها كل شهر إلى عيالي، ما اشتريه لهم في بداية إجازاتي حدثته عن انتظار أهلي عند الجسر، عن رائحة الغيطان الليلية ورائحة الصحراء، لون المساء فوق قريتنا، الأصوات الليلية في الجبل، مرور الهواء بين شقوق الصخر وتدحرج الحصى وما يتركه في النفس عواء ذئب ضال أو باحث عن فريسة، تكلمت عن الساقية القديمة التي ركبتها طفلًا، ظننت عجلتها ضخمة جدًا، والبئر بلا نهاية، بعد سنين كلما مررت بها أدهش وأنا أرى بئر طفولتي السحيقة مجرد حفرة، حدثته عن رائحة الفول الأخضر وامتلاء الكوب حتى الحافة بالماء وصرير عجلات الترام عند المنحنيات وحدود المدينة، وأول امرأة نراها بعد عودتنا تمشي في الطرقات الآمنة، الرجال فوق أسطح القطارات، وعشرات الصبية يركبون جرارًا زراعيًا، فلاحات حملن قصعات المونة وذهبن لبناء قاعدة صواريخ، صوت عجوز منهن تقول، ما هو ده حيحوش البلا عننا، جندي يجلس القرفصاء فوق رمال الصحراء، نفس جلسة أبي بجوار المصرف المجاور للزراعية، لم يستوقفني، لم يستفسر، لم يطلب ايضاحًا، لا.. لم يصمت، اذكر الموقف الآن فأثق أنه بادلني الحديث مع أنه لم يلفظ حرفًا، تجعيدتان عند ركني فمه كأنه أصغى إلى خبر مؤثر، أو حزن قديم أو تساؤل محير أو حنين إلى مسقط رأسه، يقولون إن هاتين التجعيدتين ظهرتا بعد موت عاصم، زميل دراسته، زميل الكلية، مؤسس المجموعة معه وساعده الأيمن في كافة العمليات التي تمت حتى ذهابه في مياه الخليج، سمع صوت سقوط جسم في الماء ولم يسمع أحد صرخة أو استغاثة، منذ هذا الحين اختفى عاصم، كثيرًا ما لمحته يقف عاقدًا يديه، أراه من بعد ولا أتبين ملامح وجهه، لكنني أثق في وجود هذا البحث في عينيه، ربان يستطلع أرضًا لم تظهر بعد، يستمر واقفًا لفترة ثم يستدير فجأة، لا أستطيع أن أتخيله يمشي متسكعًا في ميدان مزدحم، يسافر إلى مصيف، يدخن سيجارة أو نرجيلة بمقهى، كما عرفنا أن القلعاوي لم يحصل على أي إجازة ميدانية منذ عام 1967، مع أنه ينظم إجازاتنا بنفسه، ويمنح من يسافر بعيدًا يومين إضافيين حتى تكفي مدة السفر، أقول الآن أنني عندما أفارق المجموعة متجهًا إلى بلدتي أشعر بخجل لأنني أسافر وأتركه، في أيام الجمعة يجيء مع سامح وليلى، نعرفهما ويعرفان كلا منا باسمه، بماذا يوحي لنا سامح؟ أراه دائمًا كأنه رجل كبير صغير الحجم، عندما جلسنا في صالة البيت، أضم شفتي بأسناني جاء ممسكًا عددًا من النياشين والأنواط وراح يقدمها إلى الحاضرين متحدثًا عن المناسبة المرتبطة بمنح كل منها إلى القلعاوي الآن يتحدث كل منها إليهما بالتليفون مستفسرًا عما إذا احتاجا إلى شيء، ما، أدير قرص التليفون متوقعًا صوت القلعاوي وعندما يرد سامح أو ليلى أحاول أن أبدو ظريفًا، يقولان إن القلعاوي يتصل بهما قبل خروجه إلى العدو لكن لم يره أحد يحدثهما، عندما يغلق الباب تبدو شظايا الضوء من خلال المساحات البيضاء التي بهتت في الطلاء الأزرق، يطلب شايًا، دخلت عليه مرة، رأيته منبطحًا فوق الأرض، حوله خرائط، كتب مفتوحة لم تغلق، مساطر، أقلام ملونة، أدوات هندسية، شريط طويل من صور فوتوغرافية متعاقبة، ربما التقطها بنفسه إذ إنه قام بتصوير بعض أهداف العدو بمفرده، أنا لم أصحبه مع أن مهمتي القتالية تغطيته خلال الهجوم في الليل، في الصباح، في العصر، بمجرد انتهائه من وضع خطة العمل، تصبح مجرد أوراق جاهزة للتصديق عليها من قبل المستويات الأعلى، نراه يخرج من المكتب، يتحدث إلى بعضنا، يصعد التبة الرملية بسرعة، يقود دراجة بخارية يلف بها أرض التدريب مرات، ومرات، يدرك الرجال أن ثمة خطة اكتملت، لكل منهم دور محدد الآن، أن القلعاوي يبدو مرحًا، خفيفًا، ربما صاح على أحد الرجال بدون أي مقدمات يسأله عن أحواله، عن صحة أولاده، مصاريف المدارس، ربما استفسر عن أحوال أمٍّ مريضة بالسكر أو أب يعاني متاعب الشيخوخة، عن تفاصيل مشروع زواج تبطؤ خطواته بسبب عدم الحصول على مسكن أو متاعب مع أهل العروس، في البداية يفاجأ المنضم حديثًا إلى المجموعة بأسلوب القلعاوي المفاجئ، المباغت تمامًا كهجومه أو ظهوره فجأة وراء خطوط العدو، اعتدناه، يعرف كل شيء عنا، أسماء أطفالنا، عدد الأقساط التي يسددها كل منا، بل قيل إنه يحدد دور كل منا طبقًا للحالة النفسية للفرد، أثناء عبورنا المياه أو مشينا فوق الأرض هناك، برغم تباعد المسافات بين الأفراد، فإن القلعاوي يتمثل الحالة النفسية التي عليها مقاتل الاستطلاع في المقدمة أو فوزي وحسان في أقصى المؤخرة تمامًا كالقلب يدفع الدم إلى أقصى أطراف الجسم لكن هل يرى الدم أثناء وصوله إلى أطراف الأصابع، كل مقاتل يتحرك باتجاه الهدف كوحدة مستقلة، شعور يتملكه بأن القلعاوي يراه، يدرك ما يتردد بين طيات نفسه، يرصد رجفة الخوف، دفقة الشجاعة، شجن ذكرى معينة، ماذا يجعلني مستعدًا للمشي أياما؟ أفنى في قتال، ماذا يجعلني أوقن أنني عشت بما يكفي ولو فقدت عمري فسوف أقبل هذا ببساطة، أهو الوطن، الحقد على العدو؟ أهو التاريخ الذي جعله القلعاوي مادة في برامج تعليمنا، أهي طريقة حديثة عن شهداء المجموعة وضرورة الثأر لهم، يقول أحد زملائي: بعد كل حديث للقلعاوي أشعر أنني ازددت ثقافة ووعيًا، قال القلعاوي باستمرار: لا بد من معرفة العالم، هناك شيء مباشر، يمكنني أن أشير إليه، أمسكه بيدي، أحسه، أشعر بوقع نظراته.. له كيان وحركة ووجود يمكنني القول إنني أفعل هذا لأثبت له أنني كفء، أنني عند حسن ظنه ولم يخطئ في اختياري مقاتلًا إلى جواره، أرى القلعاوي أثناء سفري واقفًا في خضرة الحقول ينظر إلى المجهول من خلال منظاره، أراه بيننا فوق نقطة ما من سيناء، نفاجأ بهجوم مضاد، أتقدم معه، أقول له: يا أفندم اسمح لي أن أحمي انسحابكم، أقبل راضيًا وأنا أعلم ما ينتظرني بعد عدد معين من الدقائق، قالوا عنه أنه محجب وأن من يقاتل معه لا يصاب وأن رجلًا سودانيًا عجوزًا أعطاه حجابًا وأن هذا الحجاب يحمله في مكان ما من ثيابه وأنه يمنع نفاذ الشظايا إلى جسده، لم أر الحجاب، قيل أنه قادر على رؤية الرصاصة والشظية في مسارها، إنه ينفذ بين الطلقة والطلقة، قالوا إنه عاش دائمًا بعقلية من يمر مرورًا عابرًا بالدنيا لهذا اندفع دائمًا في اتجاه الخطر، قال عنه البعض، القلعاوي وش موت، أراه صامتًا كأنه يطمئنني، اسمع صوته دائمًا في أذني، وفي لحظات انتقال من اليقظة إلى النوم كل ليلة، مع أنه لم يتحدث إليّ كثيرًا، لا أذكر صوته غاضبًا، غضبه صامت باتر، لم يتحدث إليّ كثيرًا أنا أقرب الناس إليه في وضع الهجوم، لم يرتفع صوته في تمام الساعة الثانية عشرة والربع من ظهر الجمعة 19 أكتوبر، قال كلمة واحدة صداها متصل في أذني حتى الآن، واضح كالطلقة الكاشة التي تجرح صدر الليل بلونها الأحمر. «غطيني... نص حوار جرى بين اثنين من ضباط مخابرات العدو أمكن الحصول عليه.. ونرى ضمه إلى مقتطفات السيرة لأهميته. المكان: مقهى قديم بالشارع الرئيسي بمدينة العريش المحتلة. التوقيت: الساعة السادسة بعد ظهر أحد أيام نوفمبر الأولى عام 1973. ضابط (1): إنني أميل إلى وضع الأمور في حجمها الطبيعي ضابط (2): ما أسهل هذا بعد وقوع حدث كبير.. حارب.. معركة.. الحقيقة تضيع تمامًا. ضابط (1): كنت ستقول شيئًا.. ما هو؟ ضابط (2): تبدو الحقائق شاحبة بعد انتهاء الحدث. ضابط (1): حصولكم على جثته أمر لا يقل أهمية عن موته. ضابط (2): قلت إنه من السهل اقتراح كل شيء بعد انتهاء الموقف نفسه. ضابط (1): وددت لو تأملته حيًا أو ميتًا.. في معلوماتك عنه هل تعرف كم عدد الساعات التي بإمكانه أن يمشيها؟ ضابط (2): توشك أن تردد بعض ما توهمه رجالنا الذين فرغناهم لقتاله.. لا أعرف بالضبط قدرته على المشي، بعضهم نسب إليه أمورًا خارقة كقدرته على المشي أسبوعا متصلًا في أصعب الأراضي. ستقول لي قدرات الإنسان وإمكانياته، لكنني أحفظ.. أذكر عبارة رددها عدد من الأسرى أثناء استجوابهم.. قالوا إن ثقته بقدرات الإنسان لا حدود لها، وهذا أول شيء يقوله لمن يعمل معه. الضابط (1): انتهى كل شيء الآن. الضابط (2): وما زلت أقول.. إن الحقيقة لن تبدو كما كانت عليه أبدًا. الضابط (1): ربما.. عندما علم العقيد أركان حرب (ح. ق) بمشروع جمع سيرة عبد الله القلعاوي. طلب إجازة لمدة اثنتي عشرة ساعة ليقص حادثة معينة.. لهذا نوردها كنتيجة لإصراره.. وربما تبدو في غير موضعها. أنا مدين له بحياتي، شهد النهاية والبداية، لم أره إلا مرة واحدة عندما حدث هذا منذ خمسة عشر عامًا، اشتركت في دورية سير لاختراق منطقة وعرة من الصحراء، أمامنا بدا اللون الأصفر لا نهائيًا، العرض كالطول، نمشي، نمشي وخط السماء المنطبق على الأرض ثابت لا يتغير، تجردنا من ثيابنا قطعة قطعة، حاولنا حفر الرمال لندفن رءوسنا، شربنا بولنا، تشققت حلوقنا، الشمس كمصباح قوته ألف ألف وات لا يمكن الهرب منه، لا يمكن اليقظة ولا النوم، وكما قيل لنا إن القلعاوي الذي اشترك كعضو في هيئة التحكيم أبدى قلقًا، لم يقلق كما نقلق نحن. لم تتماسك أصابعه ثم تنفرج، لم ينقل ثقل جسده من ساق إلى أخرى يقولون إن عينيه ثبتتا في اتجاه واحد مؤدي إلى بطن الصحراء. فجأة طلب من رئيس الهيئة السماح له بالاتجاه إلى عمق اللانهائية بحثًا عن المفقودين، بسط الخرائط، يقول الذين شهدوا الموقف أنه اختار أصعب الطرق الذي يتعامل على خط سير الطابور، حمل بعض زمزميات المياه وعددًا من القنابل الصوتية، للآسف لم يحدثني عما لاه في الجبل والصحراء، ما أعرفه أنه مشي سبع ساعات متصلة في درجة حرارة تقارب الأربعين، وعلى مسافات معينة يفجر قنبلة حتى يلفت نظرنا إلى أن هناك من يبحث عنا، وعندما سمعنا انفجار القنبلة تصايحنا، وقفنا عرايا تمامًا، بدأ القلعاوي لنا كأنه يخرج من باب بيت ظليل مستفسرًا عما جرى؟ قدم إلينا جرعات قليلة من المياه في غطاء الزمزميات، جرعات لا تكفي لبل أفواهنا، تطلعنا بشراهة إلى الزمزميات المغطاة بقماش أصغر سميك، بدا حازمًا حتى إننا لم نفكر في طلب المزيد تصور حالتنا، الجوع، الظمأ، الإنهاك، الخوف، مع هذا عدنا مع القلعاوي مشيًا على أقدامنا.. قبل وصوله بدأ مستحيلًا أن نخطو مترًا واحدًا! مشينا سبع ساعات معه، لم نتوقف لحظة، لم نقعد، لم يشجعنا إنما بادلنا حديثًا عاديًا بين الحين والآخر يقدم لنا قليلًا من الماء في غطاء الزمزمية المحدود. تحدث إلى الرجلين اللذين جاءا معه حديثًا موجزًا، للآسف لم أعرف من هما، ولا أدرى مصيرهما الآن، تقدمنا القلعاوي بخطوات، كأنه لغة خفية متبادلة بينه وبين رمال الصحراء ووحشتها، خلت من العلامات المميزة والكثبان ومع ذلك بدت خطواته راسخة في اتجاه اليمين واليسار وإلى الأمام، في الصعود والنزول، احتملنا المشي معه، كيف، لا أدري حتى الآن، لم يشك أحدنا، لم يقل لفظ، آهة.. هذا هو القلعاوي > «توجهت اللجنة المختصة بجمع السيرة إلى المقاتل «ك. ي» رئيس عمليات المجموعة السابعة، وطلبت منه كتابة فصل عن آراء القلعاوي العسكرية وانطباعاته عن الحياة والناس كما عرفها «ك. ي» الذي يعتبر من أوثق الناس صلة به، لكنه رفض تقديم أي معاونة. قال إن كثيرين من الفضولين وكتاب القصص والصحفيين السطحيين سيتخذون من هذه المادة فرصة للكتابة عن القلعاوي، ماذا سيقولون عنه؟ إنه عاش بطلًا؟ إنه شجاع؟ إنه قام بعبور القناة وسيناء أكثر من تسعين مرة، هل هذا ما يجب أن يقال عنه حقيقة؟ ثم ينسون كل شيء، قال «ك. ي» إنه لن يشارك في استباحة دم أقرب الخلق إليه، قال أن القلعاوي يجب أن يذكر بطريقة أخرى، أنه يعيش هنا- خبط صدره براحته- في رجال المجموعة، في كل من خدم معه، ليتعقب سيرته من يرغب، لكن «ك. ي» سوف يذكرها بما يليق بالقلعاوي، لن يبوح بشيء لأي لجنة، أو صحفي».
قسم به معلومات عن الأوسمة والنياشين: في حجرة الاستقبال البسيطة بمنزل القلعاوي «يلاحظ بساطة الأثاث وخلو البيت من كل ما هو زائد عن الحاجة» ويرجح البعض هذا إلى الظروف التي تم فيها زواج القلعاوي، إذ أن أسرة زوجته عارضت اقترانها به، فاضطر إلى فرض الأمر الواقع عليهم، تحمل القلعاوي كل تكاليف تكوين البيت، ويبدو أنه استكمل بعض الحاجيات خلال العام الماضي إذ توجد فواتير شراء دولاب كتب، وراديو ضخم بيه بيك أب، وتاريخ هذه الفواتير يعود إلى شهور خلت، ويقول البعض الآخر إن البساطة ترجع إلى شخصية القلعاوي الذي لم يره أحد يعتني بالمظاهر، بل إنه لم يرتد هو أو امرأته أو عياله أي ثياب مستوردة، وعلق على هذا يومًا في حديثه إلى أحد أقاربه قائلًا، إذا لم نرتد نحن مصنوعاتنا الوطنية فمن سيرتديها إذن؟!.. في مواجهة الصالة توجد مجموعة كبيرة من براءات النياشين والأنواط التي حصل عليها عبد الله، بعد أسبوعين من 19 أكتوبر أخرجت السيدة ماجدة القلعاوي هذه البراءات والنياشين، وقضت ليلة كاملة تعلقها بعناية، تملأ فمها بالمسامير الصغيرة ثم تتناول واحدًا وراء الآخر لتدقه برفق حتى لا توقظ سامح وليلى، ويبدو أن ابني القلعاوي عرفا الخبر في هذه الليلة، من الثابت أنه لم يرغب في عرض هذه الأنواط والنياشين ولم يعلقها إلى صدره نظرًا لارتداء الأفرول باستمرار، لكن شوهد مرة يتجه لمقابلة أحد القادة الكبار ويعلق مجموعة من النياشين «تشخلل» على حد قول أحد زملائه الذي قال أن أي مقاتل يود لو حصل على وسام النجمة العسكرية مرة واحدة. القلعاوي حصل عليه ثلاث مرات، ويمكن القول إنه لا يوجد مقاتل على امتداد تاريخ الجيش المصري حصل على مثل هذه المجموعة، في هذه الليلة وضعت السيدة ماجدة نموذجًا صغيرًا لطائرة ميج 21 فوق منضدة صغيرة، كتب عليه: إلى العميد أركان حرب/ عبد الله القلعاوي: أن عملية اقتحامكم للسان التمساح، وتدميركم لمواقع صواريخ الهوك.. لمن العمليات التي سيذكرها التاريخ بالفخر والإعزاز. مقاتل طيار زميلك 17/17/1969 «يتحدث العقيد صابر.. وهو أحد من شهدوا اقتحام القلعاوي للسان التمساح، ومهاجمته قواعد صواريخ الهوك». بدأ القلعاوي مضطربًا، وعندما أعلن قراره قلت أن هذا جنون، جنون، وقلت لرئيس عملياتي: «إن عودته إلى الضفة الشرقية أمر في غاية الخطورة. لكنه كما يقولون، لا يقبل هذا أبدًا، وشاء حظى أن أشهد إحدى هذه اللحظات التي يتحدى فيها القلعاوي الخطر والموت، لو جرح أحد رجاله لا بد أن يعود به، لو استشهد فلا بد أن يقاتل، يقاتل حتى يعود بجثمانه، ربما يفسر هذا ذلك القتال المر الذي خاضه رجال المجموعة السابعة جنوب الإسماعيلية ظهر الجمعة 19 أكتوبر، اندفع في اتجاه القناة، رأسه عارية فهو لم يرتد خوذة قط، الاندفاع الإنساني الأبدي في اتجاه المصير المحدد، رفعنا درجة الاستعداد الدرجة القصوى، وبدت السماء بصفاء يوليو منبعًا للهلاك، اضطرب قارب المطاط قليلًا، جنح إلى الشمال أمتارًا، ثم استقام في اتجاه الضفة الشرقية، وقفزت سمكة ضخمة من الماء مرات، اختفت، كقبضة صارمة بدت كتلة الدخان الناتجة عن انفجار دانة الهاون، انبطح مع رجاله الأربعة الذين صحبوه، قاموا، تقدموا، انفجرت دانات أخرى، تجمد الدخان في الفراغ، وسمعنا في الدشم والخنادق والملاجئ صوتًا عاليًا نفذ عبر الشظايا. - يا سعيد.. يا سعيد.. ينادي رجاله الجرحى، كيف يصدر هذا الصوت المرتفع القوى من القلعاوي، الهادئ، المستكين.. الذي لا يتحدث إلا همسًا، اختفى عن أبصارنا، لم نرد مصدر النداء، بدا قادمًا من الأرض والساتر الرملي، من عند خط السماء المطبق على الأرض. ما أدلى به أحد مقاتلي المجموعة السابعة.. لم نذكر اسمه لأن زملاءه وصفوه بأنه «مطلوب» أي أن العدو وضع اسمه في قائمة من يحاول الانتقام منهم». أنا عملت مع القلعاوي، أنا أحد الثلاثة الذين عاد بهم القلعاوي من لسان التمساح، خطوت معه فوق سيناء، رأيته طيفًا ليليًا، يخطو بلا حس يسمع، يصدر أوامره بصمت، يمشي الساعات الطوال فيخجل الواحد منا أن يصرخ بإرهاق، بتعب، يتحمل يتحمل حتى يثبت له أنه جدير بالقتال إلى جواره، أنا حاربت معه هو اختارني، اختارنا واحدًا، واحدًا، حاربنا معه إسرائيل، بعد فترة معه عرفنا عنه كل شيء.. عرفنا أن القلعاوي جاء إلى الدنيا ليقاتل، لم يتحدث الواحد منا إليه كثيرًا، لكن كل خروج معه يقربنا إليه مسافات ومسافات، أنا عبرت معه ستا وثمانين مرة، سلكنا معه الأصعب دائمًا، إذا اتجهنا إلى هدف معاد فإن ثمة ثلاثة أو أربعة طرق تؤدى إليه، نسلك نحن الطريق التاسع، قضينا معه الساعات الطوال فوق رمال سيناء، لم يتقيد بتوقيتات، كما يقولون أنه يندمج تمامًا في القتال، يصبح ميلاده مع بدء العملية، لا مجال معه لاستدعاء التفاصيل، لرقيق الصور، معه ينتفي الخوف والقلق، ألم بتفاصيل الأرض التي نمر فوقها، أثناء عبورنا الخليج، مياه البحر جزء من سواد الليل، ينظر إلى النجوم، إلى الماء، يطلب تغيير الاتجاه عدة درجات، يذهل الدليل بقدرته على اقتفاء الأثر، أطلق أسماء معينة على مناطق الصحراء المختلفة، توجد الآن كراسة في درج مكتبه- (لم يدخله إنسان منذ الجمعة 19 أكتوبر) حتى تليفونه المباشر لم يستعمله أحد، كثيرًا ما سمعناه يرن، أحدهم لم يعرف بعد في الأيام الأولى تكرر الرنين مرات، تمضي الأيام ويقل حتى يصبح نادرًا، لم يرد أحد، حتى هذا الرنين الذي بدد صمت فجر الثلاثاء الماضي، صحبه إصرار، أيقظ النيام منام، لم يرد أحد، وبدا صوته قادمًا من صمت الليل يذكر «بعبد الله القلعاوي»- في هذه الكراسة أسماء وعلامات أطلقها على الصخور والتلال، أسماء زعماء اقتطع صورهم من مجلات وألصقها فوق ورق أسود مقوى، أحمد عرابي، سعد زغلول، محمد، على باشا، إبراهيم باشا، أعرف أنه أطلق أسماء ولديه وامرأته وشهداء المجموعة على بعض مناطق سيناء، لو سألته عن شارع قصر النيل في وسط المدينة ربما أخطأ الرد، ربما لم يره إلا من نافذة سيارة، رأيت القلعاوي يطوف بأرض الطابور، كأنه يمشى على حافة إفريز مبنى ضخم، يمشى محاذيًا حديقة مزدحمة بالأطفال والنساء والرجال والصراع والمرح، كأنه يلامس أطراف موجات هذا صخبها عند الشاطئ، أنا رأيته ينظر إلى السماء الليلية عند أطراف معسكرنا بالصحراء الوسطى، أيستلهم ملامح خطة؟ أيفكر في تطوير زناد سلاح بحيث يصبح أسرع بمقدار جزء من الثانية، أيجهد نفسه ليفك أسرار وشوشات النجوم، سمعته يقول «للنجوم للرمال وشوشة..»، أعرف أنه نظم شعرًا، لكنني لم أقرأه، لو فتحوا أدراج مكتبه ربما عثروا على بعض قصائده، أحيانًا رأيته أكثر مما أرى نفسي، أحيانًا بعدت به المسافات عنى غير أنني منذ 19 أكتوبر يتيم، أمشي بساق واحدة وأحرك ذراعًا واحدة، ربما أستعيد ما فقدته لو طرقت الأرض نفسها، الدروب التي سلكتها معه فوق سيناء أقول.. من هنا مر القلعاوي غير أنني الآن أطرد الأسى عني فأقول لكل من ألقاه أو يلقاني. أنا عملت معه.. > ذكر بعض مشاهد متفرقة من حياة القلعاوي - مطعم بميدان الحسين، الموائد مصفوفة فوق الرصيف.. تغرق المباني في الظلال، عابرو الميدان يسرعون، أنها اللحظات التي تسبق مدفع الإفطار، مائدة حولها سبعة أشخاص يتصدرهم القلعاوي، ابتسامته هناء راضية، تعكس راحة وكأنه أمر خطير تحقق وكأنه سيقضى عمره مجاورًا للحسين. - يتأمل زعانف مطاطة تستخدم في الغطس. - السبت 6 أكتوبر، يدير قرص التليفون، «ماجدة.. مبروك.. الحرب قامت..». - أمام بائع كتب قديمة اعتاد فرش بضاعته على سور مستشفى الولادة وسط المدينة، في السماء غمامات بنفسجية، يقف البائع محييًا، يقول القلعاوي: «أهلًا عم كامل...». - على باب طائرة هليكوبتر، تطير على ارتفاع منخفض جدًا، تبدو بيوت المدينة، ومع ضوء النهار الواهن يلمح القلعاوي ظل الطائرة فوق الأسطح والطرقات، عند نقطة معينة فوق المباني تبدو على شفتيه نفس الابتسامة الموجزة الغامضة والتي قال البعض أنها نتيجة تفجر ذكريات معينة، بينما أكد آخرون أنها ثمرة خواطر عابرة ربما تضمنت مرحًا، وفى الشهور الأولى من زواجه حارت السيدة ماجدة في تفسيرها وسألته كثيرًا عما يفكر فيه، عندئذٍ تختفى تلك الابتسامة الدقيقة الموجزة، واعتادتها امرأته كإحدى ملامحه. > منتصف ليلة الثامن عشر من أكتوبر، يقف أمام «س»، بمركز العمليات. القلعاوي: هل يمكننى أن أوضح.. (س): الموقف كما أرى واضح. القلعاوي: لقد قلت مللاحظاتى، وبرغم هذا سأقوم بها. لم يسمع بقية الحوار تمامًا، كما أن المقاتل «د» الذي رأى القلعاوي بعد خروجه مباشرة يؤكد أن الشعور الذي خرج به إلى تلك العملية مخالف تمامًا لكافة العمليات التي قادها، قال «د» أنه لا يستطيع وصفًا لحالته بالضبط. لكنها تستدعى إليه حادثًا بعيدًا من طفولته، إذ حدث أن خرجت أسرته للسفر إلى بلدتهم، وعند القطار راح شقيقه الأصغر محمد يشد ثوب والدته إلى الوراء كأنه يود الرجوع إلى البيت، بمجرد وصولهم أصيب بمرض لا يدرى «د» حتى الآن طبيعته أو اسمه، ما يذكره أن شيخًا اسمه «أبو درية» جاء مرات ليضع على جبهة شقيقه أحجبة مثلثة صغيرة ويقرأ الكثير من التعاويذ، آخر صورة يذكرها لشقيقه رؤيته ملفوفًا في أغطية وثياب تخفى جسده، لا يبدو إلا رأسه وعيناه فيهما استسلام عجيب، سنوات طويلة تلت هذه الزيارة وأمه تقول: شعر محمد بما ينتظره، عرف أنه لن يعود، لو أننا رجعنا معه لعاش وبلغ الآن كذا من السنين، يثق «د» أن القلعاوي استشرف نتيجة عملية التاسع عشر من أكتوبر.. عندما استدعتهم السيدة ماجدة لتعرف من كل مقاتل في المجموعة السابعة تفاصيل الساعات واللحظات الأخيرة لزوجها ونوعية المشاعر التي ارتسمت على وجهه كاد «د» أن يقول لها ما يثق فيه، أن القلعاوي خرج وهو يعرف، بل موقن بما سيحدث أطرق «د» فكر في صعود القلعاوي تبة الرمل، لو تأخر خطوة واحدة لأخطأته الشظية، لو خطا إلى الأمام لما نفذت إليه، لو تبادل مكانه في المقدمة مع مقاتل آخر، لو تأخر التوقيت دقائق لو اهتزت فوهة المدفع لحظة خروج الدانة، لكن كما قال أحد الرجال أن هذه الشظية انتظرت اللحظة المناسبة بعد أربع وتسعين عملية عبور واستطلاع وقتال. - قرب الإسماعيلية.. يلمح رجلًا عجوزًا يسند ذقنه إلى عصاه وامرأة شابة وطفلًا ولحافًا مطبقًا وطشتًا به موقد غازى، قال عبدالمؤمن السائق.. لاجئون من القرى التي احتلها اليهود». قرض القلعاوي أظافره. - قبل خروجهم من القاهرة في نهاية طريق صلاح سالم، فوق مساحة خضراء شبان يرتدون ثيابًا كاكية، حولهم حقائبة جلدية بعضها مفتوح ومقعد مما يستخدم في الجلوس بالشرفات يدقون أوتادًا خشبية تمهيدًا لشد خيمة لم تفرد بعد، هل رأى بينهم فتاة ترتدى الزى الأصفر، فكر في ليلى، عندما تبلغ الرابعة عشرة.. الخامسة عشر، سيدعها تسافر بمفردها تكتشف مصر. - قبل تبة الرمل، يتقدم المقاتل «ك»، يقف بجوار القلعاوي - دعنى أتقدم إلى أعلى التبة. يلتفت إليه عارى الرأس لم يرتد خوذة طوال عمره أبدًا في كافة العمليات. - ارجع.. - سأتقدم أنا.. الموقف غير واضح. يقبض القلعاوي ماسورة الرشاش- اسمع.. أنا لم أصدر إليك طلبًا في صيغة الأمر أبدًا.. الآن أطلب منك أن تلزم مكانك.. نفذ الأمر. على مهل راح يتسلق التبة الرملية تتناثر ذرات رفيعة حول كعبيه.. ورقة من حلف الخدمة.. تحرر في 4/7/1973 البيان التالي بالإصابات الناتجة عن القتال. آثار طلق ناري بالساق اليمنى، التاريخ 5/1/1965، اليمن. شظايا بالرأس، التاريخ 7/6/1967 رمانة. شظايا بالساق التاريخ 19/4/1969، الطور. ذكر السيدة زوجته وبعض أحوالها. حدث في ليلة الجمعة 19 أكتوبر أن نزلت السيدة ماجدة الهوارى، عبرت فناء البيت تنظر إلى الأمام، خطواتها منتظمة، وقفت لحظة أمام مدخل البيت ورأت فتاة تحمل سلة يطلب منها مقدمة أربعة أرغفة فينو وتمسك علبة زيت خضراء اللون عليها رسم أسد، ورأت شابًا يمسك يد صديقته بقوة، ومرقت سيارة بداخلها خمسة أشخاص يرتدون ثيابًا بلدية، وعلى مهل خطت قطة سوداء فوق جسدها بقعة بيضاء كبيرة، ولاحظت أن عامود النور المواجه للبيت به فتحة قرب قاعدته السفلى تطل منها أسلاك كهرباء عارية، وفكرت أنه من الممكن أن تصعق هذه الأسلاك طفلًا أو رجلًا أو سيدة عمياء، وعندما توقف التاكسي فتحت الباب بدون أن تنحني ولو رآها أحد رجال المجموعة السابعة أو أحد زملاء القلعاوي في الكلية الحربية، أو الذين عملوا معه في الصاعقة، أو أحد الذين حاربوا معه في بورسعيد واليمن وسيناء، لرأى نفس الطريقة التي يقدم بها القلعاوي على ركوب سيارة، نظر السائق في المرآة المعلقة فوق، سأل إلى أين: قالت: «العباسية»، فعلا صوت المحرك، ولاحظت أضواء الشوارع الخافتة، وفوق الأرصفة وخلف النوافذ المغلقة وفي الشرفات المهجورة يطل عبد الله القلعاوي هادئًا على وجهه ابتسامته الآمنة كمنظر الورد تصغى إلى مذاق حبة الندى، «لا تبكِ»، حازم، باتت كطفلة لا يريدها أن تبكي، وهي لم تبكِ بل فكرت في لحظة خروج الألفاظ من شفتيها وهي تنهي الخبر إلى والدتها، تسألها عما يجب عمله مع الأولاد، فكرت، أنهما بدآ يوم أربعاء، واليوم جمعة، البداية لحظة زيارتها لأخته منذ أربعة عشر عامًا، دخوله الهادئ إلى شرايينها هدوء عينيه الذي لم يتغير عند خروجه إلى عمليته أو عودته من دورية، وعندما انحنى فوقها بعد لحظات من انجابها ليلى، الرؤية الأولى حوت كل شيء، ضمت التفاصيل التي تكشفت واحدة إثر الأخرى على امتداد أربع عشرة سنة، ليلى عمر العلاقة، ليلى الآن صديقتها وسندها وليست ابنتها فقط وهي من ستتطلع إلى عينيها إذا ما طرق باب البيت غريب، وهي من سترى في وقفتها وقفة عبد الله، تمامًا كوقوفه في الشرفة، أو أمام مدخل البيت ينتظر السيارة، ستحتضنها تدعوها إلى جوارها وتقول لها، إن أباك سيتأخر، سيتأخر، لو طلبت ليلى وسامح رؤية التليفزيون أو سماع الراديو أو إحدى أسطوانات عبد الله فلن تمانع، هكذا يريد، توشك أن تلفظ اسمه الآن، توشك أن تشم رائحته أثناء عودته طويل اللحية، يطلب قربة ماء ساخنة، في بدايات الليل بعد أن يغادرها تصغى إلى صوت هليكوبتر يعبر الليل والصمت والعمر، ترقب طمأنينة سامح وليلى، تخرج إلى الشرفة حتى في أيام الشتاء ونزول المطر، تتدثر بالمعطف، ترقب اكتمال الليل ثم شحوبه وبدايات الفجر، تكاد تتابع العملية بعد نصف ساعة سيخطو هناك، هذه هي المرة الخمسون، الواحدة والخمسون. لم يحك لها تفاصيل وقع خطواته هناك يتردد عبر ضلوعها الأربعة والعشرين، لا تذكر أنه قال لها «أحبك»، قبل زواجهما يستمر صمتهما لحظات، فجأة يقبض يدها كأنه جناح طائر غريب، تأمن وتستكين قال إن أيديهما حملت عبء التعبير عن عواطفهما زمنًا، نظرته إليها حلوة، هادئة، فياضة لا ترجفها دانات، لا تجرحها شظايا، بعد عودته يتمدد بكامل ثيابه الكاكية، تستعيده من جديد، رجوعه كالولادة، يبدو فرحًا كطفل، خلق شيئًا جديدًا، بعد رجوعه موفقًا تدركها نفس هزة البداية، قالت له إنها خافت ألا يستمر الوهج بعد زواجهما، أن يدركهما ملل، ابتسم، لا يعيش الملل والخطر، قال إنه أكثر جرأة على مواجهة الخطر بعد حياتهما تحت سقف واحد، تلملم أصابعه تستكين يده الليلية الضخمة، مع عودته تعيش سعادة دافقة، كان المفروض أن تحرم منه، أن يخرج لا ليعود، يرجع أو لا يرجع، السيدة ماجدة الهواري الآن لا تبكي، تثق أنه يرقبها من مكان خفي، يراها، يدرك رجفات قلبها، عليم بما سيحدث لها غدًا، يرى عمرها الآتي، الآن لن تبكي وسبل الاتصال بينهما مقطوعة، خلال الأيام المقبلة ستعبر هذا الطريق مرات، في نفس الاتجاه، في الاتجاه المقابل، لن يصحبها، لن تجلس إلى جواره بينما تطل ليلى وسامح من النافذتين الخلفيتين ستعبره ليلى يتيمة عندما تصير طالبة، هل ستمر الهليكوبتر في نفس الميعاد، لن تنتظر، تخشى لحظة تستيقظ فيها، يلمؤها يقين أنه يقف في الصالة، أنه أعد الشاي بنفسه، إذ تجلس إليه قد يبدي ملاحظة حول آخر لحظة حول بعض رجاله، إنهم ينتشرون حوله ولكنه في الظلام يبدو كرقائق المعدن المثبتة إلى أجهزة إلكترونية معقدة يتلقى ما يشعرون به أما هو فلا يبوح بآلامه قط، لا يزعج محبيه، عندما أصيب بشظايا في ساقه قرب مطار الطور، مشي فوق الصخور، عبر الخليج ضغط ألمه حتى وصل إلى معسكر الإقلاع، لم يقل آهة واحدة وضع يده بين أسنانه وراح يعضها يقتل الألم بالألم، أيام خطوبتهما بين الحين والحين يهاجمه صداع غريب تسبقه فترة من الوقت تغيم الرؤية دائمًا من عينيه حتى يصل إلى لحظة لا يرى ما يحيطه إلا بصعوبة عرفت فيما بعد ضرورة إعلاق العينين عندئذٍ، لكنه ظل مفتوح الحدقتين دائمًا، ينفي علامات الضيق من ملامحه، يستدير ليتناول قرصًا أصفر، سألته، قال أنه صداع لكن أي صداع؟ تتراجع البيوت بسرعة، عندما يتأخر أو يقضي ليلته في المقر تتصل به حوالي الثالثة صباحًا، ربما تبادلا كلمة أو كلمتين، أما الآن فلو أدارت الرقم في نفس الميعاد الليلي المتأخر، من يرد، من يجاوبها، من، من؟ ستلتقى بكل من رافقه، تستجوبهم بدقة، تعيش من خلالهم لحظاته الأخيرة، آهته الأخيرة هل لفظها أم كتمها؟ عندما تسألها أمها ستقول كما قال عبد المؤمن «مات ميتة نتمناها كلنا، جاءت الشظية في موضع القلب تمامًا»، ندما تستفسر أمها عن الجثمان ستقول «رجالته جابوه» إذا نظرات أمها إلى عينيها الجافتين، إلى نظراتها الحادة المستقيمة ستقول إن عبد الله علم كل من يعمل معه أنه لا حدود لقدرة الإنسان لما يمكن أن يقدمه، أن يحتمله، حتى الآلام الوعرة يمكن قهرها، شظايا في الساق كانت أو في صميم القلب لهذا لن تبكي قط، لن تدمع أبدًا.
>هامش أخير: أجمع عدد كبير من مقاتلي المجموعة أن القلعاوي كان يخرج في كل عملية وهو يعلم احتمالات موته، لكنه في العملية الأخيرة بدا موقنًا من النتيجة، من الموت، هكذا تقول كل الدلائل. لهذا تم التوجه بسؤال إلى «ك. ي» رئيس العمليات وأقرب الخلق إليه مع احترام رغبته في عدم الإدلاء بأي تفاصيل، فقط يجيب بالنفي أو الإيجاب «كيف بدأ القلعاوي في تلك اللحظات التي واجه فيها «ك. ي» وطلب منه بصيغة الأمر لأول مرة منذ عملا معًا أن يلزم مكانه. ولكن «ك. ي» عندما وجه إليه السؤال بدا حزينًا كأنه تقدم في السن أعوامًا عن اللقاء السابق الذي تم معه منذ أسبوعين، لم يتكلم كثيرًا، لم يبدو ساخطًا، لكنه رفض الحديث رفضًا باتًا.
عدد صباح الخير 978 أكتوبر 1973



