ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، بعد فرار الأسد، وإعلان الكرملين منحه اللجوء الإنساني في روسيا، وسقوط نظامه بسرعة مذهلة، السؤال الذي يطرح نفسه في المنطقة من الرابح ومن الخاسر من السقوط المدوي لنظام الأسد؟
ليس من قبيل المصادفة أن يبدأ هجوم هيئة تحرير الشام المسلحة على سورية في اليوم التالي لوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وخروج حزب الله من الأراضي السورية وتجميد دعمه لنظام الأسد، وبالتالي يعد الحزب أول الخاسرين من سقوط دمشق في أيدي المعارضة المسلحة السنية التي كان يطاردها طوال أكثر من عشر سنوات في مختلف أنحاء الأراضي السورية.
ثم تأتي طهران بعد حزب الله مباشرة في طابور الخاسرين باعتبارها الداعم الأول للحزب بشكل خاص ومحور المقاومة بشكل عام، وكانت الساحة السورية هي قناة رئيسية للدعم العسكري واللوجيستي، لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي بطريقة غير مباشرة.
وتأتي موسكو في الترتيب الثالث من حيث الخسارة، لأنها بسقوط الأسد، سوف تفقد قواعدها العسكرية والاستراتيجية على الطرف الجنوبي من البحر المتوسط؛ لكن هناك تسريبات بأن اتفاقًا سرياً عُقِد في باريس قبيل سقوط الأسد بين مسؤولين روس وأوكرانيين برعاية «فرنسية - أميركية» جرى خلاله الاتفاق على وقف الدعم الروسي للأسد مع ضمانات لحماية قواعده هناك مقابل وقف الحرب في أوكرانيا ومنح الروس بعض المقاطعات التي تسيطر عليها، وتعهد بعدم انضمام أوكرانيا لحلف «ناتو».
أما بالنسبة للعرب، فإن أصداء السقوط السريع لواحد من أهم أركان النظام العربي بسهولة وتسلُّم تيار ديني متشدد مدعوم من تركيا وإسرائيل للسلطة في البلاد، شكَّل صدمة لأغلب العواصم العربية حتى لتلك التي كانت معادية للنظام نفسه. فالقادمون الجدد للسلطة في دمشق أقرب إلى جماعة الإخوان المسلمين المرفوضة والمحظورة في أغلب الدول العربية، وإذا كانت الجماعة سقطت في اختبار الحكم بمصر بدعم من دول الخليج النفطية وبعض الدول الأوروبية والولايات المتحدة نفسها خلال فترة حكم ترامب الأولى، فهي الآن تعود مجدداً، بدعم من الثالوث التركي الأميركي الإسرائيلي!
لكن على ما يبدو أن ولاية ترامب الثانية المقرر أن تبدأ في 20 يناير من العام المقبل، غيرت من استراتيجيتها، واختارت التحالف مع نظام سني ناشئ في دمشق لكسح المد الإيراني الشيعي ليس فقط في سورية بل في المنطقة العربية كلها، على أساس قاعدة (لا يفل الحديد إلا الحديد) لإدراك واشنطن وتل أبيب مدى العداء والثأر القائم بين نظام دمشق المرتقب والنظام الإيراني الذي دعم نظام بشار بكل الوسائل على مدى العقدين الماضيين.
وقد تجلى النفاق الغربي بوضوح في تحول البوصلة الأميركية والدولية فيما يتعلق بالأوضاع في سورية ما بعد هروب الأسد، وكما سبق ولعبت شبكة «سي إن إن» الإخبارية الأميركية دورًا مهمًا في تهيئة الأجواء لسقوط نظام صدام حسين في العراق واحتلال بغداد 2003، قامت بالدور نفسه مرة أخرى بإجراء أول لقاء تليفزيوني مباشر مع أحمد الشرع، أو أبو محمد الجولاني الذي كان نائب زعيم داعش سابقًا، وقد رصدت وكالة المخابرات المركزية الأميركية مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار لمن يأتي برأسه، لكن المفارقة أن هذه الوكالة، هي التي مولته وجهزته وقدمت له الدعم الجوي اللازم، حتى تمكن من دخول دمشق بسرعة البرق وسط دهشة السوريين والعرب!
لا شك أن الذهول الذي عمَّ العواصم العربية، ليس نابعًا من سقوط نظام الأسد السريع فقط؛ بل من التحولات الأميركية والغربية في التعامل مع الأوضاع في سورية ما بعد الأسد، وتتضاعف دهشة المراقبين العرب في ضوء حملة التسويق الأوروبية للقائد السوري الجديد أحمد الشرع، فقد روجت وسائل إعلامية أميركية وبريطانية لقرار رفع هيئة تحرير الشام وزعيمها من قوائم الإرهاب!
فيما يتعلق بقائمة الرابحين من اختفاء نظام الأسد، ربما تأتي تل أبيب على رأس القائمة، باعتبار أن النظام السابق بتحالفه مع طهران حول سورية إلى قناة آمنة لوصول السلاح والدعم المستمر من طهران إلى المقاومة، وكان هذا واضحًا في خطاب رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو قبل يوم واحد من بدء محاكمته داخليًا بتهم الفساد، حيث اعتبر سقوط الأسد وقصف العديد من مخازن أسلحة الجيش، وتجميد اتفاق «فض الاشتباك» للعام 1974 مع سورية، واحتلال قسم كبير من الأرض السورية في جبل الشيخ والقنيطرة أبرز إنجازاته، إلى جانب إضعاف حزب الله واغتيال أغلب قادته.
أما تركيا، فتأتي في المرتبة الثانية على قائمة الرابحين من زوال الأسد، فقد حققت أكثر مما كان يتوقعه أحد، لأن هيئة تحرير الشام أو حكام دمشق الجدد يدينون بالولاء الكامل للدعم التركي على مدى أكثر من عشر سنوات، كما أنه بذلك ضمن استنساخ نظام حكم جديد يكون فيه الدور الأكبر لجماعة الإخوان المسلمين الذي يدعمها أردوغان، وربما ينتمي هو وحزبه إلى أفكارها، إلى جانب محاصرة أكراد سورية وإحباط أي تهديد أو تحالف محتمل بينهم وبين أكراد الداخل الذين يشكلون أكبر تهديد لأمن تركيا القومي.
وتأتي الولايات المتحدة والغرب عموماً في قائمة الرابحين أيضًا من اختفاء بشار الأسد ونظام حكمه، لأنهم بذلك ضمنوا حصار الوجود الروسي الرابط في جنوب المتوسط، وأضعفوا إيران، وخفضوا أي تهديد من التيارات العراقية الشيعية، وتقليل الخطر المحتمل لربيبتهم إسرائيل من خارج الأرض المحتلة، فضلاً عن تجربة تحالف جديد من التيارات الإسلامية المتشددة عندما تصل إلى حكم دولة مهمة ومعقدة مثل سورية، إلى جانب فتح صفحة مختلفة لسلام من نوع جديد بين المحتل الإسرائيلي والإسلاميين.
وفي إطار رصد المستفيدين من سقوط الأسد، تأتي جماعة الإخوان المسلمين من بين التيارات التي جاءها هذا السقوط على طبق من فضة، ويتجلى ذلك بوضوح من ردود فعل أتباعها وأذرعهم الإعلامية، فقد تلقوا خبر هروب بشار بفرحة غامرة، وبدأوا في تنفس الصعداء بعد سنوات من الحصار والتشرد، فبدأت تلوح في الأفق أول دولة يكون لهم دور رئيسي في وضع دستورها، وأن يكونوا شركاء رئيسيين في إدارة شؤونها، فهل يتعلمون من دروس الماضي أم يرتكبون الحماقات نفسها التي سبق ووقعوا فيها مثل تجاربهم المريرة في مصر وتونس مرورًا بليبيا والسودان والمغرب؟



