الأحد 21 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أحمد إمبابي

"إخواتي"..دراما حمالة أوجه بإبداع استثنائي

بوابة روز اليوسف

يوحي تتر البداية للعمل الدرامي الأنجح "إخواتي" الذي عرض خلال النصف الأول من الشهر الكريم أننا أمام عمل استثنائي لا يشبه نظيره من الأعمال الدرامية التي عرضت خلال نفس الفترة؛ لا يكشف التتر كما هو معتاد غالبا بالأعمال الدرامية عن المحتوى المنتظر رؤيته خلال أحداث المسلسل؛ تتر مبهم مجرد عرض سريع لمجموعة من الصور المتتالية لجدران تشققت بفعل السنين.. بهتت وذبل لونها وضاع بهاؤها؛ وكأنها مجموعة صور من بيوت هجرها سكانها؛ بينما احتفظت هذه الجدران برغم كل هذا الذبول بحالة من الدفء والغموض نوع من الجمال الخاص اللافت؛ تتر مثير للفضول بتصميمه وموسيقاه الموحية بالإثارة والترقب لما سوف نراه ونشاهده من أحداث غير متوقعة ودراما باعثة على الدهشة؛ قد يبدو العمل أقرب للفانتازيا منه إلى دراما اجتماعية تقليدية؛ في الواقع هو عمل درامي يضعك تحت كل الاحتمالات يحمل قدرا من الفانتازيا والكوميديا؛ وقدرا آخرا من العلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة في أشكال ممارسة الحب بين الاخوات وبين الأزواج.

 

يبدأ الحدث الرئيسي في الحلقة الأولى من الالتفاف حول الأخت الصغرى "نجلا" التي تعاني معاناة شديدة في علاقاتها الزوجية مع رجل مريض يحاول فرض سيطرته وسطوته عليها مرة بالاعتداء بالضرب ومرة بمنعها من الزيارة والاجتماع بأخواتها لأنه يرى أنها لا تشبههن فهي الأكثر نقاء وبراءة منهن جميعا؛ يسعى دائما لحمايتها من الاختلاط بهن؛ وفي يوم الاجتماع معهن لتناول وجبة الغداء نرى حالة من النفور والكراهية بين هؤلاء الإخوة وهذا الرجل ثم نرى العلاقات الثنائية الأخرى قصة حب "فرحات" و"ناهد".. و"هشام" و"سهى"؛ تنقلب الأحداث ويموت زوج نجلا لتبدأ مفارقات عبثية حول ملابسات موته أولهم وضعه في الثلاجة حتى يجدن حلا في إخراج تصريح الدفن دون التعرض للمساءلة القانونية. 

 

 

 

 

 

 "إخواتي" دراما إنسانية تحرر فيها المؤلف مهاب طارق والمخرج محمد شاكر خضير من الدراما المثالية في رسم شخصية البطل الذي يسعى دائما للكشف عن الحقيقة والانتصار للخير على الشر؛ ليس هناك بطل أوحد بل جميعهم أبطالا؛ أو العمل نفسه هو البطل؛ ثم التعامل مع المرأة كحالة شعورية وليس كمادة لقضية تحتاج إلى المرافعة والدفاع؛ كل منهن تمتلك نوعا من الضعف الأنثوي الداخلي تجاه شيء ما تسعى لتحقيقه؛ "ناهد".. تحلم بأن تكون أم حتى ولو بالتبني؛ و"أحلام".. تسعى لتحسين مستوى معيشتها ومعيشة أبنائها وتستغل الأموال التي حصلت عليها عن طريق الصدفة لوضعهم في بيئة اجتماعية أرقى وأفضل من بيئتها؛ "سهى".. غير راضية عن جمالها الخارجي وترى في عمليات التجميل المنقذ في استعادة ثقتها بنفسها تسعى بكل جهدها لتحصيل الأموال التي تعينها على عملية تكبير الثدي.. و"نجلا" تائهة تتوحد مع أحلامها التي تنقلب إلى واقع تعيشه في ارتباك شديد؛ هذه الحالات الشعورية لنساء جمعهن الحلم ورابط الأخوة والحب؛ بينهن سر خفي يجعلهن دائما في حالة من الترابط والتلاحم مهما اختلفن معا وتشاجرن ووصلت بهن الأمور إلى الحافة؛ يشعرن دائما بحالة من الانتماء لبعضهن البعض ربما يشكل هنا الانتماء حجر الأساس الذي بني عليه المسلسل بالكامل؛ بالرغم من تمصيره أو اقتباس قصته الأساسية من المسلسل الأيرلندي"bad sisters".

 

 

 

 

إلا أن مهاب طارق استطاع أن يجعل منه عملا دراميا منتميا للبيئة المصرية الشعبية بامتياز؛ بدءا من الأغاني المستخدمة في مشاهد متفرقة لأكثر من مطرب قديم وحديث ووصف المطربة "شيرين" دائما بأنها "صوت مصر" وكأنها إحالة إلى العمل نفسه بأنه أيضا صوت مصر؛ وانتماء نجلا لأحد فرق الرقص الشعبي؛ نهاية بالطبقة الشعبية المنتمي إليها الأبطال سواء الأخوات البنات وأزواجهن؛ طبيعتهن الشخصية.. أسلوب الكلام.. الطريقة الفوضوية الأقرب إلى "الفهلوة" في حل الأزمات والخروج من الورطة  ثم البيوت القديمة وألوان الأثاث واللوحات المعلقة على جدران منازلهم والإضاءة الخافتة الموحية بحالة الدفء التي جمعت هذه المساكن القديمة؛ كل هذه العناصر اختلطت بشخصيات أبطالها لتنتج عملا ينتمي إلى البيئة المصرية بكل جماليتها وتعقيداتها.

 

 

كتبت شخصيات العمل بقدر كبير من التعقيد مع مراعاة الضعف الإنساني الذي يدفعنا إلى ارتكاب الأخطاء؛ جاءت الأخطاء لتجمع بينهن وتزيد اتحادهن؛ كان أكبر تلك الأخطاء وأبشعها ارتكاب فعل القتل؛ التخلص من زوج الأخت المسيء؛ ليس القتل هنا المقصود كفعل إجرامي يستحق العقاب ولكنه نوع من الرمز في التعبير عن الترابط والوحدة في مواجهة أي خطر خارجي محتمل من الآخر؛ هذه الأخت الأكثر تفضيلا لأنها الصغرى هناك نوع من الشعور بالمسؤولية والحماية نحوها.. وبالتالي يسعين لتجميد وإيقاف حركته عن الحياة أمامها بوضعه في ثلاجة المنزل وكأنه طعام مهمل تم تجميده لحين النظر في أمر إلقاؤه بالقمامة حمل هذا الحدث أكثر من رمز ومعنى بشيء من الفانتازيا في مضمونه منذ فكرة وضعه بالثلاجة إلى رمزية تعامل الزوجة مع زوجها المتوفي الذي تتعايش مع وجوده متجمدا بين الأطعمة التي تأكلها مطمئنة وتحدثه أحيانا معاتبة على ما آل إليه وضعهما؛ ثم نهاية الحلقة الأخيرة والتي تؤكد على فكرة شعورهن الدائم بالمسؤولية  تجاه "نجلا" عندما اتشحن بالسواد أمام تحقيق أمنيتها بالزواج من حبيبها القديم؛ يظهرن في وضع التهديد له إذا أساء سيعيدن عليه تحقيق الحلم القديم..وكأن الحدث الرئيسي يتكرر من جديد!!؛ وكذلك شخصيات الأزواج فرحات الذي يبرر لنفسه السرقة وبيع جثث الموتى لتحسين حالته المادية كما أنه لا يكف عن إدمانه للحشيش؛ ربما الشخصية الوحيدة الأكثر مثالية بالعمل شخصية هشام الزوج المحب المخلص؛ مخلص في حبه لأجداده المصريون القدماء الذي يشعر بانتمائه الكبير لهم ومخلص لزوجته التي يغفر لها أي شيء ويعينها على أي شيء نظير سعادتها؛ وعابدين الزوج الساذج العاشق الذي يستغل لعبة القدر للزواج "أحلام" رغما عنها؛ هذه الثنائيات المتشابكة والشخصيات التي تحمل الكثير من الأوجه في داخلها صنعت عملا دراميا ثريا على عدة مستويات؛ حمل هذا العمل أنماطا من البشر المتباينة جمعهم في النهاية الشعور بالانتماء لبعضهم البعض والحب الذي لا يتبدل رغم الأخطاء التي تورط أو وقع فيها كل منهم نتيجة خطأ أو أو بفعل القدر.

 

 

 

 

 

 

 

تأتي ثنائية "ناهد" و"فرحات" على رأس هذه الثنائيات كندة علوش وحاتم صلاح؛ بالإضافة إلى البهجة وحالة الكوميديا السلسة التي صنعت بينهما من شدة التلاحم والكيمياء التي جمعت الزوجين كان حاتم وكندة شديدي الوعي بالأبعاد الداخلية النفسية المعقدة لكليهما؛ لم يقدم حاتم صلاح مجرد شخصية كوميدية باعتباره كوميديان يمتلك هذه المهارة؛ بينما جاءت السخرية من شعور هذا الرجل الدائم بالمرارة وسعيه للغياب عن الوعي حتى يتجاوز أزمات حياته أولها عمله "تربي" ثم التجارة في جثث الموتى ورغبته في اسعاد زوجته بمحاولات السرقة الفاشلة؛ يوحي فرحات دائما برجل يعاني من ضيق الحال والإحساس بالدونية دائم الشعور بالذنب الممزوج بالسخرية والمرارة؛ ذنب لما يرتكبه من أخطاء في حياته والمرارة لفشله الدائم في تحقيق حلمه بالثراء من وراء هذه الأخطاء المتكررة ثم فشله أمام زوجته وتحقيرها الدائم من شأنه بسبب كل ما سبق؛ وكذلك كندة علوش كانت شديدة الوعي بهذه الزوجة المحتقرة لزوجها التي تحب حبه لها كما تحب محاولاته الفاشلة لإرضائها رغم كراهيتها لأفعاله وتهوره لا تستطيع الاستغناء عنه وعن احتوائه الدائم.. كل هذه المشاعر الداخلية الكامنة بين هذين الزوجين كانت دائمة الحضور في أداء حاتم صلاح الواعي الذي ينبأ بممثل مكتمل النضج والموهبة؛ وكذلك كندة علوش التي استطاعت بمهارة كبيرة تقديم دور المرأة الشعبية بحركة جسدها وتسريحة الشعر وحركة التواء الفك أثناء مضغ "اللبان" وكذلك حزنها لضياع حلم الأمومة؛ كما كان لظهور ومشاركة الفنان محمد ممدوح في دور "عابدين" بصمة فارقة على العمل في حلقاته الأولى جاء ممدوح بهذه الموهبة الراسخة ليترك أثرا كبيرا في نفس المشاهدين و"أحلام" التي تركها ليلة الزفاف بعد أن تزوجته رغما عنها؛ قدم ممدوح شخصية عابدين الموظف التقليدي الساذج العاشق لامرأة ترفضه على الدوام ثم يبتسم له الحظ ويشاء القدر أن يتزوجها لكن الزيجة لم تكتمل ليتدخل القدر أيضا ويتوفى الرجل ليلة الزفاف هذه المفارقات في ألعاب القدر يغزل بها المؤلف الحكاية لتثري العمل على مستوى المعنى والمضمون بسوء حظ هذه السيدة مع الرجال؛ وكذلك يثريه محمد ممدوح بأدائه البديع لشخصية عابدين؛ ثم علي صبحي في دور هشام هنا نرى علي في ثوب آخر بعد نجاحه الكبير في "تحت الوصاية" يرتدي ثياب الرجل المصري المحب لأجداده المصريين القدماء والمخلص لهم ولزوجته وهو الشخصية الأكثر اتساقا والأقرب إلى السواء قدمها علي بسلاسة واحتراف كبير باستسلامه الدائم في ضعف وانكسار أمام حبه لعمله وزوجته وزن صبحي انفعاله وأداؤه بميزان حساس؛ كما أضافت الكوميديا الهادئة التي لعبتها نيللي كريم إيقاع آخر من البهجة على شخصية "سهى" المضطربة نفسيا التي تعاني من أزمة ثقة بالنفس تحاول دائما اخفائها وراء ردود فعلها العنيفة الغاضبة التي تصل إلى حد التطاول؛ وجيهان الشماشرجي التي تقدم مفاجأة بأدائها السلس الممتع هذا العام مبشرة بميلاد "فيديت" لا تعتمد فقط على جمالها الخارجي بينما تبذل جهدا واضحا في أداء الشخصية بكامل أبعادها النفسية بمشاركة مميزة مع بسنت أبو باشا وعلي قاسم صراع جديد أضيف للشخصية وأضاف المزيد على الأحداث؛ كما كان لأحمد حاتم حضورا مميزا سواء بأداء شخصية هذا الزوج الكريه أو أداؤه لدور الميت على مدار أكثر من حلقة؛ كذلك أبدعت روبي بأدائها المتناغم لدور "أحلام" بين الشعور بالفخر والاعتزاز لتحملها دور الأب والأم في حياة أبنائها ونبرة التسول التي غلفت هذا الشعور أثناء حديثها عن حياتها لكل عابر؛ عمل فني ثري بصريا ودراميا يحمل استثناء في احتوائه على أنواع وأشكال من الدراما.. قد تعتبره عملا كوميديا يحمل شيئا من الفانتازيا أو عملا ينتصر للمرأة بعذوبة شديدة على غرار سينما ألمودوفار بحساسيته الشعورية تجاه المرأة فالسيدات هن أصحاب اليد العليا في الفعل الدرامي؛ أو دراما اجتماعية تنتصر للفقراء تستعرض الضعف الإنساني تجاه شهوة المال والرغبة في الثراء السريع في مجتمع استهلاكي تحكمه الرأسمالية ومن ثم انهيار صورة وقيم الطبقة الشعبية وهو ما يوحي به تتر البداية جدران بالية هجرها سكانها؛ هكذا قدم لنا شاكر خضير ومهاب طارق دراما حمالة أوجه بإبداع استثنائي.  

تم نسخ الرابط